عرفت المملكة العربية السعودية في العقود الأخيرة، نهضةً شملت جميع مناحي الحياة، يعود الفضل فيها إلى الذهب الأسود – النفط – الذي غير اكتشافه المملكة، فقد كان محطةً فاصلةً غيرت من شكل المجتمع والدولة وتركيبتهما.
رحلة المملكة مع النفط
تعود بداية رحلة السعودية مع إنتاج النفط إلى سنة 1938، تحديدًا يوم 3 من مارس/آذار من تلك السنة، حين سجلت المملكة أول اكتشاف نفطي على أراضيها، في بئر الدمام رقم 7 أو ما عرف حينها “بئر الخير”، لتبدأ المملكة عصرًا جديدًا في عالم النفط وتصبح ثالث أكبر منتج للخام وأكبر مصدر عالمي.
لكن نظريًا، كانت بداية المملكة مع النفط قبل ذلك، حيث بدأ مؤسس البلاد عبد العزيز آل سعود التفكير في الحاجة إلى تطوير دخل المملكة ليساهم ذلك في نهضة الدولة الفتية، فمنحت السلطات امتياز التنقيب عن البترول للنقابة الشرقية العامة عام 1923، وذلك قبل أن يتم توحيد البلاد، وقد انتهى ذلك الامتياز عام 1928، حيث لم تجر النقابة أي أعمال تنقيبية.
في 29 من مايو/أيار 1933، وقع الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود اتفاقية الامتياز للتنقيب عن البترول بين حكومة المملكة وشركة “ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا”، وتم إنشاء شركة تابعة لها سميت بـ “كاليفورنيا أرابيان ستاندارد أويل كومباني (كاسوك)” لإدارة هذه الاتفاقية، بعد رفض البريطانيين تمويل عمليات التنقيب.
بعد اكتشاف النفط، تحولت السعودية من منطقة يتركز اقتصادها على تربية المواشي إلى دولة 90% من إيراداتها تعتمد على عوائد النفط
أجريت عملية المسح بإعداد خريطة هيكلية لقبة الدمام، موقع اكتشاف أول حقل نفطي في المملكة، واعتمد الجيولوجيون الأمريكيون الأوائل على البدو لإرشادهم من مكان إلى آخر، وفي سنة 1935 حُفِر أول بئر اختبارية في الظهران بقبة الدمام لكن لم تأت نتائجها محققة للتطلعات، مع ذلك استمرت الشركة في الحفر لأن الدلائل كانت تشير إلى وجود الزيت والغاز، وبعد سنوات من الحفر بدأ الإنتاج على عمق 1.5 كيلومتر تقريبًا.
في 31 من يناير/كانون الثاني 1944 تغير اسم “كاسوك” إلى “شركة الزيت العربية الأمريكية”، التي أصبحت تعرف اختصارًا باسم شركة أرامكو السعودية، في خطوة تهدف إلى إبراز دور المملكة بين الدول المنتجة للنفط.
وفي سنة 1949، بلغ إنتاج النفط الخام 500 ألف برميل في اليوم، بعدها بسنة أنجزت “أرامكو” خط الأنابيب عبر البلاد العربية “التابلاين” الذي يبلغ طوله 1.212 كيلومتر ويعد الأطول في العالم، حيث ربط المنطقة الشرقية في المملكة بالبحر الأبيض المتوسط، ما أسهم في اختزال زمن وتكلفة تصدير النفط إلى أوروبا بشكل كبير.
عقب ذلك في عامين، اكتشفت السعودية حقل السفانية الذي يعد أكبر حقل نفط بحري على مستوى العالم، وبحلول عام 1962، بلغ الإنتاج التراكمي للنفط الخام 5 بلايين برميل، وبحلول عام 1981 وللمرة الأولى تجاوز شحن النفط الخام والمنتجات البترولية من الفرضة البحرية في رأس تنورة بليون برميل سنويًا.
سنة 1980، امتلكت الحكومة السعودية شركة أرامكو بأكملها لتنشئ بعد ثمانية أعوام شركة الزيت العربية السعودية (أرامكو السعودية) رسميًا، بعدها بثماني سنوات، الذي ترتب عليه إدارة العمليات والسيطرة على النفط والغاز السعودي.
من تربية المواشي إلى ناطحات السحاب
بعد اكتشاف النفط، تحولت المملكة العربية السعودية من مجتمع بدوي منعزل ومنطقة يتركز اقتصادها على تربية المواشي والزراعة والتجارة والصناعات البسيطة وكان موردها الأساسي يعتمد على الحج والعمرة، إلى دولة قوية يُحسب لها ألف حساب، وتعتمد 90% من إيراداتها على عوائد النفط.
إذ تعد اليوم أكبر مصدر للنفط الخام في العالم بمتوسط يومي 7.3 مليون برميل، وقدرة فورية على زيادة التصدير إلى متوسط 8 ملايين برميل يوميًا، كما تُعرف بكونها ثالث أكبر منتج بعد الولايات المتحدة وروسيا بمتوسط يومي 10 ملايين برميل يوميًا.
وفي عام 2020، بلغت الإيرادات النفطية 410 مليارات ريال (109 مليارات دولار) تقريبًا.
بفضل النفط، تحولت المملكة إلى راعي المجتمع وجعلت الأخير مُعتمدًا عليها مباشرة في تأمين معاشه اليومي
هذه الأموال الطائلة غيرت من شكل المملكة السعودية، حيث أنجزت الدولة مشاريع تنموية كثيرة مثل المدارس والمشافي والطرقات والجسور وتوفير الخدمات، وانطلقت حركة عمرانية عالية الزخم، وتكفلت الدولة بقيادة هذه المشاريع عبر المؤسسات العامة.
كما عرفت المملكة تحسنًا ملموسًا في جميع مؤشرات التنمية البشرية مثل مستوى المعيشة والخدمات الصحية والتعليمية والأحوال البيئية، وكذلك إمكانات التنمية الشاملة، وتشكلت الكيانات التجارية والصناعية في الاقتصاد، وما نتج عنها من صعود قوي ومؤثرٍ لبعض أطياف المجتمع.
العمالة الوافدة وتشكيل المجتمع
لكن هذا التطور السريع في الاقتصاد لم يتزامن معه تطور مماثل في المواطن السعودي، فالعمالة الوافدة هي التي أنشأت الجزء الأكبر من البنى التحتية في المملكة، والمواطن السعودي كان متأخرًا عن هذه العملية، لهذا وجد نفسه في سباق شديد مع تسارع التطورات الحضارية من حوله.
كدليل على هذا التأخر، تدني مساهمة المواطن السعودي في سوق العمل بالقطاع الخاص، وتدني نسب ملكيته في أصول الإنتاج والعقارات ومراكز الثروة ولهذا يواجه أوجه عديدة من الاحتكار في مختلف أنشطة الاقتصاد.
هذا الأمر جعل المواطن السعودي قليل المساهمة في عملية البناء والتطور واتخاذ القرارات وتحديد الاتجاهات داخل البيئة والمجتمع الذي ينتمي إليه، فالعمالة الوافدة التي تقدر بالملايين هي المحدد لكل هذه المتغيرات، خاصة أنها جاءت إلى المملكة بثقافاتٍ وقيم عديدة تحاول الترويج لها في كل مكان.
دولة ريعية
أدى اكتشاف النفط – وخاصة الطفرة النفطية في عام 1973 التي امتدت إلى منتصف الثمانينيات – إلى تشكل الدولة الريعية بكل سماتها، حيث أدت الثروات المالية الضخمة المتأتية من النفط دون جهد كبير أو قدرات فنية متطورة، إلى إحياء فكرة الريع والاقتصاد الريعي في المملكة العربية السعودية.
إلى اليوم تعتمد السعودية على النفط بوصفه المصدر الأول للعائدات المالية، وكانت الإيرادات النفطية عام 1974 تمثل 94.1% من إيرادات الدولة إجمالًا، تحركت هذه النسبة حتى وصلت عام 2015 إلى 73%، ومن اللافت الإشارة إلى أنه في العقد الأول بعد ظهور النفط باعتباره قوة اقتصادية هائلة لم يكن ثمة رابط بينه وبين قطاعات الاقتصاد الوطني الأخرى، إلا مع ظهور بعض الصناعات التحويلية في العقد الأخير من القرن الماضي.
يُثبت ريع النفط السلطة داخليًا، فهو يركز الدخل والثروة في يد النخبة الحاكمة السعودية وبالتالي يركز السلطة أيضًا، لأنه يتيح لها قدرات هائلة على توظيف الريع في تعزيز قبضتها على السلطة، من خلال خلق برامج إنفاق وآليات توزيع وأنظمة تمكنها من كسب الولاءات وإقصاء المناوئين، وأيضًا من خلال خلق نظام لقمع الحريات وطمس التطور الديمقراطي.
ولهذا السبب، تحولت المملكة إلى راعي للمجتمع وجعلت الأخير مُعتمدًا عليها مباشرة في تأمين معاشه اليومي، فقد أحكمت قبضتها على الاقتصاد عبر تحكمها باتجاهات عائد النفط والتجارة والاستثمار في الصحف والمجلات، كما أصبحت سلطاتها المدخل الرئيسي لمن يريد الثراء من المواطنين.
إلى جانب ذلك، مكن ريع النفط السعودية من الحماية خارجيًا، وذلك من خلال مقايضة ضمان تدفقه وتوظيفه فيما يخدم مصلحة الحامي، مقابل توفير الأمن والحماية للنظام السعودي الحاكم، وبالتالي تثبيت الأوضاع السياسية القائمة فالحامي بحاجة إلى النفط، والمحمي بحاجة إلى الحماية.
الاعتماد الكلي على النفط، جعل المملكة العربية السعودية تتبوأ مكانة مهمة في منطقة الشرق الأوسط، وطور مكانتها في الاقتصاد العالمي وثبّت حكم العائلة الحاكمة، لكن ذلك أبقى المملكة عرضة لتقلبات الأسعار وصدمات الطاقة، ما يفرض عليها التخلص من تبعية اقتصادها الثقيلة لمصادر الطاقة، والتمهيد لعصر الطاقة النظيفة والتكنولوجيا الذكية.