تشهد منطقة القرن الىفريقي أحداثًا ساخنة تعصف باستقرار المنطقة الإستراتيجية ذات الموقع الجغرافي المميز بحكم إطلالتها على البحر الأحمر والمحيط الهندي.
تتمثل الأحداث المتفاقمة بالقرن الإفريقي في الأزمة السياسية والدستورية التي يشهدها الصومال، إلى جانب الحرب المندلعة منذ أشهر في إقليم تيغراي الإثيوبي بمشاركة الجيش الإريتري، كما تشهد حدود السودان وإثيوبيا توترًا عاليًا واشتباكات متقطعة تنذر بحرب شاملة بين الدولتين، فضلًا عن ملف سد النهضة الذي وصل التفاوض بشأنه إلى طريق مسدود بين الدول الثلاثة: السودان ومصر وإثيوبيا.
هذه الأحداث المتلاحقة تمثل تحديًا إضافيًا لإدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن الذي تعهد بعودة جديدة لبلاده بعد تخبط السياسة الخارجية في عهد سلفه دونالد ترامب، إذ قال بايدن في أول كلماته الدبلوماسية بعد توليه المنصب: “أمريكا عادت إلى الساحة العالمية”.
تجاهل متعمد من ترامب للقارة
بشكلٍ خاصٍ عرفت القارة السمراء تجاهلًا متعمدًا من الرئيس الأمريكي السابق ترامب، حيث لم تطئ قدماه أرض القارة الإفريقية طوال سنوات إدارته الأربعة، كما عُرف باحتقاره ونظرته الدونية إلى القارة وقادتها في المرات القليلة التي وردت على لسانه، سواء في الغرف المغلقة أم أمام وسائل الإعلام.
يمكن القول إن إدارة الرئيس الأمريكي السابق افتقرت إلى إستراتيجية واضحة لمواجهة التحديات الجيوسياسية والأمنية المتصاعدة في إفريقيا، فلم يشجع ترامب على تبني رؤية واضحة للقارة السمراء، بل ترك لدبلوماسيين ومسؤولين أمنيين المجال لإطلاق مبادرات عامة تهدف إلى منافسة النفوذ الصيني في المقام الأول، كمبادرة إفريقيا المزدهرة “Prosper Africa” التي أطلقها مستشار الأمن القومي آنذاك جورج بولتون في نهاية 2018 بهدف تعزيز الاستثمار الأمريكي في إفريقيا، عبر مساعدة الشركات الأمريكية الساعية إلى العمل في القارة.
خلافًا، لنظرة الرئيس السابق ترامب، فإن إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن تدرس بجدية خططًا لاستحداث مبعوث خاص جديد إلى القرن الإفريقي لمعالجة الصراع في منطقة شرق إفريقيا، بما في ذلك الحرب الأهلية المتصاعدة والأزمة الإنسانية في شمال إثيوبيا، حسب قول مسؤولين حاليّين وسابقين في السياسة الخارجية الأمريكية.
ويأتي هذا الخيار في ظل تسابق دولي وإقليمي على منطقة القرن الإفريقي، تحسبًا لاستثمار دول مثل الصين وروسيا وإيران وتركيا وتأخر الترتيبات التي يجريها بايدن داخل وزارة الخارجية لزيادة نفوذها.
حرب تيغراي.. صمت الإدارة السابقة
شهدت الأشهر الأخيرة من عهد ترامب اندلاع الحرب الأهلية الإثيوبية في إقليم تيغراي الإثيوبي، ويُعتقد أن هذه العملية العسكرية أعد لها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والرئيس الإريتري أسياس أفورقي منذ فترة طويلة، وفق ما ذكره الباحث البريطاني المتخصص في شؤون القرن الإفريقي أليكس دي وال الذي يشير إلى أن اتفاق السلام الموقع بين الزعيمين عام 2018 كان هدفه الأساسي القضاء على العدو المشترك لهما وهو جبهة تحرير تيغراي.
لكن الحرب لم تقف عند القضاء على قادة جبهة تحرير تيغراي والقوة الضاربة التي يمتلكونها، فمعظم قيادات الصف الأول المطلوبين خرجوا إلى الجبال من عاصمة الإقليم مقلي قبل أن تسيطر عليها قوات الجيش الفيدرالي، ووقع السيناريو الأسوأ على المدنيين وعلى البنية التحتية للإقليم.
إذ بدأت الحقائق الصادمة تظهر للعلن بعد قرابة 4 أشهر على الحرب، مثل مجزرة أكسوم المروعة التي كشفتها منظمة العفو الدولية، حيث قتلت القوات الإريترية مئات المدنيين على مدى يومين في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بحسب تقارير موثقة، ووصفت منظمة العفو الدولية في تقريرها عمليات القتل الجماعي التي وقعت يومي 28 و29 من نوفمبر/تشرين الثاني بأنها قد ترقى إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية.
مجزرة أكسوم ليست إلا صورة مصغرة لما آل إليه إقليم تيغراي بعد الحرب المدمرة التي أطلقها عليه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي والرئيس الإريتري أسياس بمشاركة مليشيات عرقية من قومية أمهرا التي تدعم رئيس الوزراء آبي بقوة، فقد كشفت التقارير عن مجازر عديدة وصفها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بـ”الفظائع”، وجدد مطالبات بلاده بسحب القوات الإريترية ومليشيات الأمهرا من الإقليم، كما ألمح إلى أن بلاده ستقود تحركًا دوليًا للضغط على الحكومة الإثيوبية.
جاء تعامل وزير خارجية بايدن مع أزمة تيغراي مختلفًا تمامًا عما حدث إبان اندلاع الحرب التي وقعت في نهاية حقبة ترامب، فالرئيس الأمريكي السابق تجاهل إيقافها كأنه لم يسمع بها، بل إن كبار المسؤولين في إدارته منحوا ضوءًا أخضرًا لرئيس الوزراء الإثيوبي، حيث تبنى وزير الخارجية السابق بومبيو ومساعده للشؤون الإفريقية تيبور ناجي الرواية الإثيوبية الرسمية للحرب، وهي أن العملية العسكرية جاءت للرد على هجوم نفذته جبهة تحرير تيغراي على القيادة الشمالية للجيش الفيدرالي.
الأزمة الدستورية في الصومال
تم تأجيل الانتخابات التي كان يفترض أن تنعقد في فبراير/شباط الماضي في الصومال إلى أجل غير مسمى، وسط أزمة دستورية غير مسبوقة، ما يثير مخاوف من عودة الصراع المسلح في هذا البلد الذي شهد استقرارًا نسبيًا طيلة السنوات الماضية.
انعقد اجتماع تشاوري للقادة الصوماليين في الـ8 من فبراير/شباط الماضي لكنه فشل في التوصل إلى حل وسط لإجراء الاقتراع في التاريخ المقرر، ما يعني أن الأمور لا تسير كما هو مأمول، خاصة بعد التوصل إلى إجماع في سبتمبر/أيلول الماضي على نظام التصويت.
غير أن تعثر تطبيق النص الذي أدى إلى التأجيل الأول للانتخابات التي كانت مقررة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أدى إلى التعثر أيضًا في التفاصيل الأخيرة، ما أثار الخلاف بين الحكومة الفيدرالية الموجودة في مقديشو والمعارضة وحكومات الولايات، بما في ذلك بونتلاند وجوبالاند المتمتعتان بحكم ذاتي.
وقال عمر محمود، الباحث في مجموعة الأزمات الدولية: “هذا الفشل يرجع بشكل أساسي إلى انعدام الثقة بين السياسيين الصوماليين المختلفين”، حيث يرى الرئيس محمد عبد الله محمد – المعروف باسم فرماجو – أن انتهاء ولايته في الـ8 من فبراير/شباط يمنحه الحق في الاستمرار في تولي المنصب حتى انتخاب رئيس جديد، في حين لم يعد القادة السياسيون للمعارضة يعترفون بشرعيته ويطالبون بتشكيل حكومة مؤقتة.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن البرلمان الفيدرالي انتهت ولايته هو الآخر منذ ديسمبر/كانون الأول 2020، فذلك يعني – حسب الكاتب – أن الصومال لم تعد له حكومة شرعية حقيقية.
الصراع الحدودي بين السودان وإثيوبيا
تعد قضية الحدود على قدر عالٍ من الأهمية وتؤثر بشكل كبير على العلاقات بين السودان وإثيوبيا، ورغم إبداء الدولتين حرصًا على احتواء الخلاف في إطار دبلوماسي سياسي، فإن القضية أحيت شعورًا قويًا لدى قطاع من السودانيين بأن لدى الجانب الإثيوبي أطماعًا متجددة في أراضي السودان، مع أن هذه القضية حُسمت منذ عشرات السنين عبر اتفاقات مُحكمة وتحديدًا اتفاقية 1902 بين الحكومة البريطانية الممثلة للسودان ومنليك الثاني ملك ملوك إثيوبيا.
قام السودان وإثيوبيا بإحياء محادثات عام 2008 كانت قد دخلت في سبات منذ أمد طويل ليحددا بدقة حدودهما التي يبلغ طولها 744 كيلومترًا، وفي هذا الإطار، كانت الفشقة هي أصعب منطقة لتسوية الخلاف بشأنها، فوفقًا لمعاهدات عامي 1902 و1907 أن الأرض ملك للسودان، لكن الإثيوبيين استقروا في المنطقة حيث مارسوا الزراعة ويدفعون ضرائبهم للسلطات الإثيوبية.
وصلت المفاوضات بين الحكومتين إلى حل وسط عام 2008 حيث اعترفت إثيوبيا بالحدود القانونية، لكن السودان سمح للإثيوبيين بالاستمرار في العيش هناك دون عائق.
وصف الباحث أليكس دي وال، ذلك الاتفاق بأنه حالة كلاسيكية لـ”الحدود الناعمة” التي تمت إدارتها بطريقة لا تسمح لموقع “الحدود الصلبة” بتعطيل سبل عيش الناس في المنطقة الحدودية، حيث ساد تعايش لعقود حتى طالبت إثيوبيا بخط سيادي نهائي.
وترأس الوفد الإثيوبي إلى المحادثات التي أدت إلى تسوية عام 2008 آباي صيهاي، المسؤول السابق في جبهة تحرير شعب تيغراي، وبعد الإطاحة بالجبهة من السلطة في إثيوبيا عام 2018، أدان زعماء عرقية الأمهرا الاتفاق، ووصفوه بأنه صفقة سرية، وقالوا إنه لم تتم استشارتهم بشكل صحيح بشأن ذلك الاتفاق.
وقد أدى الصراع الأخير في إقليم تيغراي الإثيوبي إلى حدوث الاشتباكات السودانية الإثيوبية في الفشقة، فقد طرد الجيش السوداني الإثيوبيين وأجبرهم على الرحيل معلنًا استرداد أراضيه، وفي قمة الإيقاد التي عُقدت في جيبوتي في 20 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، أثار رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك الأمر مع نظيره الإثيوبي آبي أحمد، وقد اتفقا على التفاوض، لكن لكل منهما شروطًا مسبقةً مختلفةً، فإثيوبيا تريد من السودان الانسحاب من الأراضي التي سيطر عليها أولًا، وتطالب كذلك بتعويض المتضررين، فيما يتمسك السودان بالبقاء في الأراضي التي أحكم السيطرة عليها.
سد النهضة.. جمود المفاوضات
تعتبر مصر إقامة سدود في دول المنبع تهديدًا لحصتها من مياه النيل التي حصلت عليها بمقتضى اتفاقيات الحقبة الاستعمارية، بينما تنظر إثيوبيا إلى النهر كمصدر أساسي للطاقة الكهرومائية اللازمة لتطورها الاقتصادي.
وقد وصل الخلاف إلى ذروته بشأن بناء سد النهضة الإثيوبي الضخم، حيث أعلنت الوساطة الإفريقية في يناير/كانون الثاني الماضي وصول مفاوضات السد الإثيوبي إلى طريق مسدود، فيما يقول خبراء إن خيارات السودان باتت تضيق بشكل أكبر مع مواصلة أديس أبابا لخططها في استكمال عمليات ملء السد دون الرجوع لدولتي الممر السودان والمصب مصر.
أوضح وزير الري السوداني ياسر عباس أن بلاده طلبت خلال الاجتماع بتغيير منهجية التفاوض، وطريقته وتوسيع دور الخبراء للحد الذي يمكنهم من لعب دور أساسي في تسهيل التفاوض وتقريب شقة الخلاف، لكنه أشار إلى وجود العديد من العقبات.
وقال: “لا يمكننا أن نستمر في هذه الدورة المفرغة من المباحثات الدائرية إلى ما لا نهاية بالنظر لما يمثله سد النهضة من تهديد مباشر لخزان الروصيرص الذي تبلغ سعته التخزينية أقل من 10% من سعة سد النهضة، إذا تم الملء والتشغيل دون اتفاق وتبادل يومي للبيانات.
من جانبه شدد وزير الخارجية المصري على ضرورة التوصل لاتفاق قانوني مُلزم قبل تنفيذ المرحلة الثانية من الملء من خلال إطلاق مسار مفاوضات جادة، بما يراعي مصالح الدول الثلاثة.
سد الفجوة في الإدارة الأمريكية
كل هذه القضايا الملتهبة التي تؤثر بالدرجة الأولى على مصالح الولايات المتحدة، دفعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى التفكير بجدية في تعيين مبعوث خاص إلى منطقة القرن الإفريقي.
بحسب مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، يمكن لمنصب المبعوث الخاص الجديد أن يسد فجوة التأخير في التعيينات الدبلوماسية لإدارة بايدن التي تعمل على تعيين مسؤولين كبار آخرين في وزارة الخارجية، وهي عملية قد تستغرق أسابيع أو أشهر حتى تكتمل، لأنها تتطلب ترشيحًا من الرئيس الأمريكي وموافقة على المرشح من مجلس الشيوخ.
أما وظائف المبعوثين الخاصين فلا تتطلب تأكيدًا بالموافقة من مجلس الشيوخ، وهو ما يسهل للمبعوث الجديد مهمة استلام ملف القرن الإفريقي مثلما استلم تيموثي ليندركينغ المبعوث الخاص إلى اليمن وكذلك روبرت مالي المبعوث الخاص إلى إيران – في مهمات عاجلة – ملفات لا تحتمل أي تأخير.
سيواجه المبعوث الأمريكي الخاص إلى منطقة القرن الإفريقي تحديات ومشكلات كثيرة، أبرزها وأكثرها إلحاحًا، حكومة الصومال الهشة التي تكافح التهديدات المستمرة المتمثلة في “جماعة الشباب” المصنفة إرهابية، إلى جانب قضية الصراع الإثيوبي الداخلي الذي تورطت فيه إريتريا.
إذ يقول روبي غرامر – مراسل الشؤون الدبلوماسية والأمن القومي في فورين بوليسي – إن الأزمة الأكثر إلحاحًا في نظر العديد من صانعي السياسة الأمريكيين هي الحرب في إثيوبيا ومخلفات الحملة العسكرية في منطقة تيغراي شمال البلاد، التي غلب عليها العنف العرقي وسقط خلالها آلاف القتلى والجرحى وبات الملايين في حاجة إلى المساعدة الإنسانية العاجلة.
كما يخشى المسؤولون الأمريكيون أن يتحول الصراع في تيغراي إلى أزمة إقليمية كاملة، مع امتداد الاضطرابات إلى إريتريا والسودان المجاورين.
يبرز اسم دونالد بوث كأحد المنافسين الرئيسيين على الوظيفة المحتملة، وهو خبير دبلوماسي محنك في المنطقة ويعمل في الوقت الحاليّ مبعوثًا أمريكيًا خاصًا إلى السودان، وعمل سابقًا سفيرًا للولايات المتحدة في ليبيريا وزامبيا وإثيوبيا.
لم تؤكد إدارة باين حتى الآن خبر تعيين مبعوث للقرن الإفريقي، لكن وزير الخارجية أنتوني بلينكن أكد لمجلس الشيوخ في وقت سابقٍ، أن الفكرة مطروحة قيد النقاش داخل الإدارة، فالقارة السمراء تعد أولوية لإدارة بايدن ونائبته كامالا هاريس، إذ أبدت الإدارة الجديدة اهتمامًا بإعادة تنشيط علاقاتها مع إفريقيا، فقد حرص الرئيس بايدن على إجراء محادثة هاتفية مع نظيره الكيني أوهورو كينياتا، وبدورها أجرت هاريس مباحثات مع رئيس الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسكيدي.
ولعل النقاش ينصب في الإدارة الأمريكية عما إذا كان منصب المبعوث الخاص الجديد سيرفع تقاريره مباشرة إلى الرئيس أو إلى وزير الخارجية أو إلى مساعد وزير الخارجية للشؤون الإفريقية، وكيف سيتم التنسيق بين المبعوث والسفارات الأمريكية في المنطقة إلى جانب التنسيق مع أجهزة الدولة المختلفة.
وفي كل الحالات يُنظر إلى المبعوث الخاص على أنه أكثر قدرة على التفاوض ورعاية المصالح الأمريكية نيابة عن واشنطن، خاصة مع وجود خط مباشر بينه وبين الرئيس أو حكومته، فالولايات المتحدة تمتلك ثقلًا ونفوذًا قويًا في المنطقة يؤهلها بجدارة لتسوية الصراعات والأزمات التي تعصف باستقرار القرن الإفريقي.