كيف أحكم السيسي قبضته على النشاط العمراني؟

19_2018-636778077340132379-13

يوصف النظام المصري ما بعد الثالث من يوليو/تموز 2013، بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي، بأنه نظام استحواذي يشبه إلى حد كبير، باستعارةٍ من التاريخ المصري الحديث، دولة محمد علي، لا في نجاح كل منهما، السيسي وعلي، في سحق الخصوم بضربة واحدة مفاجئة (الإخوان/المماليك، رابعة/مذبحة القلعة) فقط، وإنما أيضًا في سعي كلا الحاكمين لسحب الأنشطة الاقتصادية من المجتمع واحتكارها من الدولة، لأسباب سياسية ومالية وأمنية.

أحد القطاعات التي نالت قسطًا وافرًا من الجدل خلال الأيام الماضية بسبب قانون جديد أقر ليوسع قدرات النظام على جباية الضرائب وحصر الأصول التي يملكها المواطنون كما يقول مراقبون، كان قطاع العقارات.

في هذا التقرير التحليلي، نرصد أن القانون الأخير مثار الجدل، المعروف بقانون الشهر العقاري الجديد، الذي أجلت الحكومة تطبيقه حتى نهاية العام الحاليّ، ليس إلا حلقة في سلسلة ممتدة من التشريعات والإجراءات التي أقرها النظام للاستحواذ على هذا القطاع وتوظيفه في معادلة الاقتصاد السياسي الخاصة به، ما أثر سلبًا على باقي الأطراف المعنية كالأفراد والمطورين العقاريين.

تعظيم دور الدولة

في بداية حملته الانتخابية غير التقليدية، وخلال تعليق منه على مشكلة الإسكان، قال السيسي إن سبب هذه المشكلة من وجهة نظره أن دور الدولة المركزي في توفير طلب المواطنين على الوحدات السكنية تقلص في الفترة الأخيرة، ما خلق فجوةً بين الطلب والعرض، جرت محاولة سدها بطرق غير قانونية من الأفراد والمطورين العقاريين.

يحتاج المجتمع بصورة عاجلة ما يصل إلى 5 ملايين وحدة سكنية على الأقل، تبلغ تكلفة الوحدة الواحدة نحو 200 ألف جنيه، بقيمةٍ إجمالية تصل إلى تريليون جنيه، ورغم عدم قدرة الدولة بطبيعة الحال على تدبير هذه الموارد، فإن أحد الحلول النظرية التي ينبغي العناية بها أن تقلص الدولة من نفوذ الأطراف الأخرى، المواطنين والمقاولين، وتعظم نفوذها المركزي والشمولي، وفقًا للسيسي.

“الكلام ده يخوف؟ لأ ما يخوفش! فيه فرق إن محصلة الجهد تبقى متفرقة (يقصد بين الدولة والمطورين العقاريين والمقاولين والمواطنين) وبين إنها تبقى متركزة، إحنا عاوزين أنها تبقى متركزة في الملف ده وفي مجابهة كل مشاكل مصر”، قال السيسي.

تمتد إستراتيجية السيسي في الاستحواذ على قطاع الإسكان إلى ما هو أبعد من ذلك في الوقت الحاليّ، حيث يستهدف معدلات بناء تصل إلى مليون وحدة سكنية خلال العام الواحد

بعد 6 سنوات من الحكم، ومن خلال إستراتيجية الاقتصاد السياسي التي تعتمد على الاقتراض الخارجي والاستثمار في مشروعات المقاولات كثيفة التشغيل، تحت إشراف الجيش ممثلًا في الهيئة الهندسية للقوات المسلحة وبعض الوزارات المدنية مثل الإسكان والنقل، استطاع السيسي الهيمنة على قطاع الإسكان بنحو مليون وحدة سكنية متنوعة الأغراض (إسكان اجتماعي ومتوسط وفارهٍ وبديل للعشوائيات) في مختلف أنحاء الجمهورية، مع تنحية دور المقاولين، بحيث يصبحون رديفًا منفذًا لإستراتيجية النظام العقارية.

تمتد إستراتيجية السيسي في الاستحواذ على قطاع الإسكان إلى ما هو أبعد من ذلك في الوقت الحاليّ، حيث يستهدف معدلات بناء تصل إلى مليون وحدة سكنية خلال العام الواحد، كما قال في مداخلته الأخيرة مع عمرو أديب، مطلع الشهر الحاليّ فبراير/شباط.

وقد طرح النظام المصري بالفعل خلال الأشهر الأخيرة خطةً جديدة لبناء نصف مليون وحدة سكنية مختلفة الطبقات يؤدي فيها المقاولون المحليون دور المنفذ، ضمن المبادرة الرئاسية لاستغلال عواصم المحافظات المعروفة باسم “سكن كل المصريين”.

محدش هيبني هنا

في قرارٍ غريب يشبه المشهد الكوميدي المعروف في أحد الأفلام المصرية، حيث يقول الطالب البلطجي لزملائه التلاميذ “محدش هيتعلم هنا”، أصدر مجلس الوزراء المصري قرارًا رقم 181 لسنة 2020 المناط بتنفيذه كل من وزارة التنمية المحلية والمحافظين لحظر حركة التصرف في المباني والأراضي لأغراض بنائية، بدايةً من يونيو/حزيران ولمدة 6 أشهر، داخل القاهرة والإسكندرية وعواصم المحافظات.

فور صدوره، تعرض هذا القرار لانتقادات شديدة، لأنه بصيغته التي تعطل البناء في المشروعات الحاصلة على رخص قانونية بالفعل بحسب برلمانيين، كان يتعارض مع أساسيات الدستور التي تنص على أن الملكية الخاصة مصونة وفقًا للمادة 35، وجوهر القانون الذي يحمي سريان رخصة البناء القانونية من أي قرار أو تشريع جديد، طالما أن الرخصة صدرت في سياق تشريعي طبيعي وليس هناك ضرر نوعي منها على الصالح العام.

وقد اعتبره المطورون العقاريون من جانبهم قرارًا خاطئًا غير مدروس، لأنه عطل حركة هذه الصناعة الحيوية التي تشمل عددًا كبيرًا من الصناعات الفرعية، ويعمل بها الآلاف من عمال “المياومة” (الاقتصاد غير الرسمي)، في ظل أزمة كورونا، خلال موسم البناء الصيفي، ما ساهم في تفاقم أزمات هذا القطاع المنهك، مقابل السماح باستمرار العمل في مشروعات المقاولات التي يرعاها النظام كالعاصمة الإدارية الجديدة، التي كان السيسي يزورها بنفسه دوريًا في هذا التوقيت.

ومع ذلك، قالت أصوات أخرى إن هذا القرار رغم قسوته وأضراره، يمثل فرصةً جيدة لوقف التمدد العمراني غير المخطط، وبالأخص في ظل الأنباء المتواترة عن إعداد “كود” بناء مصري جديد، تشرف الجامعات على تنفيذه بدلًا من المحليات، ويولى خلاله اهتمام كبير بمعايير الحماية المدنية وانتظار السيارات وملاءمة الارتفاعات لخصوصية المكان والمظهر الحضاري وخطوط الاتصالات الذكية، بعد أن أعلنت الحكومة أيضًا تدشين منظومة جديدة لمراقبة حركة البناء العام بالأقمار الصناعية، ضمن تعاون ثلاثٍ بين وزارة الإسكان وإدارة المساحة العسكرية والمحافظات. 

شن السيسي حملةً ترهيبيةً كبيرةً على المجتمع لإجباره على دفع هذه الرسوم بأثرٍ رجعيٍ، استعان خلالها بالنيابة العسكرية وقوات الأمن الشرطية

وهو ما يعني أن النظام والمطورين العقاريين العاملين في مشروعاته فقط، هم من سيعملون، بينما ستتوقف حركة العمران في مصر كلها تقريبًا، لأول مرة، لمدة نصف عام على الأقل، على شركات المقاولات المتوسطة والمواطنين الذين يبنون لأغراض خاصة، تحت شعار: مراجعة الرخص القديمة ومراقبة التغيرات الطبوغرافية الأخيرة على حركة العمران في مصر، وتقليص البناء غير المخطط.. لكن هل اكتفى السيسي بذلك؟

جبايات وهواجس أمنية

لم يكد أطراف المنظومة المعنيون بقرار وقف البناء، المواطنون والمطورون، يفرغون من صدمة هذا القرار، حتى فوجئوا بتفعيل قانون رقم 17 لسنة 2019 بصيغته المعدلة رقم 1 لسنة 2020 الذي يوجب على آلاف المباني المبنية بشكلٍ مخالف خلال الأعوام الماضية دفع غرامةٍ مالية “رسم التصالح” لتسوية أمورهم، منعًا لهدم العقارات أو حتى تتمكن العقارات الجديدة من ترفيق وحداتها.

شن السيسي حملةً ترهيبيةً كبيرةً على المجتمع لإجباره على دفع هذه الرسوم بأثرٍ رجعيٍ، استعان خلالها بالنيابة العسكرية وقوات الأمن الشرطية، وبث صورًا لهدم عدد من البيوت الضخمة غير المأهولة بسبب مخالفة اشتراطات البناء القديمة وعدم وجود مجال للتصالح مع أصحابها، إما لخطورة هذه العقارات على حياة قاطنيها والمجتمع، أو لعدم ارتداع السكان ورفضهم الانصياع إلى التصالح.

نص القانون في صيغته المحسنة لعام 2020 على إجبار أي من طرفي الملكية، المقاول أو المشتري إذا لم يكن المقاول موجودًا، على دفع 100% من قيمة التصالح المقدرة للعقار، إذا كان العقار غير مرخص ومخالفًا لاشتراطات التخطيط، ودفع 50% إذا كان العقار غير مرخص لكن مطابق لاشتراطات التخطيط.

أما إذا كان العقار مرخصًا ومطابقًا لاشتراطات التخطيط فإنه يدفع 25% فقط من قيمة التصالح الكلية المقدرة من ثمن العقار، حال كانت المخالفة في الرسوم المعمارية والإنشائية للترخيص، ونفس النسبة إذا كانت المخالفة محصورة على عدد الأدوار فقط، فيما تصل إلى 20% إذا كان هناك مخالفة في الرسومات الإنشائية مع مطابقة الرسومات المعمارية وعدد الأدوار، وفي حال كانت المخالفة في الرسوم المعمارية فقط مع سلامة باقي العناصر كالترخيص واشتراطات البناء والرسوم الإنشائية وعدد الأدوار، فإنها تنخفض إلى 5% فقط. 

أي أن لدينا 5 معايير مجتمعةً معًا أو تتوافر بعضها أو توجد إحداها، نص القانون على إلزام أصحابها بدفع رسوم التصالح التي تصل إلى 100% من قيمة العقار، هي: وجود الرخصة واشتراطات التخطيط والرسوم المعمارية والرسوم الإنشائية وعدد الأدوار.

بعد شدٍ وجذبٍ بين النظام والمواطنين على أساس هذه الأزمة، وصل إلى ذروته مع تهديد السيسي بالاستعانة بالجيش من ناحية واستجابة سكان الريف إلى دعوات التظاهر المنددة بهذا القانون سبتمبر/أيلول الماضي من ناحية أخرى، اضطر النظام إلى التراجع والاستجابة إلى النصائح الأمنية، عبر تخفيض سعر المتر في التصالح، خاصةً بالريف، إلى أدنى مستويات سعرية ممكنة، وإطالة أمد التصالح حتى نهاية مارس/آذار الحاليّ، مع السماح للمتصالحين بتقديم الملف مرفقًا بمقدم جدية 30% وتقسيط باقي القيمة مستقبلًا، وقد وصلت طلبات التصالح المقدمة إلى الحكومة أكثر من مليوني و700 ألف طلب.

لكن في هذا التوقيت تقريبًا، كان قد صدر أيضًا تعديل مريب على أحد القوانين الخاصة بمكافحة الإرهاب، وهو القانون رقم 94 لسنة 2015، بحيث يلتزم مالك أي عقار بتسليم مقر الشرطة التابع له كل البيانات الخاصة بالمستأجر، خلال مدة 72 ساعة من شغل العقار، دون الاكتفاء بتحرير عقود طرفية بصحة التوقيع، وإلا تعرض المالك للحبس مدة لا تقل عن سنة وغرامة لا تقل عن 5 آلاف جنيه، وهو ما يعني أن الحكومة ترصد أيضًا بيانات حركة الإيجارات في المجتمع المصري لأسباب تقول إنها أمنية.

حزام قانوني

في غمرة الانهماك بقانون التصالح، مشروعيته من عدمها والقدرة على السداد في ظل وقف الحال العمومي الذي سببه كورونا، أعلنت الحكومة في مصر تعديل القانون الخاص بالتسجيل في الشهر العقاري، بحيث لا يكون مجرد حيازة ما يثبت أن هذا العقار قد خضع للتصالح كافيًا للاعتراف به أمام الدولة.

ألغت التعديلات الجديدة للقانون الاعتراف بالصور التقليدية لإثبات ملكية العقار، مثل العقد الابتدائي وصحة التوقيع، ودعت المواطنين إلى تقديم ما يثبت أولًا انصياعهم إلى قانون التصالح، ثم وجود عقود بيع نهائية بين الطرفين من المحاكم المختصة في هذا الشأن.

الملاك الحاليون للوحدات غير المخالفة، التي لا تجد الحكومة طريقةً لإجبارهم على التسجيل في الشهر العقاري بسبب استقرار أوضاعهم وترفيق شققهم، فإنهم يخضعون بالفعل إلى ضريبتين

نظريًا قالت الحكومة إن تكاليف تسجيل الوحدات أو العقارات في الشهر العقاري ستكون بسيطة ولمرةٍ واحدة، فانتشر نموذج يقول إن الشقة التي تصل مساحتها إلى 100 متر سوف تدفع نحو 625 جنيه تسجيل ورسوم مساحة، وأن الشقة التي تصل مساحتها إلى 200 متر ستصل رسوم تسجيلها إلى نحو 1175 جنيهًا، وأن أقصى مساحة، أكثر من 300 متر، لن تتجاوز رسوم تسجيلها 2275 جنيهًا. 

تقول الحكومة أيضًا إن إجراء تسجيل العقارات في الشهر العقاري سيحل عددًا من المشكلات ويمنح المالك الأخير عددًا من الميزات، إذ سيقلل التسجيل من حجم المنازعات في القضاء، وسيحد من مشكلة تسلسل الملكية التاريخية، وسيمنح المالك إمكانية الحصول على قرض من البنك، بضمان وحدته العقارية.

لكن عمليًا، يقول المواطنون إن هذا الإجراء غير مفهوم، فبغض النظر عن دستورية قانون التصالح الذي أجبر المواطنين على دفع رسومٍ كبيرة للتصالح بأثر رجعي على مشكلة ساهمت الحكومة في اندلاعها بعجزها عن توفير الطلب على الإسكان بأسعار مناسبة ما سمح بالتمدد العشوائي أو بالموافقة على ترفيق هذه العقارات رغم كونها مخالفة بشكل أو بآخر، فإن هذا القانون الجديد للشهر العقاري يعد جبايةً صريحة لا مبرر لها، وابتزازًا لأصحاب الشقق الجديدة، لا سيما عند ربط الترفيق بالدفع والتسجيل في الشهر العقاري.

بحسب الصيغة الأخيرة لقانون الشهر العقاري الجديد، فإن رسوم التسجيل التي قد تبدو بسيطة قياسًا على سعر الوحدة، لن يستطيع المواطن دفعها إلا بعد أن يقوم بعدد من الإجراءات البيروقراطية بين كثير من المصالح الحكومية التي ستستنزف جيبه بعد معاناته التي لم تنته بعد مع قانون التصالح، مثل رسم الضريبة العقارية ورسم التسجيل في الشهر العقاري ورسم نقابة المحامين والرسم الهندسي ورسم دعوى صحة ونفاذ ورسم الأمانة القضائية، وهو ما سيضاعف المبالغ المدفوعة بشكل يفوق ما تروجه الحكومة، حيث يتقاطع هذا الملف مع عدد من الجهات والتخصصات مثل: المالية والقانون والهندسة والمحليات.

الفئة المستهدفة من قانون الشهر العقاري الجديد الذي كان يفترض أن يبدأ تطبيقه بدايةً من الـ6 من مارس/آذار المقبل، لكن عادت وأعلنت الحكومة المصرية، تأجيل تطبيق القانون حتى نهاية العام الجاري، هي الوحدات المخالفة التي خضعت للتصالح وتريد إكمال إجراءات إثبات ملكية وحداتها بعد أن نزعت الحكومة الاعتراف عنها بموجب قانون التصالح، بالإضافة إلى الوحدات الجديدة التي ستبنى بعد رفع حظر البناء وفق الاشتراطات الفنية الجديدة، إذ لا بناء وترفيق دون الخضوع للكود الجديد، وتسجيل الوحدات في الشهر العقاري.

أما الملاك الحاليون للوحدات غير المخالفة، التي لا تجد الحكومة طريقةً لإجبارهم على التسجيل في الشهر العقاري بسبب استقرار أوضاعهم وترفيق شققهم، فإنهم يخضعون بالفعل إلى ضريبتين: الضريبة الأولى هي الضريبة العقارية، التي كانت تعرف قديمًا باسم ضريبة العوايد ضمن القانون 56 لسنة 1954، جرى تطويره بالقانون 196 لسنة 2008، أو ما يعرف بقانون بطرس غالي.

وتدفع هذه الضريبة سنويًا بمقدار 10% على كل وحدة سكنية تتجاوز قيمتها الإيجارية السنوية 24 ألف جنيه (حد الإعفاء) مع الأخذ في الاعتبار عدة عوامل فنية في التقييم مثل وعاء الضريبة، بعد أن كانت الشقة السكنية الأولى معفاة كليةً من الضرائب، وتقل هذه الحسبة لصالح الوحدات الصناعية والإدارية والتجارية، ويقدم الإقرار كل 5 أعوام.

الضريبة الثانية، هي ضريبة “التصرفات العقارية” التي يلزم قانون الشهر العقاري الجديد مشتري الوحدة بتقديم ما يثبت الوفاء بها بالاتفاق مع البائع، وهي ضريبة مفروضة بنسبة 2.5%، على أي حركة ربحية تتم عبر انتقال الملكية من مالك الوحدة أو مالك الأرض الفضاء المستغلة، باعتبارها نوعًا من الدخل، بموجب القانون 91 لسنة 2005، وقد توسعت الحكومة في تحصيلها بحيث تشمل انتقال الملكية بعد “الوراثة” حال التصرف فيها ضمن قانون 158 لسنة 2018.

الأسباب

بعض هذه القوانين تتقاطع مع الصالح العام بالفعل، لكنه تقاطع عرضي، فالحكومة حينما أعلنت قرار وقف البناء، وهو قرار قلص من النشاط العمراني غير المنظم، لم تقل كيف ستدعم القطاع العقاري الذي طالما روجت إلى أنه قاطرة الاقتصاد، نظرًا لما يتسم به من قدرة تشغيلية عالية وعدد كبير من الصناعات المتداخلة.

وعندما قررت عقاب ملايين من أصحاب الوحدات السكانية جماعيًا بموجب قانون التصالح، لم تكشف للرأي العام أسماء ومنهجية انتقاء “حيتان” المقاولين التي قالت إنها أجبرتهم على الدفع، أو خطط مراجعة أسماء المسؤولين عن ترفيق العقارات المخالفة من الجهاز الإداري للدولة، كما لم تكشف سبب إرجاء التسهيلات المالية الخاصة بالتصالح إلى حين اندلاع مظاهرات كبيرة في القرى والريف.

ورغم استعدادها المسبق للوصول إلى أبعد مدى في الصراع مع السكان من أجل تطبيق بعض هذه الإجراءات كما حدث في أكثر من مناسبة سابقة، تجاهلت الحكومة التصدي إلى إحدى أبرز المشكلات العقارية التي تهم ملايين المواطنين بالفعل منذ أمد بعيد، وهي مشكلة قانون “الإيجار القديم” الذي يسمح لبعض السكان بالعيش في شقق فارهة، بالإيجار، مددًا مفتوحة، بمقابل زهيد، لمجرد أنهم ورثوا هذه الشقق ضمن هذا القانون المعيب بشهادة رجال القانون.

ولا يبدو أن النظام يولي أهميةً حقيقية لرعاية حق الدولة في حماية سوق العقار من سطوة أساطين المقاولات، حيث منح النظام مؤخرًا هشام طلعت مصطفى (رجل أعمال ثبت اتهامه بالفساد والقتل وأفرج عنه السيسي بعفوٍ رئاسي)، 5 آلاف فدان من الأراضي في العاصمة الإدارية لتدشين مشروع عقاري طويل الأمد بسعر بخس للمتر الواحد يقل نحو 5 أضعاف عن ثمن سعر المتر الحقيقي، وبالأمر المباشر، قبل أن يوافق النظام أيضًا على التصالح مع وزراء سابقين في حكومة مبارك ثبت تربحهم من سوق العقار المصري في قضايا فساد مليارية.

لذلك، فإن إجراءات الحكومة وقوانينها التي ظهرت أو فعلت بشكل متتالٍ مؤخرًا لا تصب إلا في 3 اتجاهات محددة: الأول هو تنفيذ مخيال السيسي عن العمران، تلك المشكلة التي كانت تؤرقه منذ أن كان طالبًا في الكلية الحربية على حد قول زوجته، وهو مخيال استحواذي يتضمن سيطرة الدولة على القطاع ضمن سيطرتها على باقي القطاعات، بشكلٍ يمنع ظهور أي تمدداتٍ عمرانية عشوائية مجددًا.

وقد أطلق السيسي هذه الإجراءات معًا، ضمن المرحلة الثانية من مشروعه التي تتعلق بإعادة النظر في “ديموغرافيا” البلاد، السكان والإسكان، بعد انتهاء المرحلة الأولى المتعلقة بتثبيت أركان الدولة، حيث إعادة هيبة المؤسسات الأمنية وتحرير الدعم الاقتصادي والتخلص من خصومه السياسيين والانتقال إلى عاصمة جديدة بها قدرات أكبر على التحكم والسيطرة.

باتت معظم المحررات النيابية والإجراءات القضائية في المحاكم الكبرى وشؤون المحاماة مرقمنةً إجباريًا، وفي العقارات فإن الدولة تستهدف حصر كل العقارات ضمن منظومة واحدة تسمى “أملاك الدولة” جنبًا إلى جنب مع حصر عقارات وأراضي المواطنين

السبب الثاني يتعلق بطموحات السيسي في “الحوكمة”، فكل معلومةٍ وكل أصل عيني وكل جنيه في الدولة لا بد أن يكون محصورًا ومربوطًا بقاعدة البيانات الرئيسية الموجودة في العاصمة الإدارية تحت الأرض والمعروفة بـ”عقل الدولة”. 

في مصر السيسي، بات كل شيء رقميًا: عدادات المرافق تعمل بالكروت الذكية مسبقة الدفع بحيث يستطيع من يملك المال فقط أن يحصل على الخدمة بدلًا من العدادات التقليدية التي تعطي لك الطاقة أو الماء أو الغاز ثم تدفع نهاية الشهر، ومنظومة التعليم مرتبطة بالمنصات الإلكترونية، دراسةً واختبارات، بحيث تقضي على الطرق غير الرسمية كالدروس الخصوصية، والمعاملات المالية الورقية في طريقها إلى الموت بعد رفض الحكومة التعامل بـ”الكاش” بما يجعل كل التعاملات الخاصة بالمواطنين مرصودة رقميًا.

وفي القانون، باتت معظم المحررات النيابية والإجراءات القضائية في المحاكم الكبرى وشؤون المحاماة مرقمنةً إجباريًا، وفي العقارات فإن الدولة تستهدف حصر كل العقارات ضمن منظومة واحدة تسمى “أملاك الدولة” جنبا إلى جنب مع حصر عقارات وأراضي المواطنين، في الوقت الذي تقوم فيه بمتابعة حركة البناء بالأقمار الصناعية، وتجبر أصحاب الإيجارات على توثيق وحداتهم في أقسام الشرطة.

بجانب الأسباب الأمنية وتقليص البيروقراطية والحد من العنصر البشري، فإن هذه “الرقمنةَ” تساعد في التأكد من فرض ضرائب جديدة بصورة شمولية وآلية، حيث تأتي الضرائب العقارية الجديدة بالتزامن مع حزمة ضرائب ابتكرها النظام لتوسيع موارده في أزمة كورونا مثل اقتطاع 1% من مرتبات الموظفين، وضريبة مذياع السيارات التي وصلت إلى 100 جنيه، ودمغات المحمول الشهرية، دون مراعاةٍ لحدود قدرات المواطنين على تحمل هذه الضرائب غير المسبوقة في تاريخ البلاد، أو كما قال السيسي من قبل: “هتدفع يعني هتدفع! ببلاش؟ أنا معرفش حاجة ببلاش”.