شنّت القوات الأمريكية عددًا من الغارات الجوية التي استهدفت الميليشيات التابعة لإيران في مدينة البوكمال شرق سوريا، هي الأولى من نوعها منذ تولي الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، دفة القيادة في البيت الأبيض، أسفرت عن تدمير عدة منشآت عند نقطة حدودية يستخدمها عدد من الجماعات المسلحة التي تدعمها إيران.
المرصد السوري لحقوق الإنسان، في معلومات أولية له، أشار إلى أن الهجمات دمرت ثلاث شاحنات ذخيرة قادمة من العراق إلى نقطة حدودية غير شرعية جنوبي مدينة البوكمال السورية، فيما أضاف مدير المرصد رامي عبد الرحمن “هناك عدد كبير من القتلى. قُتل ما لا يقل عن 17 مقاتلًا وفقًا لتقدير أولي، جميعهم من أعضاء الحشد الشعبي”.
المتحدث باسم البنتاغون جيمس كيربي قال إنه بناء على توجيهات من بايدن شنت القوات الأمريكية غارات على بنى تحتية تستخدمها مجموعات مسلحة مدعومة من إيران في شرقي سوريا، مضيفًا أن الغارات جاءت ردًا على هجمات أخيرة ضد جنود من أمريكا والتحالف في العراق، وعلى التهديدات المستمرة التي تستهدف هذه الجنود.
الغارات التي جاءت بعد أيام من هجوم صاروخي استهدف مطار أربيل شمال العراق، وأوقع قتيلين وتسعة جرحى، بينهم 4 متعاقدين أمريكيين، نفذت على نطاق جغرافي ضيق لتحقيق أهداف محددة، وكانت المتحدثة باسم البيت الأبيض قد قالت في وقت سابق إن الولايات المتحدة تحمل إيران مسؤولية تصرفات وكلائها، وإن بايدن غاضب.
بايدن ليس أوباما.. الرسالة الأولى
الرد السريع لبايدن بعد قرابة 35 يومًا على توليه دفة الحكم يبعث برسالة مباشرة إلى طهران مفادها أن إستراتيجيته في التعامل مع التهديدات الإيرانية ستكون مختلفة تمامًا عن سلفه باراك أوباما الذي كان يميل إلى التهدئة وتجنب الدخول في صدامات عسكرية مع الإيرانيين.
المتحدث باسم البنتاغون في وصفه للضربات، لفت إلى أنها ضربة تحذيرية في المقام الأول، قائلًا: “العملية توجه رسالة واضحة مفادها أن الرئيس بايدن سيحمي القوات الأمريكية وقوات التحالف”، وهي المسألة التي كانت مثار تساؤل وجدل بعد قرار الرئيس السابق دونالد ترامب بسحب قوات بلاده من سوريا، أكتوبر/تشرين الأول 2019.
“إيران كانت تقيس حدود الإدارة الجديدة قبل بدء التفاهمات للعودة للاتفاق النووي، وعليه كان لا بد لإدارة بايدن أن ترد”
التأكيد على بقاء القوات الأمريكية في سوريا ومعها العراق وفي بقية دول المنطقة، بنفس الأدوار السابقة، وذات التأثير القديم، رغم تعدد القوى والأجندات، أحد أبرز الأهداف التي سعى بايدن للتشديد عليها، في رسالة موجهة للعديد من الأطراف (سوريا والعراق وروسيا وإيران والصين).
يذكر أن قاعدة عسكرية تتمركز فيها قوات التحالف الغربي في مطار أربيل (شمال) تعرضت لقصف صاروخي في 15 من فبراير/شباط الحاليّ، ما أسفر عن مقتل شخصين أحدهما مقاول مدني أجنبي يعمل مع التحالف، فيما اتهم وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، كتائب حزب الله الموالية لإيران بالوقوع خلف تلك الهجمات رغم عدم إعلان مسؤوليتها عن ذلك، مضيفًا “نحن نعرف من ضربنا”.
هذه حدود إدارتنا الجديدة.. الرسالة الثانية
الضربة لم تكن عشوائية، وإن كانت محدودة، لكن الترتيب المعد لها ألا تتعدى هذا الحد، وفق ما ذهب إليه المحلل السياسي تامر النحاس، القيادي السابق بالحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، الذي اعتبر أن الصواريخ التي أطلقتها الميليشات التابعة لإيران ضد أهداف أمريكية في أربيل كانت بمثابة “قياس للإدارة الأمريكية الجديدة”.
وأضاف الخبير المصري في مقال له “إيران كانت تقيس حدود الإدارة الجديدة قبل بدء التفاهمات للعودة للاتفاق النووي، وعليه كان لا بد لإدارة بايدن أن ترد وبأقصى سرعة حتى لا يفهم الأمر على غير حقيقته ما قد يدفع طهران للمزيد من التجرؤ”، معتبرًا أن الضربات الأخيرة هي الرد الأمريكي على اختبار طهران.
هناك اختلاف كبير في آليات اختيار شركاء أمريكا الجدد في المنطقة بين عقلية بايدن وعقلية ترامب، يتوقف ذلك على قائمة الأولويات وموقع القيم الديمقراطية التي تدعي إدارة بايدن الالتزام بها في اختيار شركائها، ما يعني أن الإدارة الجديدة قد تختار شركاءها، بل كذلك شكل الشراكة وحجم تطورها وفقًا لتلك الأولويات، وليس شرطًا أن تتطابق مع اختيارات الإدارة السابقة.
وعليه فإن واشنطن ستلقي بالكرة في ملعب أنظمة الشرق الأوسط وفق قائمة مطولة من الأدوات والتوجهات والمعايير التي تتناسب وأجندة إدارة بايدن، وعلى كل الدول أن تختار موقعها من الإعراب في هذا الملعب، وفي أي مكان سيتم اللعب، بما يعني حدوث تغيرات جذرية في خريطة التحالفات القديمة.
اختيار القوات الأمريكية لمواقع سورية للرد على الهجمات الإيرانية وليس مواقع عراقية (استهداف الأمريكان كان في أربيل العراق) يعزز الرسالة الدبلوماسية التي تبعث بها واشنطن سواء لطهران أم بغداد
الدبلوماسية وتجنب التصعيد.. الرسالة الثالثة
المتحدث باسم البنتاغون أشار إلى أن “هذا الرد العسكري المتكافئ تم بالتوازي مع إجراءات دبلوماسية لا سيما مشاورات مع شركاء التحالف المناهض للجهاديين في العراق وسوريا” باعثًا برسالة واضحة بشأن دعم المسار الدبلوماسي في التعاطي مع تلك الملفات.
تميل إدارة بايدن، وهو ما يتضح من الأسماء المشكلة لها، إلى الدبلوماسية وعدم التصعيد مع إيران، وهو ما تعكسه العديد من المؤشرات التي تشير إلى رغبة واشنطن للعودة للمفاوضات وإحياء الاتفاق النووي الذي انسحب منه ترامب قبل 3 أعوام، ومنها التصريحات البناءة وإزاحة جماعة الحوثي من قائمة الإرهاب.
الرد الأمريكي كان على قدر الرسالة ولم يتجاوزها قيد أنملة، فالضربة كانت سياسية أكثر منها انتقامية، وقد تحقق الهدف من ذلك، لكن ليس بالطريقة التي توسع الفجوة مع طهران، لا سيما في ظل مساعي التقارب للتوصل إلى صيغ مقبولة من الطرفين للعودة للعمل بالاتفاق مرة أخرى.
اختيار القوات الأمريكية لمواقع سورية للرد على الهجمات الإيرانية وليس مواقع عراقية (استهداف الأمريكان كان في أربيل العراق) يعزز الرسالة الدبلوماسية التي تبعث بها واشنطن سواء لطهران أم بغداد، فالأمريكان لا يريدون إحراج الحكومة العراقية، مراعاة لتعاون مستقبلي في العديد من الملفات، في مقدمتها الملف الإيراني ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
الكرة في ملعب السعودية.. الرسالة الرابعة
“تلك ملامح المرحلة القادمة، وهذه أبجدياتنا في تدشين خريطة تحالفاتنا في الشرق الأوسط، فمن أراد اللعب فتلك القواعد الجديدة”.. هذه هي الرسالة الرابعة التي تبعث بها إدارة بايدن للرياض، فسياسة “الشيك على بياض” التي اتبعها ترامب مع السلطات السعودية ممثلة في الحاكم الفعلي للبلاد، محمد بن سلمان، قد ولًت إلى غير رجعة.
العداء المستمر لطهران وتدشين التحالفات المناهضة لها والساعية لتقليم أظافرها في المنطقة وغلق أبواب التفاوض معها سياسة ما عاد لها مكان في الإدارة الجديدة التي تنسف وبشكل كبير كل المرتكزات التي استندت إليها الإدارة السابقة في رسم سياستها الشرق أوسطية، وهو ما أصاب حلفاء ترامب بالصدمة.
إعادة ضبط وتقييم العلاقات مع السعودية، وهو التوجه الجديد للإدارة الديمقراطية الأمريكية، لا يهدف بالطبع إلى “القطيعة” مع المملكة، وهو ما بدا واضحًا في استبعاد ولي العهد السعودي من قائمة العقوبات المفروضة على الأشخاص المتورطين في قتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي
لكن في الناحية الأخرى تؤكد واشنطن على كامل دعمها لحليفها السعودي والدفاع عنه ضد أي اعتداءات، حتى لو كانت إيرانية، رسالة مغازلة تحافظ بها الإدارة الجديدة على علاقاتها القوية مع المملكة نظرًا للمصالح المشتركة والعديد من الملفات التي تحتاج أمريكا فيها الدعم السعودي فيها.
إعادة ضبط وتقييم العلاقات مع السعودية، وهو التوجه الجديد للإدارة الديمقراطية الأمريكية، لا يهدف بالطبع إلى “القطيعة” مع المملكة، وهو ما بدا واضحًا في استبعاد ولي العهد السعودي من قائمة العقوبات المفروضة على الأشخاص المتورطين في قتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، أكتوبر/تشرين الأول 2018، رغم تأكيد تقرير الاستخبارات المنشور مؤخرًا على أن ابن سلمان هو من أمر بالقتل.
وفي الأخير يُعتقد أن الضربة الأمريكية المحدودة ضد ميليشيات إيرانية في سوريا قد حققت أهدافها المحددة بشكل كبير، فالدبلوماسية لا تتعارض مع الرد العسكري، والميل نحو التهدئة ليس معناه غض الطرف عن أي اعتداءات هنا أو هناك، ويبقى قراءة الرياض وطهران لتلك الرسائل وكيفية التعاطي معها هو المحك.