“بعد مشاهدة أفلامي وخلال زياراتهم، يفاجأ الناس برؤية هونغ كونغ كمدينة مختلفة، فأفلمتي لهونغ كونغ غريبة عن الحقيقة، لم ألتمس الواقعية بأفلامي، ولا أود تصوير ما تبدو عليه هونغ كونغ الحقيقية، بل كيف أرى – أنا – هونغ كونغ، وما أبغي أن تكون عليه”.
بعد عام من فوز المخرج كوينتن تارنتينو بمهرجان كان عام 1994، قرر تصوير ما يشبه المراجعة أو العرض يقدم فيه واحدًا من أفلامه المفضلة Chungking Express الذي صدر تقريبًا في نفس وقت صدور فيلمه Pulp Fiction لواحد من مخرجيه المفضلين على الإطلاق ونغ كار واي، بجانب عرض تعريفي بعدة أفلام سابقة لنفس المخرج، كترويج لهذا النوع من الأفلام، بجانب المشاركة في توزيعه خارج حدود آسيا خاصة في أمريكا.
هذا المحتوى البصري لم يخل من شرحٍ شغوف واستفاضة متعمقة في سينما ونغ المختلفة تمامًا عن كل ما شاهده من قبل، حتى الأفلام التجارية الممتعة التي امتازت بها هونغ كونغ في عصر الأخوين شو والمخرج جون وو، لم تكن تشبه أفلام واي، رغم أن هناك بعض الأشياء تربط سينما واي بهذا النوع من الأفلام.
ولم يكن فيلم Chungking Express يمثل أول تعارف بين تارنتينو وأفلام ونغ، فسبق وشاهد فيلمه Days of Being Wild عام 1990، ونال إعجابه، ما دفعه أن يدخل Chungking Express في مهرجان ستوكهولم السينمائي الذي كان يعرض الفيلم آنذاك في المسابقة الرسمية، ولم يخب أمله، بل خرج منتشيًا من القاعة وقد افتتن كليًا بالمخرج الصيني البارع، واعترف بعدها بانفلات دموعه داخل صالة السينما، معلنًا أن بكاءه لم يكن بسبب قصة الفيلم الحزينة، بل لسعادته بإدراك مدى العشق الذي يكنّه لهذا الفيلم.
وجد تارنتينو أوجه شبه مشتركة بين أفلام ونغ وأفلام أحد أشهر مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة جان لوك جودار، فاتسم أسلوبهما بنفس الجرأة والتجريب، بالإضافة لاستحضار نوع من الكوميديا والطرافة في أفلامه، ما يجعله متأثرًا بالموجة الفرنسية الجديدة ككل، وهذا ليس غريبًا على صناع السينما في العالم، فقد تأثرت قبلها الموجة اليابانية، والعديد من الموجات في العالم.
السيرة والفيلموغرافيا
“يجب عليك دائمًا أن تمتلك الفضول.. تعلمت فن السينما خلال مشاهدة الأفلام داخل صالات العرض، لم أنتسب لمدارس السينما أو جامعاتها. دائمًا أقول لنفسي، ماذا لو فعلت هذا؟ أو غيرت هذا؟ أو خضت في ذلك التصنيف؟ الأمر كله متعلق بالفضول والمحاولة”.
البدايات
ولد ونغ كار واي في مدينة شنغهاي الصينية في 17 من يوليو/تموز 1958، هاجر مع والديه عندما بلغ من العمر خمس سنوات إلى مدينة هونغ كونغ، وهناك كانت الصناعة في بداية انتعاشها، بالإضافة لشغف أمه وحبها للسينما، ما جعل ونغ مشاهدًا شرهًا للأفلام ومتأثرًا بها، فشاهد خلال طفولته وشبابه أغلب أنواع السينما، وتعرف على مختلف المدارس سواء هوليوود أم الموجة الفرنسية الجديدة، ليدرس بعدها تصميم الجرافيك.
وخلال سنوات – في أوائل الثمانينيات – تمكن من إدراج اسمه في برنامج تدريبي خاص بمحطة تليفزيونية محلية، ليعرف بعدها الطريق نحو السينما، ويجد فرصة في أحد الأستوديوهات المحلية ككاتب سيناريو لأفلام من نوع الكوميديا والإثارة.
باكورة الأسلوب.. ما قبل 1994
بعدها بسنوات انتصر الحظ له عندما تلقف الفرصة من السماء، ليشارك في كتابة فيلم Final Victory عام 1978 للمخرج باتريك تام الذي كان بمثابة المعلم لونغ الشاب، ليترشح الفيلم لعدة جوائز في مهرجان هونغ كونغ ويعرض عليه المشاركة في شركة إنتاج مستقلة تسمى In Gear Film مع المنتج والمخرج الشهير آلان تانغ الذي أعطاه الحرية لإخراج أفلامه الخاصة، فضلًا عن التمويل المادي، ليصنع فيلمه الأول As Tears Go By عام 1988، ويظهِر جزءًا من أسلوبه الخاص بالسرد، ومنهجيته في العرض من خلال الإضاءة والألوان.
لذلك كان الفيلم غريبًا على أعين البعض، مصبوغًا بطابع شاعري يجعل وضعه في خانة أفلام العصابات يحط من شأنه، ولسوء الحظ الفيلم لم يحقق العائد المادي المرجو منه، وأخفق في شباك التذاكر.
بعدها بعامين، اتحد ونغ مع المصور السينمائي كريستوفر دويل ليخرِج فيلمه الثاني Days Of Being Wild عام 1990، مرصعًا بنجوم الصف الأول، كان الفيلم بالنسبة لونغ انحلالًا لعِقدٍ من الذكريات، عملت كجزء رصين في التكوين القصصي لدى ونغ، فقوّمها بذاتية متدفقة من الماضي نحو اليومي الذي يناقشه في لحظة الآن، لذلك تبدو بعض أفلامه كشيء شديد الخصوصية، متمكنًا من خلال تلك الذكريات أن يمد يده ويستخدم أدواته بحذاقة، ليلمس الأشياء المشتركة بينه وبين المتلقي.
لكن مرة أخرى، فشل الفيلم في شباك التذاكر، ليخرج ونغ مضطرًا من شركة In Gear Film ويبحث عن أخرى ويجد بمساعدة بعض الأصدقاء شركة Jet Tone Films، ليحصل على دعم كامل وحرية تامة في أسلوبه السينمائي، بالإضافة لميزانية لا بأس بها ليندفع من خلالها منكبًا على فيلمه الأضخم حتى ذلك الوقت Ashes of Time عام 1994.
البراعة.. ما بعد 1994
لم يكن Ashes of time مثل باقي الأفلام التي عمل عليها، فقد استوحى ونغ القصة والشخصيات من رواية تحمل نفس الاسم للكاتب جين يونغ ليعطي بعدًا آخر للرواية، فيما يتخيل شخصيات الرواية – كِبار السن – شبابًا منفجري القوة والنشاط، ويمد الخطوط السردية بين القصة الأصلية والمتخيلة، بين الفيلم والرواية، بما يخدم الحبكة التي ربما تبدو غامضة بعض الشيء.
استغرق العمل على الفيلم عدة سنوات، ليأتي بمفاجأة كبرى بالنسبة لونغ، بمشاركته في مهرجان البندقية، مترشحًا لجائزة الأسد الذهبي، بالإضافة لترشح المصور كريستوفر دويل لجائزة أفضل تصوير سينمائي، والفوز بها بالفعل، بجانب الأخذ به كعلامة فارقة في ذلك التصنيف بما يحتويه من إتقان في رسم الشخصيات والإنتاج والتصوير، لذا كان الفيلم بمثابة الانطباع الأول عن أفلام ونغ خارج النطاق المحلي الآسيوي، كمحطة ستساعده فيما بعد، ورغم حصول المخرج على صيت لا بأس به عالميًا، فشل هذا الفيلم مثل أخوته في شباك التذاكر.
في أعقاب فيلم ashes of time – في المرحلة الأخيرة من إنتاجه – بدأ ونغ مشروعه الجديد Chungking Express في نفس العام، واضعًا في خططه أنه سيقدم ثلاث أقاصيص مختلفة في سياق فيلم واحد، لكن الوقت القصير والميزانية المحدودة جعلت الفيلم يقتصر على قصتين فقط لتلحق بهم الثالثة في فيلم منفصل بعد ذلك.
صور الفيلم في غضون 6 أسابيع فقط، معتمدًا على ما يكتبه المخرج في الشطر الأول من اليوم، ليصوره في الشطر الثاني دون إعداد أو تنقيح.
حمل الفيلم بداخله روحًا غامضةً وشعورًا بالوحدة يحوم في الفضاء، واستخدم ونغ مع مدير تصويره والمصور تقنيات ساعدتهم في ذلك، ليصدم العالم بواحد من أجمل الأفلام الرومانسية على الإطلاق، بشهادة المجلة الفرنسية السينمائية الأشهر “كراسات السينما” بجانب الدعم الكامل الذي وجهه المخرج تارنتينو للترويج للفيلم بعد مشاهدته في السينمات، ليصبح الفيلم انطلاقة صاروخية لمخرجه ونغ.
الجدير بالذكر أن القصة الثانية من الفيلم صورَت في الشقة التي كان يقطن بها المصور السينمائي الرائع وشريك ونغ في معظم أفلامه كريستوفر دويل، التي رآها المخرج مكانًا مناسبًا للحب والتلصص والشعور بالوحدة، خصوصًا أنها تطل على السلم الإلكتروني للمطار، بما يمر به من وجوه لا نهائية.
لينتقل بعدها للعمل على القصة الثالثة Fallen Angels عام 1996 التي تميزت بنوع من الغرابة والتجريب والحبكة الراكدة والشخصيات الاستثنائية، لذلك يتميز الفيلم بوجه مميز ويحاول سبر أغوار علاقات إنسانية غير معهودة، بالإضافة لنحت أسلوب جديد في التصوير وصل ذروته في هذا الفيلم، ليكون مستهلًا لمنهجية تصوير محددة وباليت ألوان ثري، ووصلت تلك المنهجية بعد ذلك لمقاطع الفيديو الخاصة بالأغاني Music Videos.
الذروة.. 1997:2000
ومن ثم يقفز لقصة ثالثة Happy Together عام 1997 مقتبسة عن رواية التي تناولت موضوعًا غير مألوف ومبهم في حدود قارة آسيا، وحتى أغلب الأفلام التي تناولته قبله لم تكن بنفس جودة الكتابة أو شاعرية الموقف التي أقحم فيها المخرج أبطاله.
كان الفيلم تحديًا كبيرًا بالنسبة لونغ ليس على مستوى الفكرة المخالفة للأعراف وقتها – المثليّة – لكن بسبب الصعوبات المادية التي كانت تواجه صناعة السينما بشكل عام في ذلك الوقت، ليضيق الانهيار المادي على صناع الأفلام، لكن ينجح ونغ بالنفاذ من تلك المشكلة ويصنع فيلمه في بيئة جديدة تمامًا، ليهرب من صخب مدينته نحو أزقة شوارع الأرجنتين، مستوحيًا أحداثه من رواية The Buenos Aires affair للكاتب مانويل بويغ، ليصف اضطراب وقطيعة ومشاعر ممزوجة بالألم بين عاشقين، ليرشح على إثره للسعفة الذهبية، ويحصل على جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان السينمائي، ليصبح أول مخرج من هونغ كونغ يحصل عليها.
بعد أن خرج ونغ بإنجاز غير مسبوق، دلف نحو فيلمه القادم بخطى متعرجة، غير جاهز للدخول كالعادة، يحاول أن يصنع من الفكرة فيلمًا، ويبدأ بالفعل في تصوير فيلمه الأعظم في مزاج الحب In the Mood for Love عن قصة حب تدور في أروقة المدينة خلال ستينيات القرن المنصرم.
بيد أنها لم تكن قصة حب عادية، ولم تتحل الحبكة بأي مما ينص عليه النص الفيلمي النموذجي، لكن ما حدث كان مدهشًا، كان مخاض تجريب وتكثيف ولّد لمسات وشخصيات تشبهنا.
ترشح الفيلم للسعفة الذهبية بمهرجان كان السينمائي، وفاز الممثل توني لونغ بجائزة أفضل ممثل في المهرجان ذاته، بالإضافة لاختياره من ضمن أفضل عشرة أفلام في السنة من مجلة “كراسات السينما الفرنسية”، وصنِفَ الفيلم بعد ذلك كواحد من أفضل الأفلام على الإطلاق.
المعلم ونغ.. ما بعد 2000
سنوات مرت بعد فيلم “في مزاج الحب” عمل فيها ونغ على مشاريع صغيرة دعائية وأفلام قصيرة، لينزع بعد ذلك سياسيًا، وينظر في وعدٍ قطعته الحكومة الصينية على التغيير، بعد ما يشبه الاستقلال الذي تم قص شريطه عام 1997 بنقل ملكية هونغ كونغ من المملكة المتحدة لجمهورية الصين الشعبية، لتعد الأخيرة بخمسين عامًا من بقاء الحال كما هو عليه – نقصد الوضع السياسي والاقتصادي – لتقفز الفكرة برأس المعلم ونغ وتدفعه لعمل بفيلم يحمل في باطنه فكرة عدم التغيير نفسها، وماهية الوعود والصراع مع الهوية، واستنبط من تلك الأحداث السياسية فيلمه 2046 عام 2004 ومن الاسم يتضح مرور الـ50 عامًا الموعود بهم، ليخلق مناخًا مشتتًا ومبهمًا يوضح تصوره عن هذا العالم، ويصنع صورًا توضح مدى وحدة الإنسان في تلك الأيام.
ليوضح مدى اغتراب الشخصيات في هذا العالم وانقسامهم، كان جميع أبطال الفيلم تقريبًا يتحدثون لغات مختلفة، فشاو يتحدث الكنتونية وهي أحد فروع اللغة الصينية، وباي لينغ تتحدث الماندراين وهي فرع آخر للغة الصينية، وشخصية تاك تتحدث اليابانية، وعلى الرغم من ذلك يبدو أن جميع الشخصيات تفهم بعضها البعض، دون تعقيد أو محاولة للشرح، وهذا ما يمس عوالم ونغ.
أشياء غير مفهومة في إطار معرفي، بيد أنها تترك انطباعًا لدى المتلقي يفوق المعرفة الحسية، إنها ما يشبه مجموعة من الصعوبات الإدراكية تجبرهم على البقاء في حالة تأهب معرفي، ليقبلوا نوعًا آخر من أشكال المعرفة.
تم ضم هذا العمل مع فيلمي Days of being Wild وIn The Mood For Love لخلق ثلاثية فيلمية، ومن الطريف معرفة أن ونغ قدم هذا الفيلم بالمسابقة الرسمية في مهرجان كان السينمائي متأخرًا عن الموعد المطلوب بعدة ساعات، غير مكتمل ومحذوف منه لقطات، بجانب احتياج بعض اللقطات إلى جرافيك لم يكن على المستوى المطلوب بسبب التعجل، ما أدى لإثارة الجدل بشأنه، وكانوا على وشك رفض الفيلم.
بعدها شارك اثنين من أقوى وأفضل المخرجين: مايكل أنجلو أنطونيوني وستيفن سودربرغ في مشروع يتناقشون فيه كلٍ بهويته وثقافته خلال ثلاثة أفلام قصيرة ماهية الحب والجنس وما بينهم، ليصنعوا ما يشبه الفيلم بوجهات نظر مختلفة وبأقاصيص غريبة Eros عام 2004.
ثم وثب إلى هوليوود ليصور فيلمًا آخر بدعم من منتجين فرنسيين وبنجوم غربيين، ليخرج لنا My Blueberry Nights عام 2007، يناقش فيه فكرة البحث عن الحب ومحاولة التملص من الوحدة، لينقل روح أفلامه لمكان آخر من العالم، ورغم أن الفيلم لم يلق قبولًا كبيرًا من النقاد، لكنه فيلم مهم في مسيرة ونغ.
توقف بعدها ونغ لفترة ليست بالقصيرة، وصنع أفلامًا قصيرةً وإعلانات دعائية، ليبدأ عام 2010 في العمل على مشروع ضخم وغريب عن مضمون جميع أفلامه السابقة، بيد أنه تحلى بنفس القيمة الجمالية بل وأكثر من ذلك، فيلم The Grandmaster عام 2013 فيلمًا تأرجح بين فلسفة الفنون القتالية وقيمة المبادئ والشرف، لكن بتكوين بصري يفوق جميع الأفلام في هذه الفئة.
بعد محاولات سابقة لتقديم عدة أفلام عن المعلم الكبير Ip man وبعض منها لاقى نجاحًا باهرًا، أوغل ونغ في خضم التصنيف، وحاول أن يرفع القيمة الجمالية فوق النسق ويحلق بدخيلة الإنسان فوق قدرته القتالية، فهذا الفيلم ليس عن الطريقة النموذجية في القتال، المعروفة باسم “ونغ تشون”، لكن عن المعلم نفسه.
يعمل ونغ الآن على مسلسل Blossoms الذي يقص حكاية مليونير عصامي في مدينة شنغهاي خلال تسعينيات القرن الماضي، مقتبسة عن رواية تحمل نفس الاسم للكاتب جين يوتشنغ Jin Yucheng الذي لم يحدد ميعاد صدورها بسبب ظروف جائحة كورونا.