رغم مشاركتها الفاعلة في إنهاء أربعة عقود من النظام الاستبدادي للعقيد الراحل معمر القذافي، من خلال انخراطها في الصفوف الأولى للحراك ووقوفها جنبًا إلى جنب مع الثوار في المظاهرات وساحات القتال، ما زالت المرأة الليبية تُكافح إلى اليوم من أجل تحصيل موقع متقدم في النظام السياسي الجديد.
العشر سنوات التي أعقبت ثورة 17 فبراير/شباط لم تكن كافية لإعادة المرأة إلى خريطة الفعل السياسي، الأمر الذي خلق نوعًا من الإحباط ودفع عددًا من منظمات المجتمع المدني إلى العمل على تحسين نسب المشاركة النسائية في الاستحقاقات الدستورية المقبلة، خاصة بعد اتفاق أطراف النزاع في ليبيا على إجراء الانتخابات نهاية العام الحاليّ.
المرأة والثورة
منذ الشرارة الأولى للحراك، تقدمت المرأة الليبية صفوف المظاهرات التي خرجت ضد نظام معمر القذافي، وساهمت في تقديم الدعم للثوار من خلال الجمعيات الأهلية والتطوعية التي نشأت في مدينة بنغازي، كما تبرعت بمالها وممتلكاتها للجان مختصة لدعم الثوار في المنطقة الغربية (جبل نفوسة)، وساعدت على معالجة الجرحى وإسعافهم، إضافة إلى نشاطها في صفحات التواصل الاجتماعي والمدونات الإلكترونية عبر مقالاتها المؤثرة لحشد الرأي العام المحلي والأجنبي.
لم تكتف بذلك، فقد هربت السلاح في ملابسها غير مبالية بالمخاطر التي قد تلحق بها أو بسطوة ووحشية كتائب القذافي، ونقلت الرسائل بين الثوار والشخصيات الوطنية التي انسلخت عن النظام، وحرضت لحشد الدعم للثورة عبر القنوات والإذاعات، كما ساهمت في توزيع المناشير وخاطت الأعلام وجمعت التبرعات.
وعقب انتهاء الأعمال المسلحة ودخول ليبيا إلى المرحلة الانتقالية، اختارت المرأة استكمال مسيرتها في إحياء دورها السياسي وعدم العودة إلى منطقة الظل، فشاركت في الانتخابات ومفاوضات السلام والاتفاقات والحوارات السياسية وفي الإصلاح المؤسسي.
توازيًا مع ذلك، حاولت المرأة الليبية ترسيخ وجودها في الحياة العامة من خلال انخراطها في مؤسسات المجتمع المدني (جمعيات ومنظمات)، وتوسيع دوائر فعلها اجتماعيًا واقتصاديًا، فاقتحمت المجال الإعلامي والحقوقي وأصبح بإمكانها التعبير عن آرائها في القضايا الحيوية.
معاناة وانتهاكات
بعد أن تقدمت المرأة الصفوف الأولى للثورة، أجبرت بعد أشهر قليلة على الانكفاء والعودة خطوة إلى الوراء، وذلك في وقت علت فيه الأصوات المنادية بتعدد الزوجات ومنع المرأة من السفر دون محرم والفصل بين الذكور والإناث في المدارس والجامعات.
وفي السياق ذاته، يمكن القول إن الخلخلة العميقة التي أحدثتها إرهاصات ما بعد الثورة في بنية مؤسسات الدولة وغياب الاستقرار وانتشار الفوضى واتساع دائرة الصراع المسلح، دفع الليبيين إلى الاحتماء بالبنى الاجتماعية القديمة وهي القبيلة، لذلك وجدت المرأة الليبية نفسها خارج دورها الحقيقي الذي رسمته لتحديد ملامح وخيارات ليبيا ما بعد 2011، وبات فعلها دون دعم سياسي أو سند مؤسسي ينظم قواعد فعلها المستدام.
تفكيك أوضاع المرأة الليبية موضوعيًا، يحتاج إلى معرفة محيطها والبيئة التي تعيش فيها سواء على صعيد سياسي أم اقتصادي أم اجتماعي، فالقبلية تتحكم في النسيج الاجتماعي منذ عقود ولا تزال إلى الآن عاملًا فاعلًا في منع تطور بنى المجتمع الليبي نحو مرحلة ينحل فيها هذا الجسم لمصلحة دولة القانون والمؤسسات.
هذه الوضعية، زادت من تعرض المرأة الليبية إلى التمييز الجندري في جميع جوانب حياتها، حيث يفرض عليها النوع الاجتماعي حدودًا كثيرةً عليها التقيد بها، ويجبرها غالبًا على تفصيل طموحها بما يتناسب مع هذه الدوائر، ويتجلى هذا التمييز في حقها في العمل الذي طالما خضع لمعايير النوع الاجتماعي ما جعل عملها خيارًا لا تملكه بل تحدده عوامل كثيرة، ويقرره بالنيابة عنها أشخاص آخرون.
أما في أثناء الصراع المسلح بين الغرب والشرق، فطال المرأة الليبية أنواع عديدة من التنكيل، حيث تعرضت للتهجير والتهديد والاغتصاب من المليشيات، حتى إن عددًا من الصحفيات والمحاميات والقاضيات تعرضن للاستهداف المباشر، وهو ما جعلهن يعزفن عن مواصلة أنشطتهن ويهاجرن إلى دول أخرى حفاظًا على حياتهن.
التهديدات المتواصلة فرضت محاذير على المرأة وأرغمتها على الصمت وعدم المجاهرة برأيها في المواضيع السياسية وفي الشأن الوطني، خاصة أنه في أكثر من مناسبة لم تتقبل الجماعات السياسية والقبلية آراءها المختلفة، ما فتح المجال للمليشيات الإلكترونية للنيل من كرامتها الإنسانية في مرحلة أولى ثم إلى تصفيتها جسديًا في مرحلة ثانية كما حصل مع كل من:
– الصحفية والناشطة الحقوقية نصيب ميلود كرفانة: قتلت ذبحًا في 29 من مايو/أيار 2014، بعد أن خطفت مع خطيبها في مدينة سبها على يد عناصر داعش.
– النائبة السابقة للمؤتمر الوطني فريحة البركاوي: اغتيلت في الـ7 من يوليو/تموز 2014 بوابل من الرصاص في إحدى محطات التزود بالوقود بمدينة درنة.
– الناشطة سارة الديب: اغتيلت في 21 من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2014، بمنطقة حي الأندلس بالعاصمة طرابلس.
– الناشطة انتصار الحصائري: وجدت مقتولة بأداة حادة في الحقيبة الخلفية لسيارتها بطرابلس في 23 من فبراير/شباط 2015.
– الناشطة سلوى بوقعيقيص: تم تصفيتها في 25 من يونيو/حزيران 2016 في منزلها بمدينة بنغازي.
– في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، كشف المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة عن مقتل 31 امرأةً ليبيةً وإصابة 41 أخرى منذ مطلع عام 2017 جراء أعمال العنف في البلاد.
– في 17 من يوليو/تموز 2019، تم خطف النائبة والناشطة الحقوقية سهام سرقيوة في بنغازي ولم يعثر عليها حتى اليوم.
– الحقوقية حنان البرعصي: تم تصفيتها في 10 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020 في أحد شوارع مدينة بنغازي.
تمثيل سياسي
حضرت المرأة بقوة إبان الحراك السياسي والمدني الذي شهدته البلاد في 2011، ما فسح لها المجال لتدعيم مكاسبها من ثورة 17 فبراير، ونجحت إلى حد ما عام 2012 عندما حصدت النساء 33 مقعدًا في المؤتمر الوطني الليبي بأول انتخابات أجريت في البلاد بعد انتهاء حكم القذافي، ويعني هذا أن المرأة باتت تمثل 16.5% من مقاعد البرلمان البالغ عددها 200 مقعد، وهذه النسبة أعلى من الـ10% التي اقترحت في مسودة قانون الانتخابات لتكون الحد الأدنى لوجود المرأة في المؤتمر الوطني.
لكن مشاركتها كمرشحة في انتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور 2014 تراجعت بشكل كبير، حيث بلغ عدد المرشحات 64 امرأةً من مجموع 649 (10.1%)، وقد مثل ذلك انخفاضًا ملحوظًا عن عدد النساء اللواتي ترشحن لانتخابات المؤتمر الوطني العام، ولم تشغل النساء إلا 6 مقاعد من مجموع أعضاء.
وفيما يخص مشاركتها في الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، لم يتم تمثيل النساء في المكتب التنفيذي تحت رئاسة الدكتور محمود جبريل إلا بسيدة واحدة مُنحت ملف وزارة الشؤون الاجتماعية، بينما ضمت حكومة عبد الرحيم الكيب التي تلتها، سيدتين تم منحهما وزارة الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية، أما حكومة علي زيدان فقد ضمت سيدتين ضمن 33 وزيرًا، بينما لم يتم منح النساء أي حقيبة وزارية في حكومة عبد الله الثني المعتمدة من مجلس نواب طبرق (شرق) مطلع سبتمبر/أيلول 2014.
التمثيل الضعيف للمرأة الليبية استمر أيضًا في الحكومات المتعاقبة بحقيبتين، ففي حكومة الوفاق الوطني المنبثقة عن حوار الصخيرات أُسندت وزارة الثقافة والمجتمع المدني ووزارة العمل لسيدتين، واقتصر تعيينهن في مناصب وكيل أو وكيل مساعد لبعض الوزارات، وكذلك في انتخابات السلطة التنفيذية الجديدة التي أفرزها الحوار الليبي.
ورغم دعوات المجتمع المدني والمنظمات الدولية بتوسيع دائرة مشاركة المرأة في الحياة السياسية، يبدو أن رئيس الحكومة المكلف، عبد الحميد دبيبة، يسير على نهج سابقيه وذلك بعد محاولاته التملص من تعهداته السابقة بتخصيص 30% من تشكيلة وزرائه للنساء.
التحديات والآفاق
إن الأزمة التي تُعاني منها المرأة الليبية لا يُمكن حصرها في البُعد القانوني والتشريعي، فالنصوص الدستورية نصت بشكل صريح على جملة من الحقوق والضمانات التي تحفظ لها كرامتها وتفتح لها أبواب التمكين في كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، فغياب الثقافة التي تحترم المرأة ككيان فاعل ومنتج ومبدع ونقص التوعية المتصلة باحتياجاتها الأساسية وغياب التنفيذ الجاد للقانون، يجعلها رهينة أغلال القبيلة التقليدية والسلطة الذكورية.
لذلك فإن المرأة الليبية لا تزال تواجه الخوف من الانتقام والوصم بالعار، وتعاني من انعدام المساواة المتأصل بين الجنسين، مع ما يرافق ذلك من الافتقار إلى الثقة في النظام القضائي، الذي ما زال يشكل عائقًا أمام حماية الحيز المدني وتعزيز دور المدافعات عن حقوق الإنسان والناشطات السياسيات، فيما تكابد المرأة العاملة العديد من العراقيل ومنها التدرج في السلم الوظيفي.
من جانب آخر، فإنها مدعوة للنضال من أجل تفعيل القوانين التي تمنع أي تمييزٍ بناءً على النوع الاجتماعي أو الجنس، وتعديل بعض النصوص الدستورية غير الواضحة والصريحة التي تفتح الأبواب لانتهاك حقوقها وتشرعن للاعتداء عليها كقوانين الأسرة والأحوال الشخصية، التي لا تزال غير قادرة على توفير المساواة بين الرجل والمرأة.
في مقابل ذلك، تبدو المرأة الليبية أمام فرصة حقيقية لافتكاك حقوقها وتدعيم وجودها في الحياة العامة دون قيود، خاصة مع توافر عدة عوامل قد تدفع بها إلى قمة الفعل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وذلك شريطة الاستفادة من التغير النسبي في بنية العلاقات بين الجنسين الناجم بدوره عن الحرب.
فالصراع المسلح في ليبيا طيلة السنوات التي أعقبت الثورة، ساعد النساء على اكتساب مهارات ومعارف ودفع بهن إلى تحمل المسؤوليات ولعب أدوار جديدة خارج البيت، ما يعني أنها خطت خطوة إلى الأمام لكسر حواجز الاجتماعية، وذلك مع الأخذ بالاعتبار أسبقيتها في التحصيل العلمي وتفوقها على الرجل.
فوفقًا لتقرير صدر عام 2013 أجرته المؤسسة الدولية للأنظمة الانتخابية، فإن أعداد النساء الحاملات لدرجة البكالوريوس (أو أعلى) موازية بدرجة كبيرة لأعداد الرجال الحاملين لتلك الدرجات، وأن 77% من النساء الليبيات ممن هن تحت سن الـ25 نوين متابعة تعليمهن العالي، مقارنةً بنسبة 67% فقط من الذكور.
ويمكن للمرأة الليبية الاستثمار في انقلاب التراتبية بين الجنسين بعد النزاعات المسلحة كما حصل في دول أوروبية كألمانيا وآسيوية كاليابان، حيث خلفت الحرب العالمية الثانية الكثير من القتلى والجرحى من الرجال، ما دفع بهذه المجتمعات إلى الاستنجاد بالنساء داخل القوى المدنية والعسكرية لدعم القطاعات الصناعية والاقتصادية، ما مكنهن لاحقًا من المطالبة بفرص أكبر في الوظائف السياسية والسلطة.
وأولى المؤشرات الإيجابية عن هذه التحولات ظهرت بشكل جلي في تزايد أعداد سيدات الأعمال اللواتي يدرن شركات متوسطة وكبيرة في مجالات مختلفة كتوزيع الأدوية ومراكز التدريب والملابس وغيرها، بالإضافة إلى ارتفاع أعداد النساء اللواتي يترأسن الجمعيات الحقوقية والتنموية، وكذلك عودة المهاجرات اللواتي اكتسبن خبرات كبيرة في مجال التشاركية الاجتماعية وعمليات التنمية والتحديث.
مشروع تدريبي لتمكين المرأة الليبية اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا#ليبيا #تراغن#218NEWS pic.twitter.com/lOn2LFUb4m
— 218NEWS (@218news) February 27, 2021
يمكن القول إن عملية خروج المرأة الليبية نحو دائرة الفعل تتطلب إعادة رسم هوية مجتمعية جديدة والانتقال إلى مرحلة تأسيس وعي جمعي من خلال تذويب الذهنية القبلية واستبدالها بأخرى حضرية وحضارية قائمة على التشاركية بين الجنسين، وهي مرهونة بالأساس بملامح الحكومة القادمة ومدى استعدادها لبناء دولة القانون والمؤسسات وبمدى استعداد المرأة لاستعادة ريادتها على نهج المناضلة بهيجة المشيرقي.