طيلة سنتين حاول النظام الجزائري السيطرة على الحراك الشعبي واحتوائه، إلا أنه فشل في ذلك، فالمظاهرة الحاشدة تجددت في الذكرى الثانية لانطلاق الحراك رغم الوضع الصحي الذي تمر به البلاد على غرار باقي دول العالم.
فشل في احتواء الحراك رغم اتباع العديد من الأساليب التي راوحت بين الحوار والتهديد والقمع الأمني والاعتقالات، ما جعل نظام عبد المجيد تبون يستدعي العشرية السوداء والفوضى الأمنية التي عاشتها البلاد في التسعينيات للضغط أكثر على الحراك، فهل يتمكن النظام من تحقيق أهدافه؟
تجدد المظاهرات
نجحت التعبئة على مواقع التواصل الاجتماعي في إخراج آلاف الجزائريين في الجمعة الأولى للحراك في هذه السنة، إلى الشوارع بكبرى محافظات البلاد، وفي مقدمتها الجزائر العاصمة، حيث استعادت زخمها الجماهيري رغم تواصل انتشار وباء كورونا.
بعد عام على توقف المظاهرات جراء تدابير احتواء فيروس كورونا، خرج آلاف الجزائريين في مدن وقرى عدة بالبلاد، في خطوة تؤذن بعودة المسيرات الأسبوعية المناهضة للنظام، وكان الحراك قد اضطر إلى تعليق مظاهراته الأسبوعية في مارس/آذار 2020 بسبب انتشار فيروس كورونا.
في هذه الجمعة 106 بتاريخ الحراك، عاد الجزائريون للاحتجاج في ساحة البريد المركزي التي عرفت بكونها معقل تجمع الحراكيين، رغم انتشار الشرطة بكثافة هناك وغلق أغلب الطرق المؤدية إليها لمنع حركة المحتجين.
تجدد الحراك، يؤكد فشل النظام في احتوائه، رغم محاولاته العديدة والأساليب الكثيرة التي اعتمدها لذلك
وفقًا لشهود عيان، فقد خرجت المظاهرات أمس في 22 محافظة على الأقل، في حين جرى قمع محاولات التجمّع من طرف قوات الأمن في قرابة 19 محافظة، وتعرض المحتجون في العديد من المدن إلى اعتقالات، على غرار ما حصل في وهران وتيارت وعين تموشنت وتلمسان والبليدة وتبسة وورقلة وواد سوف.
في هذه المظاهرات، دوت مجددًا الشعارات المعهودة للحراك الشعبي المطالبة بالتغيير الجذري للنظام والرافضة لنتائج المسار الانتخابي لرئاسيات 12 من ديسمبر/كانون الأول 2019، ومحاكمة الفاسدين وبناء الدولة المدنية واستبعاد العسكر من العمل السياسي “مدنية وليس عسكرية” و”يتنحّاو قاع”، كما شدّدوا على سلمية مظاهراتهم.
يذكر أن المظاهرات تجددت يوم 16 من فبراير/شباط الحاليّ في مدينة خراطة (شرقي الجزائر)، حيث خرج الآلاف للشوارع إحياءً للذكرى الثانية من الاحتجاجات الشعبية التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ورفع المحتجون حينها لافتات كتب عليها “من أجل استقلال الجزائر” و”الجنرالات في سلة المهملات” و”الرئيس تبون مزور غير جابوه العسكر” وغيرها من الشعارات التي رفعت قبل سنة وسنتين لكن لم يتحقق منها شيء.
فشل النظام في احتواء الحراك
تجدد الحراك، يؤكد فشل النظام في احتوائه، رغم محاولاته العديدة والأساليب الكثيرة التي اعتمدها لذلك، منها القبضة الأمنية وسياسة القمع المتبعة ضد الحراكيين، حيث تم اعتقال الآلاف من المحتجين في أوقات متفرقة منذ بداية الحراك قبل سنتين.
إضافة إلى اعتقال المحتجين والتضييق عليهم وترهيبهم وتفعيل السطوة الأمنية، عمد النظام الجزائري أيضًا إلى التضييق على الصحفيين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة إنارة الرأي العام الوطني والدولي إزاء ما يحدث في البلاد، بالاعتماد على مقص الرقابة كما كان عليه في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة واعتقال الصحفيين والحرمان من الإشهار وحجب المواقع.
حتى تخويف الناس بالوباء وحثّهم على البقاء في المنازل لتجنب العدوى، لم يثن الجزائريين عن العودة إلى الشوارع بعد سنتين من انطلاق حراكهم الذي أجبر الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة بعد عقدين من الحكم.
استدعاء العشرية السوداء
هذا الفشل في احتواء الحراك، دفع النظام الجزائري إلى استدعاء العشرية السوداء التي ما زالت آثارها ماثلة لدى الجزائريين، رغم جهود المصالحة السياسية والقانونية التي بذلت لمعالجة كل الآثار المترتبة على دوامة العنف والإرهاب وسنوات الدم التي شهدتها البلاد بعد يناير/كانون الثاني 1992، حتى إقرار قانون الوئام المدني في نهاية سنة 1999، وتلاه قانون المصالحة الوطنية عام 2005.
يقول حمزة خروبي، النقابي والناشط السياسي الجزائري في حديث لنون بوست: “السلطة سارعت كعادتها من خلال قنواتها الرسمية لبث الإشاعات وتشويه صورة الحراك ووصفه بأوصاف أقل ما يقال عنها إنها مفبركة مشينة تدل على نظرة أمنية بوليسية”.
الهدف من ذلك، وفق خروبي “محاولة تشتيت رأي الجزائريين وتغيير نظرتهم للمسيرات السلمية على أنها تدعو إلى العنف وإسقاط الدولة وترفع شعارات مشابهة لما كان عليه الحال سنوات التسعينيات”، و”نظرًا لطبيعة السلطة فإن هذه الأمور ليست جديدة على نظام ذي طبيعة أمنية بوليسية يستثمر في مآسي العشرية السوداء التي كان سببها الانقلاب على شرعية الشعب وتوقيف المسار الانتخابي الذي فاز به التيار الإسلامي آنذاك”.
يضيف محدثنا “النظام الجزائري الحاليّ هو نفسه منذ ستينيات القرن الماضي، نظام يعتمد على عسكرة الدولة وحكم الفرد الواحد والجماعة الواحدة ولا يقبل أبدًا بالمشاركة الحقيقية للشعب في الحكم لهذا فإنه يسعى دائمًا إلى تسويد الصورة السياسية لكل فعل يطالب بتغيره وزواله، نظام يسعى دائمًا إلى القضاء على كل معارضة سياسية حقيقية من أجل أن يبقى في سدة الحكم”.
تحقق بعض مطالب الحراك لكن نفس النظام ما زال ماسكًا بزمام الحكم، ما جدد المظاهرات وزاد من قوتها
بدوره يقول عبد الله كمال الناشط في الحراك الجزائري: “استدعاء العشرية السوداء في الإعلام التابع للنظام، دليل على أن النظام السياسي فقد صوابه وشروط استمراره، ففترة العشرية السوداء تركت في نفوس الجزائريين جرحًا أليمًا وذاكرةً مليئةً بالأحزان والدموع والدماء لسقوط مئتي ألف قتيل خلالها”.
يضيف كامل لنون بوست “استدعاء العشرية السوداء في هذا الظرف بالذات هو تخويف للجماهير من مغبة التغيير وإعادة إحياء لأحقاد الماضي بين التيارات السياسية قصد شحنها ضد بعضها البعض، واتهام للحراك زورًا بأنه حراك يقوده التيار الإسلامي لإرعاب الجماهير وإيصال رسائل تحذيرية للخارج من خطورة التغيير”.
ويخشى محدثنا أن تكون هذه الأكاذيب الإعلامية بداية لتغيير تعامل السلطة مع الحراك أو قمعه والتعامل معه كمن يتعامل مع منظمة إرهابية، رغم تمسك الحراك الشعبي الشديد بالسلمية المطلقة وبالمطالب الشرعية المعقولة.
إلى جانب ذلك، يقول الناشط السياسي سمير بالعربي لنون بوست: “النظام يحاول تشويه صورة الحراك من خلال الادعاءات أن هناك بعض الشعارات في الشارع تعيد إلى الأذهان العشرية السوداء، محاولًا ضرب وحدة وسلمية الحراك”.
الحراك ماضٍ في مطالبه
يقول سمير بالعربي، إن الحراك ما زال مقتنعًا أن انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2019 هي إعادة استمرار لنفس نظام بوتفليقة، وأن النظام لا يريد أن يعطي فرصة للشعب لأجل تغيير حقيقي وبناء دولة مؤسسات تعيد الحكم للشعب وتحقق دولة المواطنة والقانون والرفاهية.
يضيف بالعربي “بعد سنتين من انطلاق الحراك، عاد الجزائريون للشارع للتأكيد على مطلب رحيل النظام وكل رموزه لأنهم مقتنعون أن النظام فشل في تسيير البلد منذ الاستقلال وفشل في تسيير المرحلة منذ استقالة عبد العزيز بوتفليقة، فالشعب ما زال مصرًا على ذهاب رموز النظام والبدء في مرحلة تسيرها شخصيات مستقلة”.
بدوره يقول حمزة خروبي “بعد أشهر من التوقف لاحظ الجزائريون أن النظام استغل غياب الضغط الشعبي لتجديد نفسه والمضي في استكمال خريطته السياسية التي نرفضها جملةً وتفصيلًا، حتى إنه عيّن مؤخرًا أحد رموز نظام بوتفليقة لرئاسة مجلس الأمة، كما جاء بوزراء بوتفليقة ومستشاريه المقربين إلى الطاقم الحكومي”.
ويؤكد خروبي في حديثه لنون بوست، أن “طاقم الحكم الحاليّ دون شرعية شعبية لذلك نفس المطالب الشعبية ما زالت تُرفع من قبيل “يتنحاو قاع” و”مدنية ماشي عسكرية” و”عدالة حرة مستقلة”، والهدف منها تغيير النظام السياسي القائم واستعادة حكم الشعب وبناء دولة المؤسسات والعدل والقانون”.
خرج الجزائريون في فبراير/شباط 2019، رفضًا للعهدة الخامسة وسعيًا وراء استقالة بوتفليقة من الحكم وإبعاد أتباعه من المشهد ومحاسبة الفاسدين، تحقّق بعض ذلك لكن نفس النظام ما زال ماسكًا بزمام الحكم ما جدّد المظاهرات وزاد من قوتها.