فتح الإنترنت مجالًا واسعًا لفرص عمل جديدة لم تكن موجودة من قبل وصرنا نسمع بمسميات وظائف لم تكن موجودة قبل عشر سنوات وستتغير خلال عشر سنوات أخرى قادمة، مطور البرامج ومسؤول السوشيال ميديا ومصمم صور إعلانات للسوشيال ميديا ومطور محتوى وكاتب محتوى وكاتب مقالات ومحرر ومدقق ومتخصص في SEO ومطور مواقع.
الكثير والكثير من المسميات الوظيفية التي تتغير كل يوم ويُضاف إليها وظائف جديدة ومهام جديدة وتذهب وظائف قديمة إلى تاريخ الأعمال إن لم يكن إلى مقبرة الأعمال، وربما سيأتي يوم ما ينظر فيه أولادنا إلينا باستغراب حين نخبرهم عن وظيفتنا عندما كنا في مثل سنهم، ويسألوننا “يعني شو كنتوا بتعملوا بالضبط؟”.
ولهذا الأمر محاسنه ومساوئه في نفس الوقت، فالفرص الجديدة فتحت آفاقًا جديدة للإبداع والابتكار وفرص عمل جديدة مع تزايد أعداد خريجي الجامعات دون أن تقدر الوظائف التقليدية على استيعابهم، وفي نفس الوقت حملت الوظائف الجديدة تغييرًا في الكثير من المفاهيم المعتادة عنها.
في عام 1953 صدر العدد الأخير من مجلة الرسالة بعد عشرين عامًا من النجاح وآلاف الأعداد الشهرية الناجحة، وكانت تلك المجلة انطلاقة مهمة ومنصة لأهم أدباء القرن العشرين مثل طه حسين والشيخ الأديب علي الطنطاوي، لم تكن الرسالة المجلة الوحيدة من تلك الشاكلة، بل هناك مجلة المختار المترجمة عن Reader’s Digest الأمريكية ومجلة الفيصل والعربي التي استمر بعضها سنوات طويلة وكانت قطعًا أدبيةً فنيةً عاليةً وليست مجرد مجلات للتسلية وتمضية الوقت عند انتظار دورك في عيادة الطبيب أو رحلتك الطويلة.
جاء الانترنت وبدأ بتغيير مفهوم المجلات لتنتقل المجلة من الورق إلى عوالم الشبكات ومواقع الإنترنت، وبدأ عصر التدوين، وانقلب مفهوم كتابة المقال إلى المدونة وبرزت مصطلحات جديدة مختلفة عن المقالات والقصص القصيرة وكتب المذكرات التي كانت منتشرة ومعروفة.
عن خلط المصطلحات
- التدوين
كانت المدونات الحرة منفذًا لمن يرغب بالكتابة دون قيود ودون عودة للمحرر وقواعد الموقع أو المجلة او حتى القيود الأخرى المفروضة على النشر بشكل عام، وتقريبًا صار الجميع يكتب.
وبعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي والفيس بوك صار الجميع فعليًا يكتب، والغريب أن الجميع صار يعتبر نفسه مدونًا وتدريجيًا صار اسمه كاتبًا! حتى لو كان كل ما كتبه عبارة عن بضع خواطر شعرية مليئة بالشجن والأسى والشوق على صفحته على الفيسبوك.
- بين صناعة المحتوى وكتابة المقالات
خلط أكبر حصل مع انتشار الكثير من المواقع التي تهدف للربح في السنوات الأخيرة وهو الفرق بين صناعة المحتوى وكتابة المقالات، حتى إن فكرة صناعة المحتوى نفسها تحمل الكثير من الخيارات.
جرب لتبحث عن أي معلومة باللغة العربية على جوجل، هذه عملية لن تستغرق منك وقتًا لتجد نفسك تتنقل بين عدة مواقع كلها تحمل ذات النص بحرفيته، وبالتالي اقرأ ما كتب في أول موقع ظهر لك في نتائج البحث واترك الباقي.
هذه المواقع تعتمد اعتمادًا كليًا في جذب الباحث مثلك على تنسيق المقالات المكتوبة فيها بشكل يتناسب مع قواعد البحث SEO بغض النظر عن المحتوى نفسه وجودته وقدرته على إفادة القارئ أو جذبه.
ربما في البداية كان من يصنع هذه المواقع يراعي حقوق النشر، لكن من الواضح وحسب ما رأيت بنفسك أن أحدًا لم يعد يفعل ذلك.
انقلب مفهوم كتابة المقال إلى المدونة وبرزت مصطلحات جديدة مختلفة عن المقالات والقصص القصيرة وكتب المذكرات التي كانت منتشرة ومعروفة
وهناك المواقع التي تحاول أن تكون خليفة المجلات والشكل العصري لها من خلال اختيار الكاتب المهمين والمواضيع المهمة ومراعاة الأفكار الجذابة والمفيدة وطريقة العرض، وهي للأسف لا تحقق ربحًا كبيرًا لذلك غالبًا ما تتوقف بعد فترة أو تمر بفترات ركود متكررة عائدة إلى الحالة المادية والأرباح المقترنة بنجاح وصولها إلى القراء بشكل يكفي للحصول على زيارات مربحة.
النوع الأول من المواقع يعتمد على العناوين الجذابة والغريبة وفي كثير من الأحيان قد يلجأ لوضع عناوين لا تتناسب مع المحتوى أصلًا، أو تتحول لنسخة إلكترونية من الصحافة الصفراء.
أما الجزء الأسوأ منها برأيي ذلك الذي لا يكلف نفسه بصناعة محتوى جديد بل ينسخ المحتوى من مواقع مختلفة أو يعيد صياغته لإنتاج محتوى جديد وطبعًا اسم الكاتب يتم حذفه من المحتوى المنسوخ، اسم الكاتب والناسخ أيضًا لأنه لا أحد يرغب أن يتم مقاضاته رسميًا بتهمة السرقة الأدبية.
المواقع الكبيرة التي تستقطب كتابًا مهمين تدفع للكاتب مقابل اسمه وكلمته التي سينشرها في الموقع ويجذب القراء مقابل هذا الاسم فقط الذي يجعل الطرفين فخورين بالعمل معًا، وهي تدفع مبالغ تعتبر جيدة مقابل الفكرة أيضًا، فالكاتب حصل على مبلغ جيد وانتشار لاسمه والموقع حصل على محتوى محترم غير منسوخ وانتشار باعتبار اسم الكاتب وسيلة للنشر.
إذا لم توضع قوانين صارمة وتحديث طرق النشر على الإنترنت بحيث يتم حذف اي محتوى مكرر تلقائيًا، فالأمر سيستمر بهذه الحالة
أما المواقع التي تنشر مقالات سطحية مليئة بالحشو وتركز على قواعد البحث فلا يهمها اسم الكاتب أو حتى المعنى، المهم هو الزيارات.
قم بإعداد موقع يتحدث عن الجمال ووصفات العناية بالبشرة وخطوات وضع المكياج وأحضر فريقًا علمه كيف ينسخ المقالات وبأحسن الأحوال يعيد صياغتها وانتظر الربح! وإذا أردت ربحًا أسرع فاختر مواضيع تتعلق بالحياة الزوجية وفضائح الفنانين وعناوين +18 وسترى أرباحًا أكثر، ثم سترى فريقك يكتب عن نفسه (كاتب مقالات حصري غير منسوخ) وينتظر أن يحصل على مبلغ زهيد مقابل مقاله الحصري غير المنسوخ، مبلغ لا يكفي ثمن باقة الإنترنت التي سيبحث فيها عن معلومات مقاله الحصري.
- صناعة المحتوى
لم يعد المحتوى قاصرًا على كتابة المقالات والمعلومات والتدوين، فكتابة منشورات مواقع السوشيال ميديا الإعلانية أو النصوص على المواقع التابعة للشركات هو جزء من صناعة المحتوى وله أصوله وقواعده التي يجب أن تتناسب وتتقاطع بشكل كبير مع علم التسويق.
باختصار باتت الكتابة “صنعة” وصار كل من هب ودب يسمي نفسه “كاتبًا”!
عن حقوق النشر
ذات مرة نشرت مقالًا على أحد المواقع العربية، وبعدها سرق موقع آخر المقال ونشره دون اسمي طبعًا، ولم يكن المقال مناسبًا للفئة الموجه لها الموقع السارق، وطبعًا قرأت الكثير من الشتائم والسخرية بسبب سوء استخدام، ليست سرقة فقط بل سوء استخدام من السارق، لكن للأسف حقوق النشر غير محفوظة وما زالت القوانين الحاكمة لها قليلة جدًا وغير فعالة ولا يمكن الاعتماد عليها، وككاتبة مقالات ومحتوى لا أنشر مقالات غير منسوخة وأصلية على مبدأ الكثيرين أتوقع أن أجد مقالي أو جزءًا منه في موقع آخر قريبًا كما سبق وحدث، ولا يمكنني حينها اتخاذ أي إجراء قانوني أو أخلاقي بسبب غياب أخلاقيات النشر والصحافة التي كان يُعول عليها حتى وقت قريب قبل حدوث هذه الفوضى الفكرية التي اجتاحت العقول مع غزو وسائل التواصل الاجتماعي وحرية النشر فيها للمجتمعات بشكل مرعب.
هل هناك من حل قريب؟
لا أظن، فإذا لم توضع قوانين صارمة وتحديث طرق النشر على الإنترنت بحيث يتم حذف أي محتوى مكرر تلقائيًا، فالأمر سيستمر بهذه الحالة.