بلغ لبنان ذروة التأزم على المستويات كافة، لا سيما الاقتصادية والاجتماعية، مع انسداد أفق الحل السياسي حتى اللحظة، وغياب المساعي والمبادرات الجدية والحقيقية الكفيلة بإخراج وانتشال البلد من الكوارث التي بات يعيشها، فالمستوى المعيشي في لبنان بات جحيمًا لا يُطاق مع انهيار القيمة الشرائية لليرة اللبنانية أمام العملات الأجنبية، وقد لامست خلال الأيام الأخيرة عتبة العشرة آلاف ليرة لكل دولار أمريكي، وارتفاع الأسعار الجنوني في الأسواق بات لا يضبطه أي شيء، ومعها بات الحد الأدنى للأجور يساوي قرابة 70 دولارًا أمريكيًا، كما باتت الطبقة الفقيرة والمعدمة تضم أغلبية شرائح الشعب اللبناني.
والوضع السياسي ليس أفضل حالًا، إذ فشلت الطبقة السياسية في تشكيل حكومة من أصحاب الاختصاص والكفاءة وخارج منطق المحسوبية والمحاصصة والفئوية، وبعيدًا عن منطق الاستحواذ والاحتكار أو حرب الصلاحيات بين الرؤساء والقوى السياسية التي أوصلت جميعها إلى الحائط المسدود، ما دفع إلى طرح مبادرات وإطلاق دعوات كان من بينها الدعوة لعقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة.
الدعوة إلى مؤتمر دولي
سُجلت خلال الأسابيع الأخيرة محاولة نشطة قام بها البطريرك الماروني في لبنان، بشارة الراعي، لتذليل عقبات تشكيل الحكومة أمام الرئيس المكلف سعد الحريري. فقد زار الراعي قبل بضعة أسابيع القصر الجمهوري والتقى رئيس الجمهورية الماروني ميشال عون، وبحث معه سبل تشكيل الحكومة نظرًا لاستشعار البطريرك مدى خطورة الوضع في لبنان سواء على لبنان ككيان أم على المسيحيين فيه.
وركزت مبادرة الراعي في حينها على مساعدة الرئيس المكلف سعد الحريري على تشيكل حكومة من أصحاب الاختصاص والكفاءة وغير الحزبيين، وأن لا يكون فيها لأي طرف سياسي أو حزبي الثلث المُعطل.
بدا في الساعات الأولى أن رئيس الجمهورية وافق على مبادرة الراعي، لكن سرعان ما تم الانقلاب عليها من صهر رئيس الجمهورية، رئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل، فعادت الأمور إلى المربع الأول، ثم أعاد البطريرك الكرة مرة أخرى، وهذه المرة مع باسيل نفسه، لكن دون جدوى.
هنا شعر الراعي أن مبادرته وصلت إلى حائط مسدود، وأن تصلب رئيس الجمهورية وصهره، وربما قوى سياسية أخرى خلفهما، هو الذي أفشل مبادرته، عندها انتقل إلى الدعوة لمؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة يساعد لبنان على الخروج من أزماته، ثم أوضح بعد ذلك أن الدعوة إلى المؤتمر الدولي لا تعني تدويل الأزمة اللبنانية ولا فتح الباب أمام الدول للتدخل في لبنان واستقدام جيوشها إليه، كما أنها لا تعني طرح أزمة لبنان أمام مجلس الأمن وتحت الفصل السابع.
لقد أوضح الراعي أيضًا أن كل ما تعنيه الدعوة إلى مؤتمر دولي هو مساعدة لبنان للخروج من الأزمة لأن الطبقة السياسية الحاكمة لم تعد قادرة على القيام بمبادرة من هذا القبيل، غير أنه وأمام الحشود الشعبية التي زارت الصرح البطريركي في بكركي يوم السبت 27 من فبراير/شباط 2021 عاد وأكد على مواقف عدها البعض في لبنان استكمالًا للهجمة الغربية على حزب الله وسلاحه بشكل أساسي، خاصة عندما رفض الراعي صراحة أن يكون في لبنان جيشان ودولتان وأكثر من شعب في وطن واحد.
لقد شعر البعض أن دعوة البطريرك إلى مؤتمر دولي تشكل رأس حربة في مواجهة حزب الله بشكل أساسي في هذه المرحلة، فيما اعتبرها البعض الآخر محاولة لاستنهاض الانتفاضة الشعبية التي تحركت في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2019، أو استنهاض لقوى 14 آذار التي خاصت ثورة تحرير لبنان من الوجود السوري عام 2005.
المواقف من المؤتمر الدولي
أول المواقف من الدعوة إلى مؤتمر دولي صدرت في منتصف شهر فبراير/شباط على لسان أمين عام حزب الله حسن نصر الله، الذي رفض تلك الدعوة ولفت إلى أنها تشكل مادةً خصبةً لحرب أهلية جديدة، وحذر نصر الله في حينه من المزاح في مسألة الدعوة إلى مؤتمر دولي بشأن لبنان، واعتبرها استدراجًا للقوى الغربية إلى الساحة اللبنانية وتسليم هذه الساحة لها مع ما يترافق مع ذلك من حديث عن نزع سلاح حزب الله وتطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي.
بدا المشهد كما لو أن هناك انقسامًا جديدًا في لبنان عنوانه الأساسي هذه المرة الخلاف بين المسيحيين والشيعة، خاصة في ظل المواقف من مسألة المؤتمر الدولي
ثم بعد ذلك بدأت المواقف الرافضة للمؤتمر الدولي من القوى الحليفة للحزب والدائرة في فلكه، التي كان من بينها موقف المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي عبر عنه المفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان الذي رفض فكرة المؤتمر، ووضع الدعوة كما بقية الأطراف الرافضة في إطار محاولات محاصرة دور حزب الله ومقاومته في زاوية حرجة، لا سيما لناحية نزع الغطاء المسيحي عن الحزب الذي يمثله رئيس الجمهورية وتياره السياسي (التيار الوطني الحر).
وقد شُنت على البطريرك الراعي حملةً قاسيةً على وسائل التواصل الاجتماعي بلغت مبلغ اتهامه بالعمالة للكيان الإسرائيلي تارةً ولأمريكا تارةً أخرى، بينما شارك بعض السياسيين بتلك الحملة.
وفي مقابل هذه الأطراف الحليفة للحزب، وقفت أطراف سياسية أخرى، لا سيما حزب القوات اللبنانية وحزب الكتائب اللبنانية بشكل واضح إلى جانب دعوة البطريرك، وأكد كل من الحزبين التضامن مع البطريرك والوقوف إلى جانبه، وقد حشد كل منهما أنصاره في تظاهرة يوم السبت داعمة للراعي.
لقد بدا المشهد كما لو أن هناك انقسامًا جديدًا في لبنان عنوانه الأساسي هذه المرة الخلاف بين المسيحيين والشيعة، خاصة في ظل المواقف من مسألة المؤتمر الدولي، غير أن أطرافًا سياسيةً أخرى أخذت موقفًا أقل حدةً من دعوة البطريرك، فهي لم تذهب إلى حدود الموافقة على طلب التدخل الدولي حتى لو كان تحت عنوان مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة، لكنها أيضًا لم تغمض عينيها عن الوضع الذي بلغه لبنان من حالة انسداد في أفقه السياسي وتفاقم أزماته الاقتصادية والاجتماعية والحياتية.
وبالتالي فإن هذه الأطراف تريد حلًا ممكنًا ومقبولًا من خلال حوار وطني داخلي، لكنها أيضًا لا تريد للبنان الانخراط في لعبة المحاور الإقليمية التي يمكن أن يدفع ثمنها اللبنانيون، أو ربما هم يدفعون ثمنها اليوم بسبب الأزمة الاقتصادية المستفحلة.
المؤتمر الدولي فرصة أم انقسام جديد؟
أمام هذا المشهد الذي يُنبئ بمزيد من الأزمات، وأمام هذا الانقسام الواضح حيال هذه الدعوة، وأمام الضغوط التي يمارسها كل طرف معني بأزمة المنطقة بشكل عام تجاه الطرف الآخر، فإن الدعوة إلى مؤتمر دولي ولو برعاية الأمم المتحدة لا يبدو أنها ستشكل فرصةً جديةً وحقيقيةً للحل المنشود في لبنان، بل على العكس من ذلك فإنها قد تزيد من حجم الانقسام اللبناني، وتُوجِد تموضعات جديدة في المشهد المتأزم، بل أكثر من ذلك قد تعزز من أطروحات البعض التي باتت تدعو إلى صيغة سياسية جديدة للنظام في لبنان قد يكون عنوانها الأساسي اعتماد نظام أكثر من فيدرالي يقسم البلد على قاعدة لكم لبنانكم ولنا لبناننا.
المشهد اللبناني الحاليّ المقفل على الحلول بانتظار جلاء الترتيبات الإقليمية والدولية في ملفات المنطقة، وفي أولها، الملف النووي، سيكون محكومًا بالانتظار على أقل تقدير أو سيكون أسير إنجاز تلك الترتيبات، وإلى أن يحين ذاك الموعد يبدو أنه سيشهد المزيد من الانقسامات وسيسقط فيه المزيد من الضحايا اقتصاديًا واجتماعيًا وحتى أمنيًا، حتى تستقر الأمور لحلول ناجزة أو لانتصار طرف على آخر.