“في مراهقتي، كنت شاعرًا، أكتب الشعر بالورقة والقلم، بيد أنني مللت الأمر، فبدأت أكتب قصائدي على جدران وحوائط المباني والحمامات، من ثم أخذت ألتقط صورها في هذه الأماكن، بعدها شرعت في تصويرها بكاميرا فيلم 8 مم، وفي نهاية الأمر حولت الكاميرا اتجاهي، وبدأت تصوير نفسي فيما أقرأ القصائد، دون أن أشعر، وجدت نفسي قد صنعت فيلمًا، هذا ما حدث”.
هذا ما حدث، أصبح شيون سونو ـ Sion Sono مخرجًا وصانعًا مهمًا للأفلام دون أن يشعر، وأظن أن هذا أفضل استهلال للحديث عن المخرج الذي أثار جدلًا واسعًا بشأن كيفية صناعة أفلامه ومدى تناوله لمواضيع في غاية الحساسية للمجتمع الياباني على وجه الخصوص، ظهر مثل شبحٍ، سافر لأمريكا لكي يتعلم، بيد أنه لم يتعلم شيئًا لأنه لم يكن يحضر الكورس التعليمي، وعاد إلى اليابان، وبكاميرا Super 8 بدأت صناعة الأفلام تسطو على حياته بشكل أو بآخر.
يصنع شيون أفلامًا غرائبيةً، عصيةً على التصنيف بشكل عام، بيد أن أغلبها يقع في منطقة الـEro guro nansensu، للتوضيح هذا المصطلح يتكون من ثلاث كلمات مقتبسة من الإنجليزية، كلمة Ero وتعني الشبق الجنسي أو شهواني/Erotic، وكلمة Guro وهي اختصار لكلمة grotesque التي تعني شيئًا غريبًا، وترمز هنا للأشياء المروعة/المشوهة، وغالبًا ما تمثل عنفًا أو دمًا، أما كلمة nansensu فهي تحريف للكلمة الإنجليزية Nonsense وترمز لشيء بلا معني/هراء/بلا أساس.
هذا التصنيف الذي يغوص في غرائبية جنسية وانحطاط وتقزز جسدي وبحار من الدماء، ليس غريبًا على السينما اليابانية التي أوجدت ناجيسا أوشيما ويوشيشيجي يوشيدا وأكيو جيسوجي والعديد من المخرجين الآخرين الذين رفعوا الموجة اليابانية الجديدة على ظهورهم فيما تناولوا الجنس تناولًا مركزيًا مهمًا تنبثق منه الكثير من أفعالنا.
والجدير بالذكر أن تأثير الحرب العالمية والانفجارات النووية على اليابان التي سبقتها ثم تبعتها سياسة منع وكبح رقابي صارم، بجانب الثقافة الآسيوية القديمة التي تقدس الجنس كشيء سامٍ، أخرجت من ضلعها هذا الكم من العنف والجنس.
ومن المفارقات التي يجب حكيها لأنها أثرت في سينماه بعد ذلك، يحكي شيون في مرة أنه هرب من منزل والديه، لم يجد مكانًا ليذهب إليه، حتى قابل أحد كهنة الديانات الجديدة Cult Religion، وقال له: هل إذا تعبدت إلى إلهك سيوفر لي الطعام والشراب؟ وأنضم إليهم لكي يجد المأوى والطعام والشراب، هذه التجربة ألهمته فكرة Zero Church في فيلمه Love Exposure.
بجانب ثقافة الساموراي اليابانية، تأثر شيون بالسينما الغربية، أحب جون كازافيتس وفيدريكو فيلليني وبول فيرهويفن، وتأثر بالمخرج مارتن أسكورسيزي خصوصًا Taxi Driver، وحاول محاكاة نفس الأجواء في فيلمه Hazard من خلال تصويره في نفس المدينة New York.
يروم شيون سونو منفلتًا عن كل تصنيف، لا يمكن حصره في قالب معين أو نطبق عليه معايير زاوية معينة، بحيث نستطيع دراسته بشكل دقيق ومركز، فأفلامه تحوم فوق جميع الأنواع، الكوميدي والرعب والدراما، وفيلم Love Exposure يشهد على ضعف حيازة أي نوع من الصنوف عندما نتحدث عن سونو، بيد أن هناك بعض العلامات التي تميز سينما شيون سونو سنحاول أن نتحدث عنها باختصار في هذا المقال.
المرأة
طور سونو سمعة سيئة فيما يخص النساء في أفلامه، لدرجة أثارت عليه هجومًا نقديًا حادًا، فيما يستخدم المرأة استخدامات مشوهة ويعبر عنها كأداة جنسية إيروتيكية، واتهموه بكراهية النساء غير المبررة، إذ تظهر الشخصيات النسائية في أغلب أفلام سونو كشخصيات مشوهة، مقتطعة من السياق الاجتماعي الأسري، مصابة بلوثة جنسية، بمعنى ارتفاع الشبق الجنسي لدرجة كبيرة، أو على العكس، تجد نفسها مقحمة في علاقات دون أن تشعر.
في فيلم (Guilty Of Romance) تتناوب ثلاث شخصيات نسائية أدوار البطولة وتتقاطع خطوطهن بشكل يجعل كل منهما تتأثر بالأخرى، يأخذنا سونو في رحلة البحث عن الهوية، ليست بالضرورة الهوية الجنسية، رغم لعب الجنس الدور الأكبر في دفع الأحداث إلى الأمام ـ كما قلنا سابقًا إن أفلامه تنتمي لما يسمى Ero guro nansensu ـ الشخصية الرئيسية مثل الفتاة المراهقة، تستكشف جسدها، ومدى تأثير/قوة جسدها على المجتمع الياباني الذكوري، بينما تحاول أن تتكشف مكمن قوتها، تصدم بحقيقة كم هي رخيصة، بيد أن الرخيص يمكن أن يكون باهظًا يومًا ما، إذا استطاع استغلال إمكاناته والشخصية الأخرى التي تعاني نوعًا من الانفصام والوقوع في المحرم، الذي يسمى المحارم، لأنها كانت تحب والدها كأداة جنسية، وعندما توفي صدمت بمدى استوحاش ذلك الإحساس بالشبق ومدى استفحال الوحدة، فقررت أن تعمل عاهرة ليلًا.
الشخصية الثالثة المحقق، تعاني من الملل في العلاقة، فتضطر لدخول علاقة محرمة سادية، تجعلها تشعر كم هي رخيصة. هناك شخصية ثانية مهمة يجب التحدث عنها، في فيلم Cold Fish تبدو جميع النساء في أول الأمر قويات، لكن بعد ذلك يظهر مدى ضعفهن وتشوههن ككيان غير سوي في نظر سونو، فزوجة موراتا القاتل، مسلوبة الإرادة بشكل كلي، حتى إذا كانت ظاهريًا امرأةً ذات قوة وبأس، لكن عندما مات زوجها، واستطاع شاموتو أن يفرض سيطرته عليها، تحولت إلى شيء مسلوب الإرادة مرة أخرى، أداة جنسية وآلة لتحقيق مطالب الشخص الأول، تلك العلاقات السادية تنتشر في أفلام سونو، حتى بين النساء أنفسهن.
شخصية أخرى في فيلم Strange Circus الفتاة الصغيرة، شخصية في غاية التعقيد، بيد أن التحولات التي تطرأ عليها تجعلها خارج المألوف، كامرأة نالت ما تريد في آخر الأمر.
الشخصيات النسائية هي شخصيات ذات أوجه عدة، لا يمكن تصنيفها إلا شخصيات قوية في ظاهرها، لكن انكسارها داخليًا يوضح خلل اجتماعي ظاهر في المجتمعات الذكورية، بيد أنه على النقيض، يرسم سونو شخصياته النسائية بطريقة تجعل مصدر قوتها الأكبر جسدها ولطفها وحركاتها، ويصنع من تلك الصفات سلاحًا يجعل النساء تتحكم بشكل كبير في الرجال، وتخضعهم لرغبتهن في كثير من اللقطات مثل فيلم Why don’t you play in hell، وlove exposure بحيث تلعب النساء على غريزة الرجال، وبمزيج من الخباثة يطوعن الرجال ويسيرن الطريق كما يردن، لكن النهايات في كل مرة تكون سيئة للنساء، بالموت أو التشوه أو الضياع، لا شيء جيد بالنسبة للنساء، حتى شهوة الانتقام غير مرضية.
الأسرة
من المعروف أن الأسرة في المجتمع الياباني كيان مقدس لا يمكن تفكيكه، غير أن سونو من الجيل المابعد حداثي، الذي عانى من التأثير طويل الأمد للكوارث والحروب، وشاهد بأم عينه الفردانية والذاتية التي تجشمها المجتمع الياباني، سونو ليس وحيدًا في تلك الخيالات، فمنذ بداية السينما اليابانية، ناقش ياشجيرو أوزو ذلك التفكك الأسري الذي قاسى منه المجتمع الياباني فيما بعد الحرب، وبداية العصر الاستهلاكي والمجتمع الصناعي.
بيد أن سونو تناول الأسرة كشيء بغيض، محطم للأفراد بشكل خاص، يلزم الأفراد بمعايير وتقاليد مجتمعية يابانية لا يجب الفرار منها، كأسرة تقليدية تواصل وضع الخطوط الحمراء كهواية، وذلك يقتل الأشخاص كأفراد، لذلك تظهر أفلامه العائلة كمقام مهمته تحطيم الأبناء وتشويه شخصياتهم، وإظهار أسوأ نسخة منهم.
وأصبحت هذه سمة مهمة في ملامح سينما سونو، تظهر تلك الثيمة بوضوح وقوة في أفلام مثل Himizu وStrange Circus وAntiporno، ففي أفلام سونو العائلة هي أصل كل الشرور.
العنف والدماء والكوميديا
يرتبط اسم شيون سونو بثيمة خاصة ومهمة تطبع أفلامه، مثل “تارنتينو” يستعمل سونو العنف والدماء في خدمة الكوميديا، ففي بعض الأوقات تبدو مشاهد الدماء سطحية لكنها تخدم نوعًا من الكوميديا السوداء.
يطوع سونو المشاهد الدموية والعنف المفرط سواء كان جنسيًا أم جسديًا في خدمة كوميديا بارعة، فالإفراط في الدماء في حد ذاته شيء يدعو للسخرية وللتفكير في آن واحد، غير أن نزعة العنف المضاعفة في أفلام سونو لا تخدم بالضرورة الكوميديا، بل من الممكن أن تخدم المناخ العام للفيلم، تكثيف الشعور عند المشاهد، والإحساس بالخطر.
في الكثير من المشاهد بفيلمه الشهير Suicide Club يستخدم سونو مشاهد دموية صريحة، مثل مشهد الأم التي تقطع أصابعها دون أن تشعر بالألم، هذا لا يستدعي أي نوع من الضحك، بل يروع المشاهد ويدفعه للتفكير بشكل أكبر عن حيثيات المشهد، يقول سونو عن فيلمه Cold Fish:
“في الأفلام الكوميدية، يقحم البطل في مشاكل ومواقف سيئة دون ذنب، يتبع هذا الفيلم قواعد صناعة الكوميديا، يجد البطل نفسه في مواقف عصيبة بشكل متكرر، بنية الفيلم تشبه بنية الأفلام الكوميدية، عندما بدأت في صناعة فيلم Cold Fish كلما عزمت أن أكون صارمًا، أن أتوحد أكثر مع الشخصية، تحول الأمر لشيء مضحك بالنسبة للجمهور”.
يمكننا القول إن سونو يجد نفسه دون أن يشعر، مقحمًا في هزلٍ دموي، تنفجر من أجله الرؤوس، ويضخ الدم في الأرضيات الخشبية، لكي يصنع شيئًا مثيرًا للضحك، مثل مشهد فيلم Why Don’t You Play In Hell عندما قتلت الأم أغلب أعضاء الياكوزا، ودخلت البنت الصغيرة لتجد بركة من الدماء وتتزحلق عليها مثل المياه، وتخترق الجدار الخشبي وتقترب من عضو الياكوزا، الذي بالضرورة يعشق تلك الفتاة بسبب الإعلان الدعائي خفيف الظل الذي مثلته في التليفزيون، ليتحول الموقف الخطير، إلى موقف أكثر كوميدية من أي شيء آخر، وفي نفس الوقت هذا التضاد والتنافر بين بيئة المكان والنص الذي يقوله الممثلون، يصنع كوميديا عظيمة.
الدين والإله والخطيئة
“أنا معجب جدًا بشخصية (المسيح)، لكنني لا أحب الديانة المسيحية، إذا كانت الكنيسة تمثل نادي معجبين بشخصية المسيح، سأنضم إليهم”.
عوالم شيون سونو عوالم ما بعد حداثية، فاقدة لشرعية الإله، خالية من الإيمان بمعناه المعروف، فيها من الانحطاط والكآبة والتوحش ما يستدعي النظر، فهي خاوية من التصديق بأي شيء، حتى الإنسان، عوالمه محفوفة بالخطر، تخفق بالدماء والعنف، والنبش الجسدي والاستغلال المالي، حتى الكوميديا الخاصة به لا تخلو من اللعنات على المجتمع، لذلك يمكننا أن نميز الجانب الاجتماعي في أفلامه كجانب مفكك، متفسخ، منسلخ عما يسمى القيمة الاجتماعية للفرد داخل الجمع، وهذا يحيلنا لمشكلة غياب تام لقوة الدين والوعي بالإله.
لم نسمع أي شيء تقريبًا عن الإله أو غيره إلا في فيلم Love Exposure وكان مجرد سخرية من الكنيسة الكاثوليكية وتقاليدها، والإشارة للديانات الجديدة، المفرطة، الخالية من الأصالة والفهم، وبناء على ذلك، فهذه العوالم مباحة، كل شي مباح في سبيل إرضاء الغريزة، ولا يوجد معنى واضح للخطيئة، سواء على المستوى الاجتماعي أم اللاهوتي، حتى الشرطة – المسؤولة عن الضبط الاجتماعي – أدوارها صغيرة جدًا، ولا يوجد ما يسمى بضمائر البشر.