“الأمر مريع، هوليوود في طريقها للهاوية، بعد أن نعمت بعصرها الذهبي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، الخمسينيات لم تكن بالجودة المطلوبة، في ذلك الوقت طغت جودة الأفلام الأجنبية بشكل حاسم وثابت، وساد عصر سينمائي عالمي ذهبي تأثرت به السينما الأمريكية وتغذت منه، وهذا انعكس على جودة أعمالها في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات”.
وودي آلان
بادرة السينما كانت أوروبية في ولادتها، بيد أنه لا يمكن اختصارها وإيجازها لتلك الوجهة فقط، فهذا إثم عظيم وتغريب وانحياز واضحين وتقصير في فهم اتساع المدى الثقافي الذي يمكن أن يصل له أي لون من ألوان الفنون، فالسينما فن عالميّ في وجهته، لا ينتمي لأي إقطاع أو شركة أو حتى منطقة جغرافية، فمثلما بلغ الاختراع – آلة التصوير – الولايات المتحدة بسرعة جنونية، لم يمر عام واحد حتى أدرك اليابان وأرفد من بواطنه أذرع امتدت في مزج عنيف بين خصوصية ذلك العالم وتفرده وثقافته والناحية الأخرى من العالم.
الجذور الأولى والأرض الخصبة
طموحات الإمبراطورية اليابانية الاستعمارية، وضعت حجر الأساس لأول أستوديو سينمائي في آسيا، الذي بُني خلال الحرب اليابانية الروسية عام 1905، وخروجها منتصرة من الحرب أنعش الصناعات الفنية، لأن انتعاش الإمبراطورية بهزيمة غريمها وسطوتها على كوريا، أعطاها مساحة أكثر للرخاء والبناء، ليس في الفن فقط بل سطوتها التجارية على معظم آسيا امتد ليطول السينما التي كانت في مهدها.
وأصبحت اليابان سوقًا بالنسبة للسينما الأمريكية، تعرض فيه أفلامها، وعلى الرغم من ذلك فضل اليابانيون صناعة أفلامهم الخاصة التي تعبر عنهم بشكل أفضل ولم يكتفوا بالفرجة، وهذا الشعور بالخصوصية الثقافية أضاء نافذة انبثق منها نور جديد، وهي شركات الإنتاج.
كانت شركتي “نيكاتسو” و”تشوتشيكو” أكبر شركتي إنتاج محلي، وسيطرتا بشكل هائل على السوق اليابانية، تأسست شركة نيكاتسو عام 1912 من عدة مؤسسات صغيرة اتحدت مع بعضها، أما شركة “تشوتشيكو” وهي الأهم، فقد تأسست عام 1920 من أخوين مالكين لمجموعة من المسارح الهزلية وأخرى من نوع الكوبوكي الشهير.
سيطرت الشركتان على عالم السينما لمدة ليست بالقصيرة، باستحواذهما على منافذ التوزيع والمواقع الصالحة للتصوير والمسارح وغيرها، ووصلت الصناعة التي كانت حتى تلك اللحظة تبدو بدائية إلى ذروتها حين نشرت مجلة تعبر عن هذا النوع من الفن سميت “Kinema Junpo”.
في سبتمبر/أيلول 1923، ضرب زلزال عنيف طوكيو، أثر على اتجاه السينما – الفني – بشكل عام، لكن لم يؤثر على غزارة الإنتاج، على العكس شيدت المسارح والأستوديوهات بكثرة وبشكل أكثر جودة، وأخذت الأفلام وقتًا أطول في التحضير والتصوير بما يعادل أسبوع أو اثنين، لتفضي هذه الموجة من العنفوان والنشاط الفني لنحو 800 فيلم في السنة الواحدة عام 1928.
على الوجه الآخر أثرت هذه الكارثة الطبيعية على القصص المحكيّة، فأضحت أغلب القصص المحكيّة كوميدية هزلية وانتشرت الميلودراما العاطفية منساقة مع الجو العام السائد بعد الكارثة الطبيعية.
تأثرت السينما اليابانية في مهدها بالمسرح أيما تأثير، وكان المسرح الشعبي “الكابوكي” أعظم المؤثرين، وأسوة بالمسرح كانت السينما تستعين بممثلين ذكور فقط، حتى في أدوار النساء، وانقسمت السينما إثر ذلك إلى نوعين: الأول هو نوع الأفلام التاريخية Jidaigeki التي كانت تمتاز بخلفية تاريخية قديمة وأسلوب قصصي مميز وأحيانًا معارك حربية وقتالات بالسيوف.
وقد تطور هذا النوع ليخرج منه فرع آخر سمي بالـChanbara، والآخر هو النوع الاجتماعي التي يتناول الحياة المعاصرة وسمي Gendai-geki وقد تميز بقصصه الجديدة في الدراما الحياتية وعرض المشكلات الاجتماعية بأسلوب مسرحي، لذلك فالأخير تأثر بالمسرح أكثر من غيره.
وبهذا نتصور أن الأفلام كانت تصارع المسرح الذي لم يخمد أو ينطفئ بفعل سحر الفن الجديد، فيمكننا القول إن السينما اليابانية على وجه الخصوص خرجت من ضلع المسرح، وفيما يشبه المسرحية تجاوزت مدة الأفلام الخمس ساعات، مع وجود الشخص المنوط بالعرض، المسمى بالـBenshi وهو الشخص المسؤول عن الحكي وشرح التفاصيل والمشاهد.
كان تسونيكيتشي شيباتا أحد صانعي الأفلام الذين مهدوا السينما اليابانية من الصفر، ويقال إنه أول من استورد كاميرا تصوير سينمائي، وأنتج بعض المشاهد من مسرحيات كانت تعرض في ذلك الوقت تنتمي للمسرح الكابوكي، ثم يأتي بعده ليكمل المسيرة المخرج شوزو ماكينو وهو أحد رواد السينما اليابانية، وأول مخرج ياباني على الإطلاق.
لكن عندما نتحدث عن السينما بشكل يشبه ما نراه الآن، يجب أن نذكر أول فيلم من هذا النوع، وهو فيلم “يوميات الرحالة شوجي – A Diary of Chuji’s Travels” عام 1927، وهو واحد من الأفلام الأوائل التي صُنعت بشكل محترف في هذا الوقت الغابر، كتبها وأخرجها المخرج دايسكوي إيتو – Daisuke Itō وهو أول من يمكن أن نطلق عليهم لقب سينمائي ياباني مستقل.
في نفس الوقت كان المخرج تينوسوكي كينوجاسا – Teinosuke Kinugasa يعطي أول الأدوار الثانوية للمرأة، ويصنع أفلامًا تجاوزت الحدود الجغرافية وتردد صداها تحت قباب أعرق المهرجانات في أوروبا، ويختمها بفوز مستحق لسعفة مهرجان كان الذهبية عن فيلمه Jigokumon عام 1954، لتمثل هذه الفترة الأساس لعصر ذهبي في السينما اليابانية.
بعد الحرب العالمية الأولي كان تطور السينما اليابانية سريعًا وملحوظًا، لأنها لم تنغلق على نفسها، بل استوردت تقنيات السينما الأمريكية، واستعانت بها في رفع النسق والأفلمة والوصول للشعور المطلوب لخدمة الشخصيات، وتمكن المخرجون من إنتاج لقطات سينمائية ذات رتم مرتفع لتخدم النص، بالإضافة لاستخدام تقنية الـFlash Back التي كانت مجهولة في تلك المنطقة.
وفي خضم أطماع الإمبراطورية اليابانية، استفحلت البنى العسكرية وسيطرت على الفن، لتستولد فترة صعبة بين حربين، تتسم بالعمل الشاق والمال الشحيح، وهذا كون أفكارًا أساسية للكتابة والتعبير عن حقبة صعبة تحت حكم صارم، بيد أن هذه الأفكار والأطروحات لم تعجب السلطات، فكانت تمنعها، لذلك لم توجد الكثير من الأفلام لتخدم تلك الأفكار، لأن هذا النوع من الأفلام كان يواجه بالقطع والمنع من الرقابة، لكن لم يتجمد الفن، واستطاع التحرر بالحيد عن تلك الأفكار ومحاولة تقديم الدراما الاجتماعية اليابانية والحياة العادية، ومهد هذا لبزوغ شمس العصر الذهبي للسينما اليابانية.
عام 1937 صنع المخرج ساداو ياماناكا – Sadao Yamanaka فيلمه التاريخي الأعظم Humanity and Paper Balloons الذي كان يدور حول إخفاقات ساموراي خائب، منع الفيلم ونفي المخرج إثره إلى الصفوف الأمامية بالجيش الياباني في الحرب اليابانية الصينية الثانية ولقي حتفه هناك بين أشياء ليس له بها علمٍ أو سلطان.
في تلك الفترة وفترة الحرب العالمية الثانية وما لحقها، بزغ نجم عدة أسماء أسطورية في عالم السينما اليابانية، من هذه الأسماء ياسوجيرو أوزو – Yasujirō Ozu وكنجي ميزوغوشي – Kenji Mizoguchi وبالطبع المخرج العبقري أكيرا كوروساوا – Akira Kurosawa، ويجب ألا نغفل دور المخرج غزير الإنتاج ميكيو ناروسي – Mikio Naruse الذي كان يعكس حالة شعورية شديدة الخصوصية في أفلامه، وكون إيشيكاوا – Kon Ichikawa متعدد المواهب بأفلامه المؤلمة، وأخيرًا الملهم ماساكي كوباياشي – Masaki Kobayashi بثلاثية الإنسانية الكاشفة.
لكن لم يتمكن الفن من الحرية، بسبب احتلال قوات الحلفاء لليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وتفعيلهم لسياسة القطع والمنع لكل ما هو معادي لمبادئهم.
عام 1954 وما قبله، عانى الشعب الياباني من آثار القنبلة النووية، وخرجت لنا الأفلام التي توضح تلك المعاناة، بيد أن أحد هذه الأفلام لم يتعامل مع الموضوع بشكل تقليدي، بل بشكل إبداعي، بحيث مرر رسائله للعالم متحررًا من القوالب التقليدية، ليصنع لنا المخرج إيتشيرو هوندا – Ishiro Honda أيقونةً يتم إعادة إنتاجها حتى الآن، فيلم Godzilla الذي أخذ المؤثرات البصرية لمنطقة أخرى تمامًا.
كل هؤلاء المخرجين ساهموا في تغذية جيل آخر من السينمائيين، وفي الخمسينيات تكونت الموجة اليابانية الجديدة، أسوة بالموجة الفرنسية الجديدة، لتحدث ثورة في السرد بمنطقة الشرق الأوسط، وتغذي العالم بأفلام تجريبية ومغامرات لم يخضها في هذا الوقت غيرهم، متأثرة بشراسة الوضع الاجتماعي بعد الحرب.
وكانت محصلة الحروب الضارية والقنبلتين سرد ما بعد حداثي صارم وقاتم، ساهم في خلق هذه الموجة اثنان من أشهر المخرجين اليابانيين: ناغيسا أوشيما – Nagisa Ōshima والعبقري إيمامورا شوهيه – Shōhei Imamura.
في 26 من فبراير/شباط 1963 حدثت محاولة انقلاب فاشلة، كان لها مفعول عكسي، فغذت الحكم العسكري والسياسة العسكرية المتعنتة، لكن الجدير بالذكر أن نقابة السينمائيين اليابانية تكونت قبل أيام من تلك الحادثة.
الذراع الأخرى لسينما شرق آسيا
تأثرت الصين بالأوضاع السياسية كما تأثرت اليابان، فالصين كانت ملازمة لليابان في وقت الظهور تقريبًا، أو متأخرة بضع سنوات. صنع أول فيلم صيني عام 1905، ومن وحي تلك القطرة بدأ الغيث في الانتشار، حيث بدأت تظهر ملامح الصناعة بعدها بخمس أو ست سنوات، لتتفشى من مركزية العاصمة شنغهاي نحو بقية البلاد بشكل متذبذب، بسبب غزارة عرض الأفلام الأمريكية في الأسواق الصينية، لدرجة وصلت فيها نسبة صناعة الأفلام الصينية 10% فقط من 500 فيلم يعرضون عام 1929، ما أثر على الذوق العام والإنتاج السينمائي المحلي بشكل خاص.
لكن أصحاب الأرض لم يستسلموا، لأن أغلب الفلاحين والبسطاء في ذلك الوقت لم يتمكنوا من القراءة والكتابة، فوجدوا صعوبة وتعقيد في فهم ترجمة وموضوع الأفلام الأمريكية، لذلك وجب وجود أفلام محلية تعرض أفكار قريبة من البسطاء، يفهمونها ويستطيعون التغلغل داخلها.
بدأت شركات الإنتاج الصينية في الظهور عام 1922، لتهيمن على السينما بالصين في ثلاثينيات القرن الماضي بشكل قوي ومنظم، أولها شركة Mingxing Film Company وبعدها توالت الشركات وكان أكبرها Lianhua Film Company، ثم أسس Shao Zuiweng شركة Tianyi Film Company التي انتقلت في خضم الحرب مع اليابان إلى هونغ كونغ وتحولت إلى واحدة من أكثر الشركات تأثيرًا في عالم السينما شركة Shaw Brothers Studio.
لم يفلت شريط السينما من ثنايا الأحداث السياسية الانفجارية في ذلك الوقت، عام 1927 انقلب حزب الكومينتانغ بقيادة شيانغ كاي شيك على الحكم، ليتولى قيادة الحكم بعدها بسنة ويصبح ذلك الحزب اليميني المحافظ هو من يدير الأمور، بعد أن أطاح بكل ما بقي من السابقين الذين لم يكونوا يؤيدون مركزية الحكومة.
واليمين بالطبع كان يزحف ببطء لنسف الشيوعية وتطهير الصين من الحزب والزعماء الشيوعيين خاصة ماو تسي تونغ الذي شارك في تأسيس الحزب الشيوعي الصيني، كما ساهم في تأسيس الجيش الأحمر في الحرب الأهلية الصينية بين حزبي اليمين واليسار.
وللغرابة، عندما غزت اليابان بعض مناطق الصين، لم يأبه الزعيم شيانغ كاي شيك، بل أكد ضرورة محاربة الشيوعيين أكثر من محاربة الغزاة.
هذا الانفلاق السياسي، أحدث ركودًا، لحقه اشتعال لكن بصبغة يسارية، بعد أن أسس بعض الكتاب اليساريين مجموعة فيلمية لإرشاد وتشجيع الناس على صنع أفلام، والحق أن الكثير من الفنانين والمخرجين الذين ينتمون لليسار لم يكونوا شيوعيين أو اشتراكيين في المقام الأول، إنما نسبهم وبيئتهم المتوسطة حسبتهم في ميزان اليسار، ليصنعوا أفلامًا مميزةً تعبر عن تلك الحقبة بشكل فني ثري، لكنها لم تنج من مقص رقيب اليمين الجمهوري الذي كان يهيمن على قطاع العرض والتوزيع، واضعًا شروطًا متعنتة للأفلام، وأحدث هذا المقص دفعًا رهيبًا في تيار الأفكار، وزخم وانفعال غير منهجية الحكاية وطريقة السرد، بحيث أصبح على المخرجين إخفاء أفكارهم وتغليفها بحوادث وقصص لكي تمر من خلال المقص دون تشوهات.
جرد رئيس مجموعة المخرجين اليساريين من أعمالهم، على رأسهم المخرج شيا يان ــ Xia Yan من منصبه في شركة Mingxing Film Company عام 1933 بسبب مشاركته في كتابة فيلم Spring Silkworms المقتبس من رواية تحمل نفس الاسم بسبب معارضتها للأفكار اليمينية والمعايير المناسبة للأفلمة.
وانتقل بعدها شيا يان إلى شركة Lianhua Film، ولسوء الحظ مالك الشركة كان من مؤيدي اليمين المحافظ، فمارس الضغط على جموع المخرجين اليسارين بأفلامهم، وعلى الرغم من ذلك، أنتجت الشركة اثنين من الأفلام المهمة في تلك الحقبة هما فيلم The Goddess عام 1934 من إخراج وو يونغ قانغ ــ Wu Yonggang، قاصًا حكاية غانية تحوم في ظلام العاصمة شنغهاي لتكسب لقمة العيش، وترجع بما اجتمعت به من العملات لتدبر أمور النهار وتوفر التعليم لابنها، ويحكي الفيلم الثاني The Big Road عن مجموعة من العاطلين تجمعهم وظيفة بناء طريق يعمل كخط دفاع أمام اليابانيين.
في لجة الصراع، دمرت بعض الشركات والأستوديوهات بالكامل، وصعد نجم إحدى الشركات المهمة (ديانتونغ – Diantong)، لكن ما إن تألق نجمها حتى احترق وانهار، بيد أنه خلّف وراءه إرثًا من أربعة أفلام فقط، تمثل تلك الحقبة بشكل مميز، ويتم دراستها للمعرفة.
أنتجت الشركة خلال سنة واحدة تقريبًا فيلم Plunder of Peach and Plum تبعه الفيلم المهم Children of Troubled Times، ثم فيلم آخر يصف حياة الإملاق والعوز Scenes of City Life ثم أغلقتها الحكومة في خصومة سياسية، وانكسر ذاك الضلع بعد جبر.
تجددت الروح في السينما الصينية مرة أخرى عام 1937، أعيد شيا يان لمنصبه في شركة Mingxing لينتج فيلمين من أشهر أفلام موجة اليسار السينمائية في تاريخ الصين وأكثرهم إثارة للجدل، فيلم Street angel وهو إعادة إنتاج للفيلم الأمريكي الذي يحمل نفس الاسم، للمخرج المميز فرانك بورزيج، وفيلم Crossroads، والفيلمان يحاولان مزج الدراما بمخلفات الحرب ومدى تأثيرها على الحياة الاجتماعية.
في تلك السنة، وصل الغزو الياباني أغلب المدن الإستراتيجية الرائدة في الصناعة مثل شنغهاي وبكين، وتوقفت الصناعة بشكل شبه كامل وتجمدت الإنتاجات لأجل غير مسمى، وتوقف جميع المنتجين عن العمل بشكل كامل عام 1942، بعض المخرجين هربوا لبعض البقع التي تسيطر عليها المليشيات الاشتراكية، والآخرون هربوا في مناطق حماية اليمين.
انتهت الحرب عام 1945، تبعها انفجار سياسي رجح كفة اليسار، آخرها ثورة الاشتراكيين عام 1949، ليخطف الحزب الاشتراكي/الشيوعي بقيادة ماو تسي تونغ مفاتيح البلاد، معلنًا جمهورية الصين الشعبية، ويكلف وزارة الثقافة بالإشراف الكامل على الصناعة، لتبدأ موجة أخرى وطفرة إنشائية أخرى على مستوى بناء الأستوديوهات وصناعة الأفلام في الخمسينيات، كان سببها محاولة استغلال الأفلام كمنصة لترويج أفكار الحزب، وقد تأثرت أفلام تلك الحقبة بالفكر اليساري أيما تأثر.
لم تدم الحال طويلًا، ففي عام 1966 قرر ماو تسي تونغ اجتياح البلاد بما يسمى الثورة الثقافية، التي بالنسبة له تمثل الثورة البروليتارية الكبرى، وذلك لشعوره بل وتأكيده على اختراق الحزب الشيوعي من مجموعة من البرجوازيين الذين يهددون البلاد، وأنه بكل قوته وعزمه سيحاول أن يجتثهم ويعيد للبلاد استقرارها.
لكن على النقيض، مزقت هذه الثورة التي تدعو بمحو الآثار وذرائع النظام القديم، والحق أنه كان صراعًا سلطويًا يقتصر على الطبقة الحاكمة، ونقل الصراع للشوارع كان بمثابة كارثة أودت بحياة الملايين وأحدثت انشقاقًا، فهاج الشعب وماج، ولم تنطفئ الثورة بل امتدت لسنوات، وأسست تلك الحقبة الدموية لسنوات من الكساد السينمائي، لأن المؤسسات الحكومية كانت تجتث مبدعيها وتقتلعهم من وظائفهم لتبعث بهم – المحترفون منهم وحتى الهواة – إلى الريف أو إلى مناطق نائية بحجة إعادة التأهيل والتعليم مرة أخرى بما يناسب الحزب، نتيجة لذلك توقفت صناعة الأفلام تقريبًا لأكثر من ثلاث سنوات.
وبعد تلك الفترة من التأهيل الإجباري، سواء في مجتمعات خاصة أم إعادة الدراسة في مدارس الأفلام، بالإضافة لظهور ملامح جيل جديد، بدأت صناعة الأفلام تنتعش مرة أخرى بشكل جزئي لكن واضح المعالم، ولاحت في الأفق شمس جيل ذهبي جديد سمي الجيل الخامس، تخرج أغلبهم في أكاديمية بيجين للفيلم، على رأسهم المخرج الرائع زانج ييمو وشين كايجي ولي شاو هونغ ووو زينيو، الذين رفعوا شأن السينما الصينية، وأخرجوها من المحليّة نحو العالمية.
خصوصية هونغ كونغ.. والأخوة شو
لا تتسم سينما هونغ كونغ بالعراقة بقدر ما تختص بنوعيات سينمائية معينة، في بدايتها لم تخضع للتصنيف بشكله النمطي، بل استحدثت سينماها نوعًا جديدًا، مبتكرًا لخدمة ترفيهية من الدرجة الأولى. ساعدت الأحداث السياسية الصينية السينما في هونغ كونغ على الازدهار، لأن المدينة كانت ملجأً للهاربين من جحيم الحرب أو تعنت الحكومة، تغذت السينما بالمخرجين، ومهدت لتيار سيفوق العالم.
عام 1950 بدأت الأستوديوهات تنتشر بالمدينة، وتتأثر بالسينما الصينية لتصنع عدة أفلام في تصنيفات مختلفة كان أكثرها يمتاز بالحركة واللعب بالسيوف، وتوزع تلك الأفلام في أنحاء الصين بشكل خاص والقارة بشكل عام.
بعد إنشائهم لإمبراطورية من الترفيه، اتجه الأخوة شو نحو هونغ كونغ لبناء شركتهم الأضخم في ذلك الوقت Shaw Brothers Studio – أستوديو الأخوة شو التي غذت آسيا في ذلك الوقت كأفضل أستوديو مجهز بتقنيات لم تكن موجودة في ذلك الوقت في كل أنحاء آسيا.
لم يكن الأستوديو كما الأستوديوهات في ذلك الوقت، بل جهز كمدينة سينمائية كاملة، بعشر منصات/مسارح للتصوير والكثير من المواقع الخارجية للتصوير وبحيرة صناعية ومدرسة تمثيل كاملة وأجهزة ومعدات تصوير ذات تقنية عالية، مناطق سكنية للعاملين، وهذا ليس غريبًا على الأخوة شو، فهم يملكون سلاسل من المسارح والأستوديوهات في عدة بلاد، بالإضافة لشركاتهم المختصة بالتوزيع في أنحاء آسيا، كل هذه كانت مؤشرات لنجاح الأخوة شو في غزو آسيا، والانتشار في أنحاء العالم.
ساعد سينما شو على الانتشار عدم التزامهم بخصوصية معينة تحجمهم أو نمط إنشائي أو بناء معتاد لأفلامهم، فكان فنهم مزيجًا بين عدة حضارات وثقافات مشهورة، وهذا أدى بالضرورة لإبداع نوع جديد من الفن أو بمعنى أدق تصنيف فني جديد، يجمع بين بهلاونيّة أوبرا بيكين وثقافة الساموراي اليابانية وقساوة أفلام الأسباجتي ويسترن وأناقة وخفة أفلام جيمس بوند، سمي هذا النوع بأفلام Wuxia Pian – Martial Heroes.
تشكلت ملامح أفلام الووشيا على يد المخرج الأشهر Chang Cheh – تشانغ تشي الذي صنع أكثر من 80 فيلمًا بمعاونة الشركة، انطلاقًا من فيلم One-Armed Swordsman عام 1967 مرورًا بالعديد من الأفلام، والعديد من المشاركات من مخرجين آخرين نجحوا بشكل مميز أيضًا مثل المخرج King Hu – كينغ هو الذي تميز بأسلوب أكثر تميزًا وتقنية فنية وأسلوب سردي مناسب لما يقدمه من أفلام حركة، ليغادر شركة شو ــ الذي كان يعمل بها من بلدته تايوان – ويصنع أفضل أفلامه A Touch of Zen عام 1970، ليصنع بحرفة ليس لها مثيل نوعًا جديدًا داخل تصنيف الووشيا، نوع أكثر رصانة وأغرب، بأسلوب حركي إيقاعي أكثر إبداعًا من سابقيه ومناسب للثقافة الصينية، وبذلك تخطى كينغ الحدود الإبداعية وسكب تأثيرًا على صناعة السينما العالمية بشكل عام.