في العام 1989 عرضت آلة فلكية قديمة ذات تصميم فني فريد، للبيع في مزاد سوذبيز الأمريكي الأصل المختص بالقطع الفنية والمجوهرات، الذي يملك 80 دارًا للتداول في 40 دولة حول العالم منها دار تقع في مدينة إسطنبول التركية.
تدعى هذه الآلة “قبلة نُما”، وتتمكن من تحديد الاتجاه باستخدام واحدة من تقنيات الإسقاط التي تعتمد على معادلات رياضية معقدة، وهو الأمر الذي أثار الكثير من الجدل في ذلك الوقت.
تحفة فنية ترشد إلى الكعبة
لم تكن الأدوات التي تحدد الزمان والمكان منتشرةً في الأزمنة القديمة مثلما عليه الآن بفضل التطور التكنولوجي، فتولدت قبلة نُما من حاجة المسلمين خارج شبه الجزيرة العربية إلى تحديد مكان القبلة للصلاة.
وتعد “قبلة نُما” – التي تعني مرشد القبلة وهو تعبير يجمع بين مفردات العربية والفارسية -، بوصلةً خاصةً بالحضارة الإسلامية، وهي شكل من أشكال “الإسطرلاب” الذي طوره علماء الفلك المسلمين في القرن الثامن لتحديد أماكن الأجرام السماوية ولمعرفة الوقت.
ظهرت الآلة بشكلها المعروف مع الدولة العثمانية، وانتشر استخدامها آنذاك، خصوصًا من المسافرين في المناطق المنعزلة غير المأهولة، لكن بدلًا من أن تشير إلى القطب الشمالي كما هو الحال في البوصلة، تشير إلى اتجاه المسجد الحرام بمكة، وهي مصنوعة من الخشب والنحاس الأصفر على شكل صندوق بيضاوي، مزخرفة برسوم عثمانية شبيهة بالمنمنمات ولها أحجام مختلفة منها الصغير الذي يشبه ساعة الجيب والكبير الذي يوضع في المساجد أو مراكز التجمعات والدواوين.
تعتبر التقنية الأساسية في “قبلة نُما” هي اتحاد البوصلة مع الساعة الشمسية في آلة واحدة، فنجد بداخلها خريطة بسيطة وإبرة، وفي القسم الأسفل منها نجد تخطيطًا لأسماء أشهر مدن العالم الإسلامي مرتبة طبقًا لموقعها الجغرافي، ونرى الكعبة في مركز الآلة. وفي وقت لاحق، تطورت البوصلة، وأصبح بها خريطة كاملة للعالم، يصطف تحتها بشكل رأسي أسماء مدن العالم الإسلامي، وتحدد أيضًا المسافة بين المدينة الموجودة بها ومكة، وليس فقط الاتجاه.
لم يكن استخدام الآلة صعبًا، تُمسك بشكل ثابت وفي البدء تحدد اتجاه الشمال بالبوصلة الموجودة داخلها، ثم تحدد مكان المدينة الموجودة بها بأحد أطراف الإبرة، وبالطرف الآخر لها تتوجه ناحية زاوية الكعبة المرسومة داخل الآلة فتجدها تدور وتشير إلى اتجاه الجنوب الشرقي حيث تقع الكعبة.
ظلت هذه البوصلة مستخدمة حتى أواخر القرن التاسع عشر، خصوصًا ذات التصاميم البديعة منها التي اقتناها الأغنياء، وتزين اليوم واجهات أقسام الحلي والساعات في بعض المتاحف.
التاريخ الغامض لتلك الآلة
يعد تاريخ تصميم تلك الآلة واسم صانعها غامضًا ولا تتوافر عنه الكثير من المصادر، حتى التي وجدت منها لم تكن محددة على وجه التأكيد.
حينما ظهرت الآلة في مزاد سوذبيز أثارت جدلًا كبيرًا بسبب تقنية الإسقاط السمتي الرجعي المتطورة التي استخدمت في تصميمها، ما جعل بعض الباحثين مثل العالمة الفلكية والباحثة الهولندية إلي دكار تنفي إمكانية انتماء تلك الآلة إلى الحضارة الإسلامية.
لكن طبقًا للمعروف لم تظهر آلة مثلها قبل ذلك في الحضارة الغربية، كما أن تقنية الإسقاط السمتي الرجعي عرفت لأول مرة في الحضارة الغربية من عالم الرياضيات الإسكتلندي جيمس أيرلند كريج في أوائل القرن العشرين، كما أن المصادر تعرف هذه التقنية من المساقط باسم إسقاط مكة، وأن كريج نفسه وصل بطريقة أو بأخرى لتلك الآلة التي تحدد القبلة واكتشف هذا النوع من الإسقاط وطوره، حين كان يعمل بالقاهرة التي توفي بها عام 1952.
بين عامي 1991 و1994 شرع المؤرخ الأمريكي ديفيد كينج، في البحث وراء تاريخ تلك الآلة نتيجة للجدل الذي أثير بعد عرضها في المزاد، وهو البحث الذي نشره كينج عام 1999 في كتاب بعنوان “الخرائط العالمية لتحديد اتجاه مكة والمسافة إليها”.
وحسب البحث، فإن هذه الآلة تعود إلى الحضارة الإسلامية، حيث توصل كينج في 1993 إلى طرف خيط ساعد على إزاحة هذا الغموض الزمني بشأن الآلة، فقد صادف في المكتبة البريطانية مخطوطة تعود إلى عام 1751 نسخت في مدينة النجف العراقية التي كانت تابعة للدولة العثمانية آنذاك، عن آلة فلكية مع رسوم، تصميمها الفني والتقني يشبه الآلة التي عرضت في المزاد، ويشير كاتب المخطوطة إلى أن مصدر تلك المعلومات يعود إلى أثر آخر دقيق كُتب عام 1450 في مدينة كيش بأوزبكستان وهي واحدة من أقدم دول الشعوب التركية.
الجانب الفني في آلة القبلة نُما
يضم متحف الآثار التركية والإسلامية الذي يقع بمنطقة السلطان أحمد بمدينة إسطنبول قطعةً من “قبلة نُما” تعود إلى عام 1738 مدون عليها اسم بارون المختار وهو الفنان الذي صممها، كما دون عليها العصر الذي تعود إليه وهو الحقبة العثمانية، بالإضافة إلى المكان التي صنعت به الذي يشير إلى مدينة إسطنبول.
يصل قطر هذه القطعة إلى 31 سنتيمترًا، وهي مصنوعة من الخشب المزخرف على الطريقة الكلاسيكية التركية المعروفة باسم أدرنة كاري، وبالجزء السفلي الداخلي منها، نرى خريطة وأسماء المدن بالخط العربي العثماني، وبالجزء الأعلى الداخلي ذي الخلفية الخضراء نجد تصويرًا للمسجد الحرام وبداخله الكعبة، وعلى اليسار نجد تصويرًا للأماكن المقدسة الموجودة بجبل عرفات.
بالجانب الأيمن منها نرى رسومًا للنخل وشجر زيتون في الخط الأول، وهي من الرموز المعروفة للجنة في الحضارة الإسلامية، أما الخط الخلفي فنرى فيه رسمةً لإناء به العديد من فاكهة الرمان محاطة بالنجوم الذهبية وهو رمز للبركة والخلود، بداخل النجوم نجد حزمة من الورود وهي رمزية كانت منتشرة في الأدب والفن التركي العثماني بالقرن الثامن عشر عن النبي محمد.
بالغطاء الخارجي نجد خلفية مرصعة بالنجوم الذهبية تعتليها زخارف تنتمي لنمط “باروك وروكوكو” الفني والمعماري الذي تعود أصوله إلى إيطاليا وفرنسا، الذي ظهر تأثيرها في العمارة العثمانية لأول مرة عام 1729 وظل حتى 1808، أما أكاليل الورد المنثنية فتعود لمذهب الفن الطبيعي في “الروكوكو التركي”.
آثار القِبلة نُما في الأدب التركي
استخدمت القبلة نُما بشكل كبير للتشبيه بالمحبوب في غزليات الأدب الديواني في القرن السادس عشر، ومن أشهر الشعراء الذين استخدموا هذه التوصيفات: نافي ويحيى بيك ومحي الدين محمد المعروف باسم هجري قارا شلبي، فقد وصف نافي قلب محبوبته بالقبلة نُما في أحد أبيات الغزل قائلًا:
“هلمي يا كعبة الروح مرآة قلبك هي قبلة نُماتي”.
ويصف يحيى بيك عينيه، قائلًا: “وتظن أن عيني أصبحت قبلة نُما يرشدنني إلى الكعبة”، حيث اعتبر عيناه أداته لرؤية المحبوبة.
أما هجري قارا شلبي فيصف حاجبي مجبوبته بالقبلة نُما التي ترشد إلى عينيها، قائلًا: “حاجبيك قبلة نُما ترشدني إلى محراب عينيك”.