رغم الضجة الدولية التي ترتبت على رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لقاء رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف في الكرملين قبل أسبوعين، وما تبع ذلك من غضب كاسح لطهران بسبب خصوصية الزيارة التي لم تكن عادية بالمرة، بل كانت تحمل رسالة إلى بوتين من المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، فإن استخدام حساب وزارة الخارجية الروسية باللغة العربية وصف الخليج العربي وليس الفارسي، أعاد إشعال ضجة دولية في اتجاه مواز.
نسيت إيران صدمة الموقف الروسي الذي أثار جدلًا واسعًا في جميع أنحاء إيران والعالم، الذي يشكك في كفاءة قاليباف وقدرته على نسج علاقات دولية أكثر ثقة مع أحد أهم حلفاء إيران في العالم، كما نسيت الإهانة التي وجهت إلى محمد باقر قاليباف أهم المقربين من خامنئي، وأحد المرشحين الأساسيين للانتخابات الرئاسية المقبلة المقرر إجراؤها في يونيو/حزيران المقبل.
إذ كانت الزيارة محاولة لتقديمه للقوى العالمية عبر بوابة روسيا، إلا أنه فشل بشكل مثير للغرابة في احترام البروتوكولات الدبلوماسية الدولية، ومن ثم وضع سمعة بلاده الدولية على المحك، ما قد يعتبره منافسوه ثغرة كبرى يمكن اصطياده منها لإحباط فرصه في الفوز بالرئاسة.
كل ذلك ليس مهمًا مقابل هفوة الخارجية الروسية بتعريب الخليج الذي تعتبره إيران ملكية حصرية لها بحكم التاريخ والجغرافيا والهوية، تركت طهران أزمة إهانة رئيس البرلمان إلى الحرس الثوري الذي حاول تبريد الأزمة وزعم أن إلغاء اللقاء كان بسبب البروتوكولات الصحية، التي لم تمنع بوتين سابقًا من استقبال مبعوثين آخرين للمرشد مثل حسين دهقان وعلي أكبر ولايتي.
أشعلت إيران في المقابل حربًا شعواء، ولم تلتفت لألاعيب روسيا أو مبرراتها التي جعلتها تحاول استخدام هذه الورقة للتعبير عن انزعاجها من التقارب الإيراني الغربي بعد تولي بايدن، واستحداث مفاوضات الاتفاق النووي لعام 2015 مع الإدارة الأمريكية الجديدة.
رئيس الوفد الإيراني رفض البروتوكول الصحي الخاص بلقاء الرئيس الروسي، فاضطر بوتين لتعيين ممثلًا خاصًا، يتسلم نيابة عنه الرسالة من الرمز الأعلى للبلاد
اعتبرت طهران استخدام موسكو وصف الخليج العربي إهانة لا تغتفر من حليف موثوق به، كان يجب أن يكون على الأقل محايدًا بين الجميع كما هي عادته دائمًا في مثل هذه الصراعات العاطفية التي تستعيد الكبرياء التاريخي وترفض المقامرة به مهما كانت الحقائق الثابتة على الأرض.
روسيا من ناحيتها حاولت تخفيف عبء الموقف، وقبلت بالرواية التي روجها البرلمان الإيراني التي زعمت أن الرئيس بوتين لم يدرج المقابلة على أجندته خوفًا من تفشي مرض فيروس كورونا COVID-19 بين العديد من المشرعين الإيرانيين، إذ كان من الطبيعي أن يخضع قاليباف لاختبارات جبرية للكشف عن الفيروس في طهران وعند وصوله إلى موسكو، لكن رئيس الوفد الإيراني رفض البروتوكول الصحي الخاص بلقاء الرئيس الروسي، فاضطر بوتين لتعيين ممثلًا خاصًا، يتسلم نيابة عنه الرسالة من الرمز الأعلى للبلاد، بينما رفض هو مقابلته.
أزمة الخليج العربي ـ الفارسي
هو المسطح المائي الذي يقع على طول الساحل الممتد من شرق شبه الجزيرة العربية إلى غرب إيران، ويبلغ 3300 كيلومتر، حصة إيران منها نحو الثلث، بينما يشغل العرب الثلثين بمعظم ضفاف الخليج سواء في القسم الغربي أم الجنوبي بسلطنة عُمان والإمارات والبحرين وقطر والسعودية والكويت وفي القسم الشمالي بالعراق.
يعرف المسطح الآن بالخليج العربي، وتقر بذلك أكبر المنظمات العالمية، إذ تستخدمه الجامعة العربية بدولها كافة، كما تستعمله الأمم المتحدة في وثائقها العربية والجمعيات الجغرافية العربية، لكن إيران ترفض ذلك وتصر على استخدام اسم الخليج الفارسي في مراسلاتها وبياناتها الرسمية.
كما تستعمله في الصحف والوسائل الإعلامية التابعة لها ومنها الناطقة بالعربية، وترفض أي تسميه أخرى حتى لو أخذت طابعًا تاريخيًا مثل خليج البصرة كما ورد في الوثائق التي تعود إلى العهد العثماني نقلًا عن ما استقر عليه وصف الخليج منذ الفتح الإسلامي للمنطقة، ويستخدم وصف خليج البصرة على نطاق ضيق حتى الآن في بعض الدول العربية مثل العراق، لكن رسميًا تستخدم الدولة العراقية وصف الخليج العربي.
عدم الرغبة في إشعال المزيد من الأزمات مع إيران، جعل بعض الزعماء العرب يحاولون الاجتهاد في إيجاد حلول وسط مع إيران، منها مقترح الرئيس الليبي السابق معمر القذافي بتسميته الخليج الإسلامي لإرضاء الجميع، لكن الخميني رفض المقترح، وأصر على حق بلاده في المسمى الفارسي، وتحجج بأن العراقي المسلم السني صدام حسني، غزا إيران عام 1980، ما يؤكد أن المسار ليس واحدًا.
يمكن تأريخ الأزمة منذ احتماء فكرة القومية العربية على يد الرئيس المصري جمال عبد الناصر خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وقتها اندلع النزاع على الاسم وأشعل صراعًا سياسيًا وقوميًا ذا أبعاد ومضامين إستراتيجية، ولهذا رفضت إيران أي تسمية بما فيها الاسم الأكثر حيادية “الخليج”.
الشعوب المختلفة استخدمت أسماء كثيرة لوصف هذا الخليج، ابتداءً من عهود السومريين والبابليين إلى الوقت الحاليّ، فضلًا عن أن التسمية العربية تعود إلى عهد اليونان والرومان مرورًا بالحكم الإسلامي
تصاعد الانحياز لحركة القومية العربية، وسريعًا لجأت جامعة الدول العربية إلى جعل الوصف إلزاميًا على جميع البلدان العربية، كما استخدمته دول مجلس التعاون الخليجي، وانعكس ذلك على المشهد الدولي، إذ تتعامل البحرية الأمريكية بتسمية الخليج العربية منذ ما يزيد على ربع قرن، وتحديدًا منذ حرب الخليج الأولى في بداية تسعينيات القرن الماضي.
في المقابل اتبعت إيران سياسة شديدة العدوانية تجاه كل من يسير ضد رؤيتها في حسم القضية لدرجة أنها منعت مندوب مجلة ذي إيكونوميست البريطانية من دخول إيران لمجرد أن المجلة تضمنت خريطة عليها الاسم الحيادي.
كما شنت هجومًا شرسًا تبعته دعوات شعبية لمقاطعة الخطوط الجوية البريطانية بسبب استعمالها له، واستندت في ذلك إلى الوثائق المعتمدة بالإنجليزية في الأمم المتحدة باسم الخليج الفارسي، لكن طهران تتجاهل أن الأمم المتحدة نفسها لا تمنع أي منظمة أخرى من استخدام اسم الخليج العربي، بدليل أنها تستخدم الاسم العربي في وثائقها العربية، لا سيما أن اللغة العربية من اللغات الرسمية الستة المعتمدة لديها.
صعدت إيران القضية بتحذير كل شركات الطيران العالمية التي تستخدم مصطلح الخليج العربي على شاشات المراقبة في أثناء الطيران بأنها سيتم منعها من دخول المجال الجوي الإيراني، ولم تتهاون مطلقًا في ذلك لدرجة أن النزاع على الاسم تسبب في إلغاء دورة ألعاب التضامن الإسلامي الثانية، بعد فشل المنظمين العرب والإيرانيين في الاتفاق على وصف الخليج بالفارسية أو العربية على الميداليات، كما شنت حربًا ضخمةً ضد جوجل بسبب عدم الإشارة إلى الخليج على خرائط المتصفح العملاق باسم الفارسي.
لكن كل هذا لم يثن البلدان العربية عن التمسك بحقها في الاسم الذي يحمل هويتها، وما زالت تؤكد أنه تغير منذ القدم حسب تغيرات الأوضاع في المنطقة، فالشعوب المختلفة استخدمت أسماء كثيرة لوصف هذا الخليج، ابتداءً من عهود السومريين والبابليين إلى الوقت الحاليّ، فضلًا عن أن التسمية العربية تعود إلى عهد اليونان والرومان مرورًا بالحكم الإسلامي، وليست وليدة الهوى القومي العربي.
الموقف الرسمي الروسي
بعيدًا عن المناورات السياسية لروسيا واستخدامها على حساب وزارة الخارجية لفظ الخليج العربي للضغط النفسي على إيران حتى تضع حسابات مصالح موسكو على طاولة الاتفاق النووي مع الغرب، فإن موقفها الرسمي والتاريخي يتعاطف مع التصورات الإيرانية، فالكرملين يرى أن دول الخليج تسيس قضية اسم الخليج بشكل مفرط، ولهذا تستخدم موسكو تاريخيًا “الفارسي” في الوثائق والخطب الرسمية بحسب جريجوري لوكيانوف، المحاضر الأول في قسم الصحة والسلامة والبيئة للعلوم السياسية.
تضع موسكو عنوانًا عريضًا لها، هي جارة الشرق الأوسط، ولها تاريخ طويل مع الجميع
في الأعمال الدبلوماسية الروسية، يتم استخدام وصف الخليج الفارسي حتى الآن، وتبرر موسكو ذلك باعتقادها حسب الطابع التاريخي والأكاديمي الروسي المشكل تاريخيًا، الذي أطلق على هذا الخليج اسم “الفارسي” قبل فترة طويلة من ظهور الدول ذات السيادة الحديثة في هذه المنطقة، وتوازن القوى في الصراع القائم بين إيران والدول العربية.
تتبع روسيا رؤيتها الذاتية بعيدًا عن أطراف النزاع في المنطقة التي تراها جميعًا تسيّس القضايا المتعلقة بالأسماء والهوية بشكل مفرط، وتعطي موسكو نفسها الحق الكامل في عدم الدخول بهذا الصراع، وبدلًا من ذلك تتبع نهجًا خاصًا بها، إذ تعتقد دائمًا بضرورة عدم تسييس ما ليس جديرًا بالتسييس.
لكن أحيانًا تلجأ روسيا إلى وصف الخليج فقط دون الفارسي أو العربي عند التعامل في مكاتبات تخص البلدان العربية لا سميا أنها لا تريد أغضاب، العرب بل تحاول دائمًا تقديم نفسها على أنها البديل الآمن والأكثر موثوقوية على جميع المستويات.
تضع موسكو عنوانًا عريضًا لها، هي جارة الشرق الأوسط، ولها تاريخ طويل مع الجميع، ولطالما كانت هناك روابط اقتصادية وثقافية وسياسية مختلفة جعلت هذه العلاقات طويلة الأمد من روسيا لاعبًا رئيسيًا في مشهد الشرق الأوسط، لا سيما في حل النزاعات وحل المشكلات في المنطقة وحارسًا للأمن الإقليمي موثوق به من الجميع، ويجب أن تبقى كذلك.