دخلت المدمرة الحربية الروسية “الأدميرال غريغوروفتش” ميناء بورتسودان، أمس الأحد 28 من فبراير/شباط 2020، في سابقة هي الأولى من نوعها أن تدخل سفينة روسية إلى مياه البحر الأحمر، تمهيدًا للبدء في إنشاء القاعدة البحرية الروسية في السودان، التي تم الاتفاق عليها رسميًا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وصول السفينة الروسية إلى بورتسودان يأتي بعد يوم واحد فقط من وصول المدمرة الأمريكية “يو إس إس تشرشل” إلى الميناء ذاته، وهي السفينة الأمريكية الثانية التي تصل إلى الميناء خلال أسبوع، حيث رست “يو إس إس كارسون سيتي” في الميناء السوداني يوم 24 من فبراير/شباط الماضي، لتكون بذلك أول سفينة تتبع البحرية الأمريكية تزور ميناءً سودانيًا منذ عقود.
لأول مرة يشهد ميناء واحد رسو سفينتين حربيتين، إحداهما تابعة للقطب الأمريكي والأخرى للدب الروسي، الأمر الذي يعكس حجم الصراع على النفوذ الإفريقي، لا سيما بعدما باتت القارة السمراء قبلة العديد من القوى الدولية لما تمتلكه من مقومات استثمارية هائلة فضلًا عن موقعها الجيوسياسي الإستراتيجي.
يذكر أن الاتفاق الروسي السوداني لتدشين القاعدة البحرية وضعت بذوره الأولى في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير فيما جاء الحضور الأمريكي بالتنسيق مع حكومة ما بعد الثورة، بمكونيها، العسكري والمدني، الأمر الذي قد يحول ميناء بورتسودان إلى ساحة للصراع الدولي لا سيما إن وضعنا في الاعتبار دخول قوى أخرى على الخط مثل تركيا والصين وبعض العواصم الخليجية.
الحلم القديم يتحقق
في 11 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020 نشرت الحكومة الروسية مسودة اتفاق مع الخرطوم، تشير إلى رغبة موسكو في تدشين مركز لوجستي للبحرية التابعة لها في السودان، يستوعب قرابة 300 جندي وموظف، بطاقة استيعابية تتجاوز أربع سفن بما في ذلك السفن المزودة بتجهيزات نووية.
هذه الخطوة جاءت تتويجًا لاتفاق قديم وقعه البشير خلال زيارة له لموسكو قبل ثلاثة أعوام، وكان ينص على إقامة علاقات عسكرية واقتصادية قوية بين البلدين، بجانب تزويد روسيا الجيش السوداني بحزمة من الأسلحة، كانت البداية 300 دبابة روسية يتم تسليمها للسودان بعد عام من التوقيع.
وبحسب المسودة فإن الهدف المعلن ظاهريًا من تدشين القاعدة الروسية في الميناء السوداني، الحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة، مع التأكيد على عدم استخدامها في أغراض دفاعية ضد الدول الأخرى، مع إقرار أحقية السودان في استخدام منطقة الإرساء بالاتفاق مع الجهة المختصة من الجانب الروسي.
هذا بجانب التعاون الاستخباراتي والسياسي بين البلدين وتبادل المعلومات والآراء المتعلقة بالقضايا العسكرية والأمنية وتطوير العلاقات في مجال التدريب الهندسي وكل مجالات العلوم العسكرية من تاريخ وتضاريس وطب وهيدروغرافيا وخلافه.
بهذه الخطوة – حال دخولها حيز التنفيذ – تحقق موسكو حلمها القديم في الوجود داخل مياه القارة الإفريقية، وهو الحلم الذي ظل يراودها لعشرات العقود، منيت فيها كل محاولاتها بالفشل منذ الرئيس الروسي الراحل نيكيتا خروتشوف الذي لم يستطع إقناع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بالحصول على أرض مصرية لبناء قاعدة روسية فوقها، رغم العلاقة القوية التي كانت تجمع بين البلدين وقتها.
يأتي التحرك الروسي لإقامة قاعدة عسكرية في السودان ضمن خطة ممنهجة تستهدف تعظيم نفوذ الدب الآسيوي داخل إفريقيا، تحقيقًا لحزمة من المكاسب الاقتصادية والاستثمارية في ظل ما تتمتع به القارة من موارد كبيرة وسوق يتسع للمنتجات الروسية من جانب، ومزاحمة النفوذ الأمريكي والصيني المتصاعد داخل إفريقيا، من جانب آخر.
استعادة النفوذ ومجابهة القوى الدولية
في الجهة الأخرى ترى أمريكا في الأجواء الإيجابية التي تشهدها العلاقات مع السلطة السودانية الانتقالية الحاليّة فرصة لاستعادة نفوذها المتراجع إفريقيًا مرة أخرى، خاصة أن حرب النفوذ مع الصين وروسيا دخلت آفاقًا تصعيديةً لم تشهدها من قبل.
التقارب الأمريكي السوداني الحاليّ الذي كان من نتائجه إزاحة اسم السودان من قوائم الإرهاب ورفع العقوبات المفروضة عليها بعد عقود طويلة من الثمن الغالي الذي دفعه البلد الإفريقي جراء تلك الخطوة العقابية، في مقابل انخراط الخرطوم في مسار التطبيع الإجباري مع دولة الاحتلال رفقة الإمارات والبحرين والمغرب، لا شك أن واشنطن ستستغله قدر الإمكان لتعزيز مصالحها داخل القارة.
الدعم الأمريكي للسلطة الانتقالية السودانية، دفع الأخيرة لفتح باب البلاد على مصراعيه أمام الوجود الأمريكي تحت ستار التعاون وتحقيق المكاسب المشتركة، وهو ما حفز الأمريكان لتعزيز وجودهم العسكري بالمياه الإقليمية السودانية في البحر الأحمر بعد سنوات من الغياب.
تأتي تلك الرغبة الأمريكية في الوجود داخل مياه البحر الأحمر بعد تكالب العديد من المنافسين الدوليين على موانئ هذا الشريان الحيوي، وهو ما يهدد مصالح الولايات المتحدة، ليس داخل إفريقيا فحسب، خاصة أن تلك الممرات تتحكم في مسار النقل البحري بين القارات الثلاثة، آسيا وإفريقيا وأوروبا.
تنافس إقليمي
أثار الموقع الجيوسياسي لمنطقة شرق السودان، المطلة على البحر الأحمر (الممر الرئيسي لعبور 3.3 مليون برميل نفط يوميًا)، اهتمام الكثير من الدول لتعزيز حضورها في تلك البقعة السحرية ذات الأهمية الإستراتجية الكبيرة، فلم يقتصر التنافس على روسيا وأمريكا فحسب، فهناك العديد من القوى الأخرى كانت حاضرة بقوة في هذا المضمار.
يأتي على رأس تلك القوى، تركيا، التي نجحت خلال السنوات القليلة الماضية في تعظيم وجودها الإفريقي، من خلال إستراتيجية كاملة لتعزيز التعاون مع دول القارة، حيث دشنت قاعدةً ومطارًا عسكريًا في مقديشو عاصمة الصومال، هذا بخلاف الاتفاقية المبرمة بين أنقرة والخرطوم بشأن جزيرة سواكن الساحلية.
قطر هي الأخرى حاضرة بقوة في حلبة التنافس على تلك المنطقة، حيث قدمت في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 عرضًا من شقين أولهما تأهيل وتطوير ميناء بورتسودان ليصبح أكبر ميناء يستقبل الحاويات في المنطقة، والثاني إقامة ميناء جديد كليًا في سواكن.
علاوة على ذلك، فقد دخلت الإمارات على خط النفوذ بشكل كبير، البداية كانت بالاتفاق من أجل إنشاء قاعدة عسكرية في بربرة عاصمة أرض الصومال – غير معترف بها -، لكن تم إلغاؤه فيما بعد، كذلك قاعدة لها في ميناء عصب الإريتري، بخلاف أجندتها للسيطرة على الموانئ اليمنية في الناحية المقابلة.
أحاديث تدور بين الحين والآخر عن رغبة صينية ويابانية للحصول على جزء من كعكة بورتسودان في ظل تعاظم أهمية وقيمة الميناء بعد تطويره، وهو ما جعله قبلة للتنافس – قد يرتقي للصراع – بين مختلف القوى الساعية لتعزيز وجودها داخل إفريقيا.
السودان: مرحلة جديدة من التحالفات
فتح السودان شريطه الحدودي للقوى الدولية يندرج تحت سياسة تنويع العلاقات التي تنتهجها السلطة السودانية الانتقالية، لا سيما مكونها العسكري الذي يسعى لتوطيد العلاقات مع كل القوى بما يعزز حضوره ويعاظم مكتسباته بما يضمن له البقاء أطول مدة في السلطة.
العقود الماضية أثبتت أن التعويل على طرف واحد سياسة فاشلة وتحمل الكثير من المخاطر، وهو ما حدث مع الأمريكان، الأمر الذي دفع السلطة السودانية إلى تعزيز خريطة التحالفات، لتضم قوى من كل التيارات، بعضها يعاني من خصومة مع البعض الآخر، كما هو الحال في الثلاثي الأمريكي الروسي الصيني.
ساعد على ذلك الوضعية الاقتصادية الحرجة التي يحياها السودان، التي أصبحت تشكل مأزقًا كبيرًا قد يهدد مستقبل السلطة الانتقالية الحاليّة، خاصة مع تزايد الغضب الشعبي خلال الآونة الأخيرة، حتى أصبحت ورقة ضغط كبيرة تدفع البلاد لفتح أبوابها لأي جهة تقدم يد العون والمساعدة.
وكانت الحكومة السودانية المؤقتة بقيادة عبد الله حمدوك، قد وضعت ضمن أولوياتها إعادة ترتيب خريطة التحالفات مرة أخرى، بحيث تكون مصالح البلاد هي المؤشر الذي يحدد توجه الدولة خلال المرحلة القادمة، وذلك بعد عقود طويلة ظلت الخرطوم فيها أسيرة لأمريكا ودول الخليج، الأمر الذي انعكس سلبًا على الثقل الإقليمي والدولي للبلد ذي الموقع الإستراتيجي المتميز.
مخاوف
الصراع على شرق السودان خاصة الميناء يحمل بين ثناياه بذور انفجار وشيك، فالتحركات الإقليمية والدولية في هذه المنطقة تشكل تهديدًا كبيرًا لبعض الدول المجاورة، على رأسها مصر، إذ إن بناء قواعد عسكرية هناك يمثل تهديدًا لأمنها القومي من الناحية الجنوبية وحركة الملاحة في قناة السويس، وهو ما تحاول الخرطوم التقليل من تأثيره من خلال تقاربها الدبلوماسي مع الجارة الشمالية خلال الآونة الأخيرة.
الأمر ذاته مع السعودية التي تهدد تلك التحركات مصالحها في اليمن والخليج العربي، ويقوض من نفوذها لصالح دولة مثل الإمارات مثلًا، بخلاف تطويق يدها في مراقبة التحركات الإيرانية في هذه المساحة الجيوسياسية الخطيرة التي تلامس الأمن القومي السعودي بصورة كبيرة.
وعلى الجانب الآخر قد تثير تلك الخطوات قلق إثيوبيا، التي يعد بورتسودان شريانها النابض، بعدما فقدت موانئها بعد استقلال إريتريا، علاوة على تشاد وإفريقيا الوسطى، اللتين تعتمدان على الميناء السوداني في التجارة والنقل في ظل افتقارهما لأي منفذ بحري.
وبين التكالب لتعزيز الحضور الروسي الأمريكي الصيني الخليجي التركي شرق السودان والقلق من غضب الدول المتضررة من هذا التكالب وما قد ينجم عن هذا الغضب من ردود فعل غير متوقعة، تبقى المرحلة القادمة حبلى بكل السيناريوهات التي قد تجعل من بورتسودان حديث وسائل الإعلام العالمية خلال الآونة المقبلة.