قليلة هي الأماكن التي يمكن للمرأة العربية اللجوء إليها لتتحدث عن ظلمها أو تعنيفها، فالنظام القضائي لا ينصفها في عالمنا العربي، ويعيد الشكاوى إلى “ولي الأمر” الذي قد يكون هو المشتكى عليه أو إلى العشيرة أو الحمولة التي “تلملم” المشكلة بدواعي اجتماعية ومبررات مثل “سمعة العائلة” أو “البيوت أسرار” أو “تشويه الصورة العامة”، وغيرها من المصطلحات التي صنعها المجتمع لحماية الذكور من أي محاسبة، وحصر هذه الجرائم في الشأن الخاص لا العام، كي يحرم المرأة من حقها في الدفاع عن نفسها بالقانون.
ولكن مع وصولنا إلى عصر التواصل الرقمي، تغير الأمر وصرنا نعلم بوجود هذه القصص بعد أن كسرت المنصات الافتراضية جدران المنازل لتخبرنا ماذا يجري بداخلها من انتهاكات بحق المرأة. وبحسب إعلان ومنهاج بكين المعتمد في مؤتمر الأمم المتحدة العالمي الرابع المعني بالمرأة فإن “لوسائل الإعلام إمكانات كبيرة لتعزيز النهوض بالمرأة من خلال إحداث تغيير في الرأي العام وفي السلوك تجاه النساء”.
ومؤخرًا، شهد المجتمع الافتراضي العربي عشرات الشكاوى من نساء وفتيات معنفات داخل البيوت لا سيما خلال جائحة كورونا، حيث ظهرن بتسجيلات مصورة في أغلب الأحيان وهن يطالبن بالدعم، وسرعان ما حققت هذه المناشدات انتشارًا واسعًا بين الناس، ووصل صداها في بعض المرات إلى دول أخرى، وتحولت بعضها إلى حملات ومبادرات لكسر الصمت.
أزمة ثقة
لكن بعض الحالات لا تتلقى الدعم والتعاطف المطلوب للتعامل مع قضيتها كما يجب، وإنما تقف في وجهها التشكيكات والاتهامات الباطلة والتحليلات الفارغة، بدعوى أن القصة غير كاملة من الفتاة المشتكية أو أنها متناقضة أو مختلفة عن الروايات المنشورة على حسابات جديدة، مثلما حدث مع الشابة الفلسطينية إسراء غريب (21 عامًا) من مدينة بيت لحم بفلسطين، التي قالت عائلتها إن الفتاة توفيت بسبب “الجن والشعوذة” لا من التعنيف النفسي والجسدي، خاصة بعد أن تحولت قصتها إلى قضية رأي عام.
أو كما ما حدث أيضًا في الأسابيع الماضية مع الفتاة الأردنية ليان داوود (20 عامًا) التي قوبلت شكواها بالتشكيك من البعض الذين قالوا إن روايتها ضعيفة وغير مقنعة، خاصة في ظل اختلاف الأسباب وراء مغادرتها الأردن إلى تركيا الشهر الماضي هربًا من العنف الأسري.
ولكن على الرغم من وجود فئات كبيرة تبدأ بالتشكيك وإخراج المحقق كونان من داخلها قبل حماية المرأة أو الضحية، نجد شريحة أخرى، سواء كانوا أشخاصًا فرادى أم مؤسسات حماية المرأة، يصبون كل تركيزهم على الحالة الطارئة أمامهم ويتخذون الخطوات اللازمة لمساعدة الضحية في النجاة من واقعها القاسي، وبعد توفير الحماية، إن أمكن ذلك، يمكن الخوض في تفاصيل القصة ودوافعها والتثبت من معلوماتها، فالأهم من إلقاء اللوم هو احتواؤها وإبعادها عن العوامل التي تهدد حياتها.
أضرار محتملة
مغامرة كبيرة تقع على عاتق الفتاة التي تتجرأ بطرح قصة تعنيفها أو التحرش بها على الحيز الرقمي العام، فبعد ذلك يصبح التراجع عنه صعبًا، وتكون الفتاة أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تحميها المؤسسات المعنية بذلك مثل منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية، وذلك بعد أن تصبح قصتها قضية رأي عام في أغلب الأحيان، وإما تواجه خيارها الثاني الأكثر صعوبة بأن يعود بها الحال إلى العائلة التي تكون في أغلب الأحيان هي الخطر عليها والمسبب في خروجها للحديث في العلن.
في الخيار الثاني تكون الفتاة أمام معاناة جديدة قد تكون أشد خطورةً من التي تعرضت لها بالسابق، لأن تركيز شريحة واسعة من المجتمع ينصب على “سمعة العائلة”، وما سببته الضحية من “فضائح” لأهلها، بحسب اعتقادهم، وفي هذه الحالة يتخذ الأهل إجراءات تعنفية وترهيبية، مثل منعها من الخروج من المنزل أو الوصول إلى الإنترنت وسحب جواز السفر الخاص بها، كذلك وضع قيود على لقائها بصديقاتها أو منعها من حقها في التعليم لسنوات بدعوى تأديبها أو حتى الاستمرار في ارتكاب الجريمة الأولى سواء كانت نفسية أو جنسية أو جسدية.
نجاحات ملموسة
عمومًا، لم تكن التجارب جميعها سلبية دائمًا، فعند النظر إلى ما نشرته عارضة الأزياء الكويتية الأمريكية آسيا عاكف (32 عامًا)، عن طريق مقطع فيديو على إنستغرام وسناب شات، أخبرت فيه متابعيها عن تعرضها لتحرش ومضايقات خلال مرورها في أحد شوارع مدينتها، معبرة عن غضبها حيال هذا الموضوع، وإطلاق الناشطة الكويتية شيماء شمو (27 عامًا) حملةً رقميةً بعنوان “لن أسكت” ضد التحرش بالنساء في الكويت، تحث من خلالها النساء على الإدلاء بشهادتهن والحديث عن العنف والتحرش الذي تعرضن له دون خوف، نلاحظ ردود فعل مختلفة من الحيز الافتراضي.
إذ لم تكن هذه الحملة الإلكترونية وحدها التي نجحت في إلقاء الضوء على ما تعانيه المرأة في بلادنا العربية، فقد ظهرت أيضًا حملات مثل “امسك متحرش” و”بصمة” و”ملكش فيها” و”شفت تحرش” التي انطلقت من مصر وتهدف إلى إنهاء التقبل المجتمعي لظاهرة التحرش الجنسي وذلك عن طريق الإبلاغ عن حوادث التحرش التي تحدث في الشارع بصورة يومية، وأيضًا الحديث عن المواقف التي تتعرض لها النساء على مواقع التواصل الاجتماعي.
يضاف إلى ذلك، حملة “مش بسيطة” لمناهضة التحرش الجنسي انطلقت من لبنان وكان أول مطلب فيها هو إقرار قانون لمعاقبة التحرش الجنسي، والأمر ذاته في تونس التي انطلقت منها حملة بعنوان “المتحرش ميركبش معانا”، وهي مبادرة ضد التحرش في وسائل النقل العمومية.
قد لا تخدم السوشيال ميديا النساء دومًا في الإبلاغ عن شكواهن أو مطالبهن، بسبب كل ردود الفعل الهجومية والعدائية التي ترى في كلامهن تهديدًا للمنظومة الأبوية وللتقاليد الاجتماعية، ومع ذلك، فإن هذه الأدوات الرقمية فرصة قوية لمعالجة مشاكلهن والحد من ثقافة الصمت التي أضرت الكثيرات ودفعت بعضهن إلى فقدان حياتهن.