قبل انتخاب جو بايدن رئيسًا لأمريكا، وهو يروج لارتباطه عضويًا بقيم الولايات المتحدة حسب تصريحاته الدائمة، التي منحته تفوقًا أخلاقيًا في قائمة تفضيلات الناخبين خلال تصويتهم بانتخابات الرئاسة الماضية، وجعلته يكتسح دونالد ترامب، الذي تبنى فلسفة من خليط شعبوي ـ محافظ ـ قومي، لا تعترف إلا بالقوة الغاشمة أو بالأحرى البلطجة على القانون الدولي، طالما أنه في صالح أمريكا، ما جعل الجميع ينتظرون من بايدن تمييزًا واضحًا في الخطاب السياسي والدبلوماسي والإنساني تجاه القضايا المعقدة في العالم، لا سيما القضية الفلسطينية.
روايات مختلفة
منذ بداية التسعينيات، ويمكن لأي محلل سياسي التفريق بسهولة بين الخطاب الجمهوري والديمقراطي تجاه القضية الفلسطينية، إذ تدفع الرؤية الديمقراطية بأهمية اختراع محادثات دائمة ومتعددة الأطراف بين “إسرائيل” والدول العربية، بينما لا تخفي الرؤية الجمهورية انحيازها الصارخ لـ”إسرائيل” وتفوقها العسكري وحقها في وضع يدها على الأرض التي تشكل لها أي تهديد أو تمثل حماية لأمنها القومي.
كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 على الولايات المتحدة، فرصة سانحة للجمهوريين لترويج خطاب جديد في الشرق الأوسط تحت لافتة ما أسموه “الإرهاب الإسلامي” وكانت أيضًا فرصة لا تعوض لـ”إسرائيل” حتى تقدم نفسها كشريك في الحرب العالمية على الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة.
لم تحقق الحرب الكونية لجورج بوش الابن أهدافها، بل تسببت في انهيار المكانة الأخلاقية والسياسية للولايات المتحدة بعد غزو العراق عام 2003 وتفشي الانتهاكات الحقوقية الصارخة بحق الشعب العراقي، ما أضحى الحاجة إلى استعادة الموقف التقليدي والتباين القديم في الخطابات والأسلوب بين الديمقراطيين والجمهوريين بغض النظر عن النتيجة النهائية التي تصب كلها في خانة الدعم المطلق لـ”إسرائيل”.
تدريجيًا استخدمت إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، لغة عاقلة رشيدة بدلًا من لغة بوش المتعجرفة عن الحرب والتهديد واختراع أعداء جدد لأمريكا.
تغلب باراك على هذه المعضلة بإعادة بلاده إلى دور صانع السلام الذي يمكن للجميع الوثوق به في ترميم السلام المتهالك في الشرق الأوسط، باستخدام خطاب ذكي لتحقيق هذه المهمة.
لم يختلف أوباما كثيرًا عن سياسة إلقاء اللوم على الضحية، بل كانت ركيزة أساسية في خطابه وهي أيضًا إستراتيجية تاريخية للولايات المتحدة، يشترك فيها الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء، الفارق أن الجمهوريين يتجاهلون حقوق الفلسطينيين بل وأحيانًا الفلسطينيين أنفسهم، لكن الديمقراطيين يدعمون “إسرائيل” بنفس الحماس، لكنهم يستخدمون لغةً أكثر اعتدالًا.
فالفلسطينيون هم المحرضون على العنف لكن “إسرائيل” تستخدم – في بعض الأحيان – القوة غير المتناسبة في ردها، يحتكم الديمقراطيون للقانون الدولي، لكن لا مشكة من تجاهله أحيانًا لاستيعاب الرؤية الإسرائيلية، فالحدود المعترف بها مرنة، ويمكنها استيعاب مخاوف “إسرائيل” الديمغرافية ومصالحها الإستراتيجية وحساباتها في التفوق العسكري.
رؤية بايدن
لعب بايدن منذ لحظته الأولى في ترشيح نفسه رئيسًا لأمريكا بمواجهة ترامب على إستراتيجية أوباما في إصلاح تحالفات بلاده مع بلدان العالم، فالتحديات العالمية المتسارعة من الوباء إلى أزمة المناخ إلى الانتشار النووي إلى الإرهاب العالمي، كلها قضايا تحتاج إلى إرادة عالمية تجعل الدول تعمل معًا وبشكل مشترك، إذ لا يمكنها أن تفعل ذلك بمفردها.
أعاد بايدن للأذهان تكتيكات الدبلوماسية المتجذرة في قيم أمريكا الديمقراطية، من الدفاع عن الحرية إلى تأييد تكافؤ الفرص ودعم الحقوق العالمية واحترام سيادة القانون ومعاملة كل شخص بكرامة، وهذه القواعد بالنسبة له مصدر قوة أمريكا العالمية، فالقيم وليس فقط التفوق الاقتصادي والعسكري، هو مصدر القوة الذي لا ينضب والميزة الدائمة لأمريكا.
في ظل الإدارة الجديدة، ستكون سياسة الولايات المتحدة هي دعم اثنين متفق عليهما بشكل متبادل – حل الدولة، تعيش فيه “إسرائيل” بسلام وأمن إلى جانب دولة فلسطينية قابلة للحياة
قطع بايدن على نفسه وعودًا بإعادة المساعدات للفلسطينيين التي قطعها سلفه دونالد ترامب، وإعادة تبادل البعثات الدبلوماسية، كما تعهد من جديد بإعادة حل الدولتين باعتباره الأساس الذي يمكن يحل من خلاله الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكن دون أن يهز قانونية الاعتراف الترامبي بالسيادة الإسرائيلية على المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية المحتلة ووادي الأردن ، وبقاء السفارة الأمريكية في القدس.
استخدم الرئيس الجديد تكتيكات الخطاب الذكي للديمقراطيين في تذكير كل الأطراف بأهمية الانخراط بشكل هادف لدفع عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، واتخذ نهجًا أكثر إنصافًا ومتعدد الأطراف للصراع، لكن دون أن يقدم وعودًا لأحد بإحداث تغيير كبير في سياسة الولايات المتحدة، فالثابت لديه أيضًا أنه حليف قديم لـ”إسرائيل”، حتى لو كانت وجهات نظره الشخصية عن الصراع تعكس وجهات نظر حزبه السائدة منذ عقود طويلة.
رغبة بايدن في إحداث تحول في الخطاب السياسي والدبلوماسي تجاه القضية الفلسطينية، تراه بعض التحليلات لا ينفصل عن بنود أجندته الخاصة بالشرق الأوسط، إذ يركز على إحياء الاتفاق النووي الإيراني واتباع سياسة تقلص تدريجيًا الالتزامات العسكرية الأمريكية في المنطقة والعودة للاتفاقية النووية مع إيران، الأمر الذي يخفض الأضواء عمدًا عن القضية الفلسطينية ويركزها على قضايا أخرى.
ما يخفف الضغط بالتبعية على بايدن، ولا يجعله يسرف في التصادم بين المبادئ والمصالح، الأمر الذي قد يعرضه وحزبه لخسارة اللوبيات الصهيونية ودوائر تحالفاتها ويعيد الرؤية الترامبية إلى الأضواء مجددًا باعتبارها أكثر قدرة على الإنجاز في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط المعقدة، لا سيما الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
محددات جديدة ولكن!
يمكن القول إن الهدف النهائي من إعادة اختراع الخطاب الذكي للديمقراطيين، جاء على لسان القائم بأعمال سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ريتشارد ميلز الذي قال نصًا: “في ظل الإدارة الجديدة، ستكون سياسة الولايات المتحدة هي دعم اثنين متفق عليهما بشكل متبادل، حل الدولة، تعيش فيه “إسرائيل” بسلام وأمن إلى جانب دولة فلسطينية قابلة للحياة”.
تعبيرات ميلز جاءت كأنها تنتصر أولًا لبايدن وتاريخه الطويل في انتقاد بناء المستوطنات غير القانونية، وهو ما أشار إليه أكثر من مرة خلال حملته الانتخابية، كما أشار دون قصد إلى اعتقاد الرئيس الجديد بأهمية استمرار العقيدة الأمريكية الراسخة، التي تُحمّل الجميع مسؤولياتهم دائمًا.
فالدولة التي تتطرف بشدة في إذكاء المسؤولية الفردية لمواطنيها عن مستقبلهم بمعزل عنها، لن تعفي الدول الأعضاء في الأسرة الدولية من مسؤولية الحفاظ على قابلية حل الدولتين للحياة والمساهمة في تحسين الظروف على الأرض، لا سيما الأزمة الإنسانية في غزة.
لكن مع كل هذه الدفعات الإيجابية في المنهج والسلوك والتكتيك الذي يتبعه بايدن ويختلف جذريًا عن الانصياع التام لترامب وتأييد الرواية الإسرائيلية بتطرف، قد يعرقلها ما تعتبره جهات بحثية مختلفة خللًا أساسيًا في نهج الولايات المتحدة لصنع السلام في الشرق الأوسط منذ عام 1967، بسبب الطبيعة غير المشروطة في الدعم الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي لـ”إسرائيل”.
ترتاح الإدارات الديمقراطية تحديدًا لدور الوسيط النزيه، لكنها في الواقع لا تختلف عن المنهج الجمهوري في الدفاع عن “إسرائيل” ومواقفها وسياساتها، ما يساهم في إنتاج رؤية أمريكية غير متماسكة ومتناقضة وذاتية لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لا سيما أن واشنطن تحتكر الدبلوماسية المحيطة بالصراع وتهمش الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية والكرملين.
ومع كل ذلك، تفشل منذ عام 1967 في استخدام نفوذها الهائل في دفع “إسرائيل” نحو اتفاق الوضع النهائي، صحيح أن “إسرائيل” هي العميل الأكثر صعوبة للولايات المتحدة، لأنها ليست مجرد قضية تتعلق بالسياسة الخارجية، بل تأثيرات الملف تمتد إلى السياسة الداخلية والمشهد الانتخابي الأمريكي، وهو ما يفسر لماذا كان الرئيس جو بايدن المعروف بمواقفه الأخلاقية مؤيدًا قويًا لـ”إسرائيل” طوال حياته السياسية الطويلة.
عمل بايدن خلال السنوات الثمانية التي قضاها كنائب للرئيس الأمريكي على الانتصار لقناعاته، إذ كان له دور أساسي في منح إدارة أوباما حزمة مساعدات عسكرية لـ”إسرائيل” بنحو 38 مليار دولار على مدى 10 سنوات
وبايدن هو صاحب العبارات الخالدة في السياسة الأمريكية، إذ سبق له القول منذ عام 1986 إن “إسرائيل” هي أفضل استثمار لبلاده، ولو لم تكن هناك “إسرائيل”، لكان على الولايات المتحدة الأمريكية اختراعها حماية لمصالحها في منطقة الشرق الأوسط، وسبق له القول أيضًا إن اشتراط المساعدة العسكرية لـ”إسرائيل” بأي ثمن آخر، هو خطأ فادح وشائن تمامًا.
عمل بايدن خلال السنوات الثمانية التي قضاها كنائب للرئيس الأمريكي على الانتصار لقناعاته، إذ كان له دور أساسي في منح إدارة أوباما حزمة مساعدات عسكرية لـ”إسرائيل” بنحو 38 مليار دولار على مدى 10 سنوات، واعتبرت وقتها أكبر حزمة مساعدات عسكرية في التاريخ، ودون أي شرط أو قيد مثلما كان يطمح بايدن دائمًا.
قد يكون مبكرًا جدًا معرفة اتجاهات بايدن وأسلوبه في حل كل القضايا المعقدة التي بدأت تظهر بعد إعلانه عودة الاتفاق النووي ورد المساعدات للفلسطينيين حسب مقتضيات أسلوب الخطاب الذكي الذي يحترم المشاعر والعواطف الإنسانية، لكن دون تحرير السياسة الخارجية الأمريكية من الانحياز الكامل لـ”إسرائيل”، ودون اشتراط المساعدات الأمريكية بدفع السلام للأمام، كما تفعل أمريكا مع كل البلدان التي تقدم لها مساعدات، لن يعني ذلك إلا تكرار أخطاء الماضي حتى لو كان بطريقة أكثر احترامًا واحترافية!