أكد آندريه بازين أهمية اللقطة الطويلة – Long Shot في التعبير عن الواقع المعاش بشكل أكثر غرقًا في اللحظة الآنية، لم يكن سخطه على تقنية المونتاج في ذاتها كتقنية ثورية تطور نفسها مع تطور السينما كفن، بل كان سخطه على الإفراط في تلك التقنية، بيد أنه لم يخفف من أثرها في العمل الفني، فكتب في الجزء الأول من كتاب “ما السينما”: “أعاد المونتاج خَلق الفيلم كفن”.
شدد بازين على النظرة الكاشفة التي تحملها اللقطات الطويلة خصوصًا مع استخدام تقنية التركيز العميق – Deep Focus التي تجعل الواقع معبرًا عن نفسه بشكل أليق وأوفى، لذلك يجب أن تقتصر القطع المونتاجية على الحد الأدنى، وأن يقع كاستجابة واقعية للفيلم، لذلك يفضل استبدال القطع الكثيرة، باللقطات الطويلة أو التسلسل في اللقطات بحيث يسمح للكاميرا العمل بشكل أفضل، مستعينًا بـone-shot sequences فيما يسمح للكاميرا بالتوغل في المكان والزمان بشكل يوضح التفاصيل، ويجعل المشاهد يبذل جهدًا – تفاعليًا – للدخول في أجواء الفيلم، وهذا بالطبع مع إعداد جيد لرواية القصة عبر الـMise-en-scène.
تساي أحد مخرجي الموجة الثانية التايوانية، ولِد في ماليزيا وعاش بها 20 عامًا، ثم انتقل إلى مدينة تايبيه عاصمة تايوان، وهذا الانتقال أحدث أثرًا غرائبيًا في حياته، يقول تساي بشأن هذا: “أشعر بعدم الانتماء لأي من البلدين، أذهب حيث يلائمني المكان، إنما لا أشعر بأي نوع من الانتماء”.
وفي خضم هذا الانشقاق، أخرج تساي 11 فيلمًا طويلًا، بداية من فيلم Rebels of the Neon God عام 1992، والكثير من الأفلام القصيرة التي تشبه سينما الأشباح، فسينماه تتلاعب بين ثلاثة عناصر مشهورة موجودة دائمًا في أعماله (الحب والموت والذكريات) وبالضرورة الخيال والأشباح.
تقنيات الفن السينمائي
يمكننا أن ننسب النوع الذي يقدمه تساي إلى “السينما البطيئة/التأملية”، بيد أن هناك نقطة مهمة تجعل سينما تساي مختلفة عما تقدم في أغلب موجات وفروع السينما البطيئة، تقع تلك النقطة في تميز المكان، فيما تدور أغلب أفلام السينما البطيئة في الريف أو أماكن واسعة تثير التأمل والتماهي مع اللقطة، بحيث يستطيع مخرجو ذلك النوع أخذ لقطاتهم المفضلة (Landscape Shot)، فلدى الطبيعة والأماكن المفتوحة فاعلية مميزة وتأثير صارم حتى في منهجية اللقطات وطبيعة المونتاج.
غير أن تساي هنا يلعب في منطقة أخرى تمامًا، فيصور كل أفلامه في المدينة بين تكنولوجيا الحداثة والأرصفة وأبواق السيارات والزخم المثار بواسطة الخلق الكثيرة في الشوارع، فلا يستطيع أي دارس لسينما تساي أن يغفل نقطة ارتباطه بالمدينة في كل أعماله.
انتساب تساي لهذا النوع لا يعتبر خطأ، إنه النوع الأقرب إليه والمنهج الذي يصدق عليه في أفلامه، فيستخدم الحد الأدنى من كل شيء تقريبًا، ويطبع الكاميرا دائمًا باللقطات الثابتة والقِطع الطويلة Long Shot – جدًا – والمجهدة، في داخل إطار سردي بصري تمامًا، يتسم بالبساطة في تكوينه وتناسق الألوان على مستوى الـMise-en-scène، ويعتمد بشكل هائل على اللقطات الواسعة (Wide – Long – Medium)، وهذا ليوضح التأثير الهائل الممارس على الأشياء، تحت ضغط المدينة الصناعية المتأخرة “تايبيه”، بجانب ذلك يفعِل تساي تقنية العمق في لقطاته بشكل واضح جدًا، ويفرط في السكون والرؤية.
يستعير تساي بعض الأشياء العادية – استمدها من طبيعة المدينة – ليظهر التأثير على الشخصيات، وتطورت هذه الأشياء لتصبح ثيمات في أفلامه، مثل المياه/الأمطار والطعام والمرايا، بالإضافة لتسوير الشخصيات بحيث يجد الأبطال أنفسهم محاصرين داخل إطارٍ ما، يتكشف ذلك مع زوايا التصوير والعدسات الواسعة أو من منظور الـone point perspective الذي يعمل على تأطير الشخصية في الكادر بشكل مميز وله سلطة.
الامتداد الحضاري ينزع وجود تأثير على بعض الثيمات مثل كابينات التليفون التي تظهر بكثرة في أول أربعة أفلام تقريبًا، وهذه الثيمة تستدعي رغبة في التواصل وإرادة للتحرر من الوحدة والبحث عن الحب، بجانب وجود الجنس بطبيعته الجياشة وغلوائه الجذاب، الذي يكون دائمًا مخرجًا أو منفذًا للتعبير عن الحب أو البحث عن التواصل عند أغلب الشخصيات.
التكوين: الوحدة والزمن على هامش الحياة
إذا أردنا التحدث عن تجربة تساي السينمائية وتطورها من فِكر إلى مشروع ثم انسلاخ هذا المشروع/التجربة بين الأوساط المرئية نحو المعارض الفنية لخلق بعد آخر للسينما كمؤثر على المشاهد، لن يكفي مقال واحد لسرد تلك التجربة الثرية، لأنها مرت بمراحل تطور ونضوج وتلون كثيرة نحن في حاجة لاستدعائها لفهم التجربة ككل، لذا سنسلط الضوء على جزء من فيلموغرافيا تساي.
تنتمي شخصيات تساي إلى عوالم سريعة ومنظمات حثيثة، بيد أنها فاقدة للرتم، ساقطة عن الخط الزمني المثالي، تعيش على فتات الحياة.
يغذي تساي شخصيات أفلامه بطاقة سلبية ويحملهم مشقة الوحدة، فتبدو الشخوص كأشياء زائدة عن الحياة، زائدة عن المنظومة الاجتماعية المثالية، زائدة عن الوقت، لدرجة أن مفهومهم عن الزمن مختلف عن العالم، وفي بعض الأحيان ينتمي مكان الحدث إلى الماضي بحيث يسطو المكان على الإيقاع بشكل يحمل بعض الخصوصية فيبطئ الرتم.
يتضح هذا في فيلمه ?What Time Is It There عام 2001، وهو بداية تعمقه في ثيمة الزمن – التي طبعت أفلامه القادمة بشكل أعمق – بحيث يخلق زمنًا بنسيج سائل، وهذه السيولة تجعل وجود تماس بين عوالم مختلفة – زمنيًا – أمر وارد الحدوث بشكل كبير.
هذا التماس الزمني يستحضر كيانات ميتافيزيقية ربما ليس لها وجود، وهذا بالضبط ما يحدث داخل فيلم What Time Is It There الذي تدور حبكته حول ثلاث شخصيات بعيدة تمامًا عن الطبيعي – منبوذة – ككسر للنمطية وتحدٍ للافتراضات الجوهرية للهوية الشخصية والذاتية البشرية، حتى تبدو شخصياته كأشياء يتلاعب بها.
الشخصية الأولى هي شخصية المخرج المفضلة في كل الأفلام شاو كانغ الذي يعمل في بيع الساعات، ويتعرض لصدمة هائلة بعد موت والده، تشعره بأن روح والده ما زالت في المنزل، تساعد على تغذية هذه التصورات أمه المهووسة بالأب، التي تعاني من اضطراب هائل بعد صدمة فقد شخص عزيز عليها، مؤمنةً بوجود روحه في المنزل، مهيئةً الظروف المكانية والزمانية له لكي يجتمعوا مرة أخرى، بل تحاول استرضاءه باحتساب نصيبه في الطعام وتغليف مداخل النور في الشقة لأنها تزعجه، وحتى بممارسة الجنس معه، ويتمثل الأب ككيان كامن في السمكة التي تحوم في حوض الأسماك بالنسبة للأم.
هذه الأفعال تفسد شخصية شاو كينغ وتزعزع كيانها أكثر، فنراه يخاف الخروج من الغرفة في الليل، حتى لا يلاقي روح والده المضطربة، ويتبول في زجاجات بلاستيكية داخل غرفته، وفي الصباح يتجه للجسر وينصب ساعاته ويحاول البيع، ليقابل الطرف الثالث في الحكاية، الفتاة شيانغ شي التي تحاول شراء ساعاته قبل مغادرتها إلى باريس على الطرف الآخر من العالم، وعندما تشتريها وتغادر يحدث نوعًا من المتلازمة بين الشخصيت ين، رغم فارق التوقيت والعوالم، يقطع هذا التواصل زمنًا خاص بأنها تحاول من خلاله استرضاء واستحضار زوجها، لينتج ثالث من العوالم مستقل عن الآخر لكن يربطهم شيئًا ما.
خلال أحداث الفيلم يتضح التماس بين العوالم، فشاو كينغ أضحى مهووسًا بتوقيت باريس، ضابطًا كل الساعات التي يملكها أو لا يملكها على توقيت باريس، يسرق الساعات ويغير توقيتها كإشارة غير مفهومة – ميتافيزيقية – على الحنين.
في نفس الوقت نجد بعض الإشارات التي تربط العالمين، فشاو كينغ يشتري أحد أفلام الموجة الفرنسية بالتحديد فيلم The 400 Blows لفرانسوا تروفو، ويجلس لمشاهدته، وفي نفس الوقت تقابل شيانغ شي بطل الفيلم نفسه جان بيير لو ويعطيها رقم هاتفه.
من المفارقات أيضًا ظهور نسخة من الأب، الذي من المفترض أنه توفي في تايوان منذ أيام، لينتشل حقيبة الفتاة من البركة ويغادر، كعلامة على السيولة، ليست الزمانية فقط بل المكانية أيضًا، نلاحظ أيضًا التوافق الزماني بينهم والربط الحاصل، فكل منهم يمارس الجنس على طريقته كاستجابة للآخر.
فالعوالم في ذلك الفيلم مفتوحة جدًا، لا يحدها مكان ولا زمان، وهذا الفيلم كان بداية مشروع استحضار الأشباح، أقصد مرثية السينما الذي سنناقشها من خلال الفيلم القادم فيلم Goodbye, Dragon Inn.
التحور: من سينما إلى شبح موت السينما
بعدها بدأ تساي العمل على مشروعه الأعظم Goodbye, Dragon Inn، لم يكن هذا الفيلم مثل أفلامه السابقة بأي شكل من الأشكال، ربما كان امتدادًا لأفلامه/مشروعه بيد أنه متفرد عن باقي الأفلام سواء على مستوى الفكرة أم الصناعة، هذه القطعة تفتقد لما يسمى الحبكة، لا توجد حبكة، الزخم السردي الذي يدفع الأحداث للأمام غير موجود.
الفيلم أشبه بمرثية لحيوات سابقة وأماكن تبدو رمادية، تستحضر أشباح ليس لها أصل ولا فصل، إنها موجودة في لحظة الآن كرثاء على الماضي، تقريبًا لا يوجد أي نوع من الحوار داخل الفيلم، وهذا يجعل من صيغة الفيلم بصرية، ويدحض فكرة البناء المثالي للفيلم، مؤيدًا لفكرة البناء السردي المخلخل الذي من النظرة الأولى لا يستهدف شيئًا ما، لا أحد يفهم منه شيئًا إذا لم يدقق النظر ويطلع على مشروع المخرج.
يفكر تساي في العملية البصرية كأنها معرض للصور، عندما يضع لقطة ثابتة بعدد دقائق كبير/مبالغ في حجمه، يكسر العادة المختزنة في ذهن المشاهد، ويعطي انطباعًا مختلفًا عن الأفلام، عن طبيعة المشاهدة نفسها، يحطم الكثير من تابوهات الصانع والمتلقي.
ربما تبدو أشياء كهذه غير حقيقية أو جنون، بيد أن السينما بالنسبة له حصيلة نوبة جنون، يريد أن يترك انطباعه الزمني على المشاهد، ليحول العملية البصرية المتوقعة (الحركة) إلى مجرد صورة واستحضار لخيالات، إنه يجرد العملية الإبداعية من جزء أصيل ومهم كبنية تأسيسية للعمل، والحق أنه هذا هو لب المشروع.
خصوصية اللقطة الطويلة عند تساي ليست في علاقتها بالمتحرك كما يفعل الآخرون، لكن لعلاقتها بالثابت كما يقول النقاد، الممارسات البصرية الثابتة التي تستورد من فن التصوير والرسم صيغة بصرية، تجعل من كل صورة ثابتة جزءًا من معرض تم تصوره مسبقًا في عقل المخرج.
البطء في سينما تساي يأتي من ثبات الكاميرا أو قلة الحركة في الإطار، ما يستدعي من المشاهد كمًا كبيرًا من الجهد ليركز على التفاصيل الصغيرة للصورة الثابتة وفهم المغذى واستحضار شبح الماضي.
يعتبر فيلم Goodbye dragon inn إجازته للانفصال عن السينما التقليدية واستهلال طريقه نحو سينما الأشباح، تدور أحداث الفيلم داخل سينما قديمة على وشك الغلق – في آخر يوم عمل لها – تعرض واحدًا من أشهر أفلام الووشيا التايوانية على الإطلاق فيلم Dragon Inn (1967) من إخراج أحد علامات السينما التايوانية كينغ هو، وفي هذا السياق تدور الأحداث التي لا تبدو أحداثًا، ويلوح في الأفق خلطٌ من الأصوات والأضواء يلقي بثقله على المقاعد الحمراء الفارغة.
ليس هناك ما يميز الشخصيات بحيث يعرفها المشاهد في خطفة عين، كل ما يبدو مهمًا في الفيلم هو في الحقيقة غير مهم، يدور شريط الفيلم وتدور الشخصيات القليلة على المقاعد الكثيرة، البعض منها يبحث عن التسلية والبعض الآخر يبحث عن إرضاء غريزة معينة، والبعض يخرج من القاعة نحو الأروقة الداخلية والخلفية الشبه مهجورة، وتدور أقدامهم فيما يدور الفيلم، غير مهتمين بما هناك، حتى إذا وجد أحدهم الآخر ظن أنه شبح.
يركز تساي على ما يبدو صورًا للأشياء، ويدور بالكاميرا الثابتة مع الشخصيات، فنرى لقطة ثابتة في السينما، ولقطة في المراحيض، ولقطة في الأروقة، دون أي نوع من الحوار، مجرد أشباح تدور في السينما، ويشاهدها على الجهة الأخرى من العالم، أناس حقيقيون يرون أنفسهم بعد موت السينما.
على الناحية الأخرى نجد شخصية فتاة عرجاء تعمل في قطع التذاكر وتنظيف المكان، تمشي بتحامل وبطء، مشابهة لما يحدث في الداخل، متناثرة تحت وطأة اليوم الأخير في العمل كشيء موات، تدور وتبحث عن شخصية أخرى تعمل في الأروقة الداخلية وتشغل الأفلام، صنايعي شريط الفيلم، لكنه يسير نحو غرفة أخرى، وهكذا دوال، لا يجد أي شخص ما يصبوا إليه، ولا يعرف أحد أي شيء سوى أنه يتلاشى مع الوقت، أن كل شيء مؤقت.
من المفارقات أن أحد الأشخاص الجالسين في المقاعد القليلة، هما الممثل مياو تيان – أحد أقرب الممثلين لقلب تساي وعمل معه في أغلب أفلامه – والممثل تشون شيه اللذان مثلا أحد الأدوار في فيلم Dragon Inn (1967)، يبدو هذا مثل رثاء للسينما الأصيلة، حين كانت السينما في أوجها، كشيء مهم ولافت للنظر، يحظى بمتابعة هائلة ولا يشغل الناس عنها أحد، كفن حقيقي لا يمكن مساسه.
أما الآن فهما الاثنان عجوزان لا يملكان من أمرِهما شيئًا، يشاهدان نفسيهما على الشاشة، وفيما يفكران؟ أهو الحنين؟ خيبة الأمل؟ أم يفكران أن كل شيء تلاشى وأضحى رمادًا، يبكي أحدهما، بكاءً يعكس مدى التأثر بمشاهدة نفسه، يقول وداعًا يا نفسي.
يمثل الفيلم احتفاءً/وداعًا لشكل معين من السينما – العصر الذهبي لسينما الماندرين في الستينيات – بكل أجوائها الساحرة، وبراءتها التي تبدو مفقودة إلى الأبد بتكاثر صور الحياة والمشاغل وغيرها، أما في اللحظة الآنية فدور السينما تلفظ أنفاسها الأخيرة.
المشهد الرئيسي Master Seen في الفيلم لم يكن مشهدًا بالمعنى المتعارف عليه، الكاميرا ثابتة تمامًا، تَخطو فتاة شباك التذاكر متهادية على السلالم صعودًا وهبوطًا تعرج على إحدى قدميها، تحاول تنظيف ما خلفه جمهورٌ ضئيل من قمامة، أشبه بالرقصة الأخيرة، صوت الهواء يقطع الصمت الهائل، دبيب أقدامها يضخم صدى صوت يعج بالرثاء، ثم تخرج من القاعة وتظل الكاميرا مثبتة بنفس الزاوية ونفس المكان لمدة دقائق، حتى نشك أننا نرى صورة وليس فيلم، صورة تعج بالتفاصيل المؤقتة، تتشبع العيون من رؤية شيء كأنما لم يروه بعد ذلك أبدًا.
تم تصميم هذا التسلسل ليتم مشاهدته في دار سينما، بشكل يحمل الكثير من الخصوصية للمتلقي الجالس في مقعد السينما، يملأ الكرسي، بينما يرى نفسه كشبح، كان هناك في وقتٍ ما، بيد أنه تلاشى الآن، حيث يجلس الجمهور أمام لقطة شبحية عكسية لأنفسهم، يحدق الجمهور مباشرةً في غرفة من الواضح أنها مسكونة من غير مرئي.
الانفصال: الحلم والسائر والكلاب الضالة
بدأ تساي العمل على الخروج بمشاريعه من الإطار السينمائي والدخول بها في المعارض، وفي ذلك تحول أسلوبه بشدة ناحية البطء والثبات، مبدأيًا خرج من ضلع فيلم وداعًا درجون إن، مشروع الفيلم القصير It’s a Dream عام 2007، مع احتفاظه ببعض الكراسي من مشروعه السابق ليعرضهم في معرض فني، وقام بعمل فيلمه القصير على هذه المقاعد المهترئة، وهي تجربة شديدة الخصوصية بالنسبة للمخرج ومقتبسة من حياته وذكرياته.
والمشروع الثاني هو مشروع السائر – Walker الذي يعمل فيه الكاميرا بشكل متمهل، ليس فقط على مستوى الإطار الخارجي، لكن الممثل نفسه يتحرك ببطء جدًا داخل الإطار الثابت لغرض معين وهو الاحتفاظ بأكبر عدد من تفاصيل الصورة في ذهن المشاهد وتقديم المحتوى أقرب لفن التصوير والاحتفاظ باللحظة الآنية لأطول فترة ممكنة.
ثم مشروعه الأكبر كلاب ضالة Stray Dogs عام 2013، الذي يثبت على خطوة الخروج والتحرر من السينما نحو الإطار الفني للصورة والتثبيت في ذهن المشاهد أهمية الصورة داخل التفاصيل، ليست كشيء عابر، في نهاية الفيلم يصدمنا تساي بلقطة قريبة متوسطة بطول 13 دقيقة للشخصيتين الرئيسيتين، تظهر ملامحهما بدقة، وتتحول من رماد بارد لسخونة ملتهبة، العيون تتكلم والأجساد تقترب داخل الإطار، ثم يلحقها بلقطة واسعة بطول نحو 7 دقائق كاملة للوحة المرسومة على الجدار، والشخصية الرئيسية تحدق بها، اللقطة الواسعة تحفر في ذهن المشاهد مدى تغير الحالة المكانية/المادية للمبني، ويزرع في ذهن المشاهد مصطلح المؤقت والمتلاشي وينبذ الدائم والخالد بكشف طبيعة المكان الذي كان فيما سبق أشبه بمتحف والآن هو خرابة وملجأ للكلاب الضالة، كيف تغيرت طبيعة المكان، الحوائط مهشمة، والأرض مهدمة ومكدسة بالقمامة، ما كان سابقًا زجاجًا أصبح هواءً خاليًا، وأضحت الأرض التي كانت نظيفة مرتعًا للأعشاب والنباتات الشيطانية، يفتح تساي مساحة هائلة لقبول مصطلح التغير والتركيز على التفاصيل ومقارنتها بما يتخيله العقل للمكان، كيف أن انهدام شيئًا ما يعطي مساحة لطائفة أخرى من الجمال كي تنبلج، نوع آخر من الحياة.