أصدرت محكمة جنايات دمنهور بمحافظة البحيرة، في الـ21 من فبراير/شباط الماضي، حكمًا ببراءة 19 عاملًا من عمال شركة كفر الدوار للغزل والنسيج، صدرت ضدهم أحكام غيابية بالحبس تتراوح بين 10 و25 سنة مؤبد على خلفية اتهماهم بالتظاهر والاعتصام والإضراب داخل مقر الشركة.
المحكمة ذاتها كانت قد أصدرت حكمًا في الـ28 من ديسمبر/كانون الأول 2020 يقضي بحبس هؤلاء العمال في القضية رقم 9380 لسنة 2020 قسم كفر الدوار، بعد تصاعد موجة الاحتجاجات العمالية ضد ما أثير بشأن تصفية الشركة وتعرض ما يزيد على 7 آلاف عامل بها للطرد والانضمام لطابور البطالة.
ورغم الانتصار العمالي الذي تحقق بإلغاء أحكام الحبس والحكم ببراءة العمال، فإن حالة من القلق تخيم على أرجاء العاملين وأسرهم، فضلًا عن المهمومين بالاقتصاد الوطني، إذ ما زال شبح شركة الحديد والصلب التي تعرضت لتصفية مقيتة بدعوى ما تتعرض له من خسائر، يفرض نفسه على العديد من شركات القطاع العام ومن بينها شركة كفر الدوار.
وبين تأكيد الحكومة المصرية وضع الشركة، التي يعود تاريخ تأسيسها إلى 1938، على قائمة التطوير والنهوض عبر إستراتيجية طويلة المدى، في مقابل مخطط التصفية العملية من خلال العديد من المؤشرات الملموسة، يقبع آلاف العمال في انتظار مصيرهم المجهول في ظل تعتيم إعلامي غير مفهوم وإصرار رسمي على الإجهاز على القطاع العام الذي ظل لسنوات طويلة عصب الدولة أوقات الأزمات.. فما القصة؟
خطة تطوير حكومية
في بدايات 2019 أثيرت حالة من البلبلة داخل الشركة بسبب أنباء تشير إلى نقلها أو دمجها فيما أعرب البعض عن مخاوف التصفية، وعلى الفور بدأت اللجنة النقابية العمالية داخل المقر تتساءل عن حقيقة هذا الكلام، لكن الإجابة وقتها لم تكن شافية.
العمال وقتها قرروا استخدام أسلوب الضغط للوقوف على أرضية صلبة بهذا الشأن، في تلك الأثناء كانت هناك أزمة أجور ومكافآت وحوافز، فوجد العاملون في ذلك فرصة للاعتصام والحديث عن مستقبلهم داخل الشركة التي يقبعون بها منذ عشرات السنين.. الأمر الذي أقلق الإدارة والحكومة في آن واحد.
في أبريل/نيسان 2019، خرج المتحدث باسم رئاسة الجمهورية، السفير بسام راضي، معلنًا خطة الدولة لتطوير قطاع الغزل والنسيج، بناءً على توجهيات من الرئيس عبد الفتاح السيسي، لافتًا في بيان رسمي صادر عنه أن خطة التطوير ستشمل تحديث الآلات والمعدات، بالتوازي مع رفع كفاءة المعدات الحاليّة بتلك المصانع.
البيان ذكر أن خطة التطوير مدرجة على قائمة أولويات الحكومة منذ 2017، بالاستعانة بأحد مكاتب الاستشارات الأمريكية ويدعى “وارنر”، وكانت الخطة المعلنة تهدف – بحسب رئاسة الجمهورية – إلى مضاعفة طاقة الشركات الإنتاجية الحاليّة أربع مرات، وتحويل خسائر شركات الغزل والنسيج (البالغة 40 مليار جنيه) لأرباح صافية قدرتها دراسات الجدوى بثلاثة مليارات جنيه، بدءًا من العام الثالث من التشغيل.
خطة التطوير كان من المقرر لها أن تستغرق عامين ونصف، تغلق فيها الشركة، فيما تعاود إنتاجها بداية 2022، على أن يبدأ تحقيق الأرباح في 2025، وتقوم على دمج تسع شركات حليج وتجارة وكبس في شركة واحدة، ودمج 22 شركة غزل ونسيج وصباغة في تسع شركات كبرى، وتحويل ثلاث شركات (المحلة وكفر الدوار وحلوان) إلى مراكز صناعية متكاملة كبرى مع تخصيص ثلاثة مراكز للتصدير في المحلة وكفر الدوار والدلتا.
في سبتمبر/أيلول 2019 وخلال زيارته لشركة كفر الدوار للغزل والنسيج أكد وزير قطاع الأعمال هشام توفيق، أن الشركة ستكون أحد المراكز الصناعية الكبرى عقب تنفيذ خطة التطوير، وذلك خلال استماع لشرح تفصيلي عن أعمال تطوير البنية التحتية للمصانع، وكذلك التطوير الفني لوحدات الإنتاج.
ومنذ زيارة الوزير وحتى ديسمبر/كانون الأول 2020 لم يتغير شيء في الوضع القائم، ولم يلاحظ أي ملامح تطوير على الشركة، فلا مكان جديد كما قيل، ولا استيراد بنية مميكنة حديثة، ولا حتى تأهيل العنصر البشري عبر دورات تدريبية، وهنا بدأ يساور العمال الشكوك.
المخاوف تتصاعد
في الـ27 من ديسمبر/كانون الأول 2020 استدعى رئيس الشركة القابضة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر للغزل والنسيج (كفر الدوار)، اللجنة النقابية بالشركة، لحضور اجتماع في مقر شركة صباغي البيضا التي تبعد نحو 6 كيلومترات عن المقر الرئيسي للشركة، وكان الهدف مناقشة ملف غلق الشركة.
القرار حينها قوبل برفض اللجنة واعتصام العاملين بحسب شهادة أحدهم “سيف 37 عامًا” لموقع “مدى مصر” الذي كشف عن قلق موظفي الشركة من الحديث عن نقل عمال كفر الدوار إلى “صباغي البيضا” مؤقتًا لحين تطوير الشركة، لافتًا إلى أن عدد عمال الشركة يبلغ سبعة آلاف و303 عمال، بينما يصل عدد عمال شركة صباغ البيضا نحو 1100 عامل، وهي الخطوة التي اعتبرها البعض بداية الطريق نحو التصفية.
وعلى الفور بدأ العمال في الاعتصام، الأمر الذي قابله رئيس الشركة القابضة ببيان سعى من خلاله إلى طمأنتهم من خلال التأكيد على ضمان حقوق العمال طيلة فترة الغلق، مع إضافة بعض التعديلات الخاصة بقواعد المعاش المبكر وصرف المستحقات المتأخرة للعمال.
وفي مارس/آذار الماضي تظاهر العمال تنديدًا بسياسات إدارة الشركة التي كانت سببًا رئيسيًا في تفاقم حجم خسائرها طيلة السنوات الماضية، وهو المبرر الذي استندت إليه الحكومة لتبرير قرارها سواء بالغلق أم التصفية، فيما طالب العمال بإقالة رئيس مجلس الإدارة قبل الوصول إلى طريق مسدود.
وفي ديسمبر/كانون الأول تُرجمت مخاوف العمال إلى إجراءات عملية، حيث أصدر وزير قطاع الأعمال – بشكل مفاجئ – قرارًا بإغلاق الشركة بشكل مؤقت لإعادة تطويرها، ليجد العاملون أنفسهم مدفوعين للزود عن عملهم ومستقبلهم الذي بات على المحك، فتم التصعيد من خلال الاعتصام بمقر الشركة لعدة أيام.
تصفية أم تطوير؟
الوزير لم ينفذ وعوده التي قطعها على نفسه بخصوص التطوير، رغم أنه قال إن الحكومة رصدت ميزانية قدرها 21 مليار جنيه لتطوير الشركات الخاسرة في هذا القطاع، وتحويلها إلى شركات رابحة وفق خطط مدروسة، لكن شتان شتان بين التصريحات والواقع.
العديد من المؤشرات التي رصدها العمال عززت مخاوفهم بشأن تصفية الشركة لا تطويرها، أبرزها أن إدارة الشركة فتحت الباب للمعاش المبكر في محاولة لتقليل عدد العمال قدر الإمكان حتى لا يكونوا عامل ضغط على خطة الغلق أو التصفية، مع العلم أن السواد الأعظم من العمال الذين يتجاوز عددهم 7 آلاف تتجاوز أعمارهم الخمسين.
القلق تصاعد مع تأكيد إدارة الشركة على خطوة الغلق وفق ما تم تناوله في الاجتماع الذي شارك فيه رئيس مجلس الإدارة واللجنة النقابية ديسمبر/كانون الأول العام الماضي، وذلك يتعارض تمامًا مع ما قاله وزير قطاع الأعمال بأن خطة التطوير تتضمن ضم شركات أخرى إلى كفر الدوار وليس العكس.
القياسات والأمثلة والشواهد الموازية والمتزامنة مع تحركات الحكومة حيال شركة الغزل بالبحيرة كانت عاملًا مهمًا في تعزيز حالة الخوف لدى العاملين، حيث تم تصفية العديد من شركات قطاع الأعمال خلال الآونة الأخيرة منها القومية للأسمنت والشركة المصرية للملاحة البحرية.
الانتقام من العمال
تصاعد الاعتصامات العمالية داخل مقر الشركة أثار حفيظة الإدارة والحكومة معًا، ففي أبريل/نيسان الماضي تم القبض على عدد من العمال بتهمة التجمهر، فيما تقدمت الإدارة ببلاغ رسمي لنيابة أمن الدولة العليا بأسماء هؤلاء العمال، وبعد مفاوضات عديدة تم الاتفاق على إلغاء البلاغ في مقابل فض الاعتصام.
التزم العمال وقتها وفضوا اعتصامهم نظير عدم تعريض زملائهم للخطر، لكنهم فوجئوا في بداية ديسمبر/كانون الأول 2020 بصدور أحكام غيابية بالسجن ضد 19 منهم، تتراوح بين 10 سنوات و25 عامًا، وهو الأمر الذي كان صدمةً للعمال تجاه مجلس الإدارة الذي خالف وعوده ولم يسحب البلاغ المقدم رغم استجابة العاملين المعتصمين.
حيثيات الحكم الصادر بحق العمال استندت إلى اتهامهم بحجز رئيس مجلس الإدارة، وسرقة مبلغ مالي قدره 50 ألف جنيه، والإضرار بممتلكات الشركة، مستخدمًا حزمة من قوانين العقوبات والتظاهر واستخدام اتهامات كفيلة بأن تذهب بهم إلى مقصلة الإعدام.
لم يتخل عمال الشركة عن قضيتهم رغم التنكيل الذي تعرضوا له وترهيبهم بما حدث مع زملائهم، فأصروا على التمسك بمطالبهم المشروعة، فيما تحولت قضية الحكم على العمال إلى قضية رأي عام، ليسدل الستار عنها قبل عشرة أيام بالبراءة وإلغاء الأحكام السابقة، بعد ماراثون من الجهد والكفاح.
انتصار نقابي
حالة من الفرح عمت الوسط العمالي بعد حكم البراءة بحق زملائهم، لا سيما أن القضية كانت صعبة للغاية بحسب شهادات العاملين والمحامين على حد سواء، خاصة أن القوانين التي استندت إليها الإدارة لتغليظ العقوبة على العمال كانت كارثية ومن الصعب الهروب منها.
شعبان عطية، رئيس اللجنة النقابية، أعرب عن سعادته بالحكم الذي يعكس ويؤكد ثقته في عدالة القانون، على حد قوله، على الرغم من توقعهم التأجيل وليس الحكم بالبراءة، مضيفًا في تصريحاته لموقع “مصر 360“: “العمال في حالة فرحة عارمة واعتبروا ذلك الحكم إبراءً لذمتهم، وأنهم ليس لهم أي مطلب إلا الحفاظ على كيان الشركة والحصول على مطالبهم المشروعة”.
طاهر أبو النصر، أحد أعضاء فريق الدفاع عن العمال، تعليقًا على الحكم قال “القضية كانت صعبة بالنسبة لفريق الدفاع بشكل خاص لما فرضته من مسؤولية وتحمل أمانة الدفاع عن عمال كل ما قاموا به هو الدفاع عن حقهم في العمل وصرف أجورهم عن هذا العمل، ويقبض عليهم بسبب ممارستهم ذلك الحق”.
وأكد “تلك النوعية من القضايا بهذا الكم من الاتهامات وهذا العدد من العمال، مرهقة وموترة لكل فريق الدفاع، خاصة مع وجود حكم غيابي بالمؤبد”، منوهًا في تصريحاته أن التحقيقات المصرية لم توجه تهم الإضراب ضد العمال، كون هذا حق أصيلًا لهم، واستعاضت عن ذلك بتهم أخرى من شأنها أن تزج بهم داخل السجون لعشرات السنين.
تيار داخل العمال يرى أن إلغاء الحكم السابق يشير إلى أنه كان وسيلة للضغط عليهم للقبول بقرار نقل المصنع، وحين بدت الأمور تسير وفق ما تريد الحكومة تم التراجع عن الإدانة، وهو ما وصفه البعض بأنه استخدام سيئ للقضاء للتحكم بالعمال وإجهاض تحركاتهم النقابية.
التطورات الأخيرة كشفت عن مضي الحكومة في طريقها نحو نقل المصنع وتصفية العمال عبر أدوات المعاش المبكر، الأمر الذي قد يدفع بالشركة إلى مصير شركة الحديد والصلب، وهو التوجه الذي بات يفرض نفسه خلال السنوات الأخيرة بزعم الخسائر الناجمة عن استمرار العمل بتلك الكيانات التي ظلت لعقود طويلة قلاعًا شامخة لولا إجهاضها بتعيين أنظمة إدارية فاشلة، كان هدفها الأول إجهاض هذا المشروع منذ البداية.
بعض المصادر كشفت أن الهدف من نقل الشركة والمصنع من مكانهما الحاليّ تدشين مشروع سكني كبير، بجوار محور المحمودية الذي يقطع مقر الشركة، وعليه سيتم تسليم الأرض بعد تفريغها من المصنع للهيئة الهندسية للقوات المسلحة لبدء تنفيذ المشروع على أنقاض إحدى أكبر قلاع الغزل والنسيج في المحروسة.
وفي الأخير ترى الدولة أن نقل المصنع لصباغي البيضا اندماج، فيما يصفه العمال بالتصفية، كما ترى الحكومة أن تعزيز سياسة المعاش المبكر حل عملي لتخفيض النفقات فيما يعتبرها الموظفون تسريحًا لهم، وبين نظرتي الدولة والعمال تبقى قلعة الغزل والنسيج في البحيرة ضحية في انتظار مصيرها الغامض، حتى إشعار آخر.