رحاب منى شاكر، مترجمة وكاتبة سورية مقيمة في هولندا، حاصلة على شهادة ماجستير في الطب البشري عام ٢٠٠٤ وأخرى مماثلة في اللغات والثقافات السامية في جامعة أمستردام عام ٢٠٠٩. في السنوات الثلاثة الأخيرة اختصت بالترجمة عن الهولندية وفي الأدب النسوي بالتحديد. لها العديد من الترجمات والحوارات والمقالات في النسوية وبحث أكاديمي بعنوان “شخصية السجان من منظور السجن” وهو تحليل لفهم شخصية السجان من أدب السجون السوري.
يحاور نون بوست السيدة رحاب ليسألها عن مجهودها في إثراء الأدب النسوي العربي وأهمية وفرته في ظل تزايد أعداد المتعطشين والمتعطشات العرب للبحث في مسألة النسوية العربية واغتراف ما توافر من الأدب النسوي بأنواعه. أيضاً تجيب السيدة رحاب عن نشاطها كنسوية في المغترب وعن سبب اختيارها الأدب النسوي بشكل خاص وكيف ترى النسوية السورية اليوم في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والجغرافية.
١. أين كنتِ يا رحاب قبل ٢٠١١ وماذا كنتِ تعملين؟
كنتُ ولا زلتُ في هولندا. هاجرت مع عائلتي إلى هولندا حين كنت في الخامسة عشرة من عمري. حصلت على شهادة الماجستير في الطب البشري عام 2004، ولكني توقفت بعد ذلك أثناء فترة التدريب في المشفى. كنت أخطط مواصلة التدريب لاحقًا، لأتمكن من إلقاء قَسَم الطبابة والعمل كطبيبة. ولكن الحياة أخذتني في منحى آخر، وتغيرت أولوياتي مع الوقت. حصلت على شهادة الماجستير في اللغات والثقافات السامية من جامعة أمستردام عام 2009، وفي العام نفسه حصلت على شهادة ترجمة محاكم بامتياز. أشتغل منذ سنوات طويلة كمترجمة شفوية للمهاجرين العرب إلى جانب دراستي وأمومتي واهتماماتي الأخرى. وما زلت أمارس هذا العمل حتى الآن.
في آذار 2011 كنت أمًا لطفل عمره ثلاثة أشهر. لا أذكر أني فعلت شيئًا في تلك الفترة سوى رعاية ابني إلى جانب عملي (الاضطراري) خارج المنزل. منحتني الأمومة طاقة كبيرة لتحمّل ظروف صعبة، ولكنها استنفذت كذلك كامل وقتي. تابعتُ ما يحصل في سوريا بتأثر كبير، ولكني لم أجد أنه يحق لي أن أهتف بشيء، طالما البراميل تتساقط على رؤوس غيري، وطالما أني (ما زلت) غير قادرة على تقديم أي مساعدة فعلية أو حتى رمزية.
تغير الأمر حين بلغ ابني سن الثالثة تقريبًا، وتحسنت ظروفي الشخصية نوعًا ما، وصار لدي وقت أحكّ فيه رأسي. بدأت حينها، بالشراكة مع أحد زملائي الهولنديين، بترجمة بعض النصوص السورية إلى اللغة الهولندية. فعلت ذلك لأني حسبت أن أولئك الكتاب قادرون على رواية الحكاية السورية بشكل أفضل مني، غير أني لم أعد متأكدة من صواب خياري، ذلك أني لاقيت صعوبات كبيرة في النشر. بعض النصوص رُفضت من قبل أكثر من عشر جرائد ومجلات ومواقع الكترونية، وبعضها الآخر ما زال في درجي حتى الآن. أظن أن السبب هو اختياري النصوص اللاذعة التي تتناول دور الغرب في الأزمة السورية، أو لعلها لم تكن جميعها مكتوبة بأسلوب سلس بالنسبة للقارئ غير العارف. كان عليّ أن أكتب مقالات قصيرة وبسيطة بنفسي، بدلًا من المقالات الطويلة والمعقدة التي كنت أترجمها.
كما بدأتُ في الفترة نفسها بالتعاون مع إحدى الجمعيات المحلية التي تشكلت في هولندا بهدف دعم الثورة السورية. اشتغلت معهم لمدة ثلاث سنوات بشكل مكثف، وكان جلّ عملي عبارة عن ترجمة في الاجتماعات ومد يد العون في المظاهرات. كذلك استلمت العمل الثقافي، ونظمت ندوات ثقافية مزدوجة اللغة (عربية وهولندية)، وجولات للقادمين الجدد للتعرف على هولندا وتاريخها. حاولت أن أكون جسرًا بين الجالية السورية الجديدة والمجتمع الهولندي. ولكني مع الوقت واجهت بعض المشاكل، من بينها عدم تقدير العمل البطيء والطامح إلى التغيير على المدى البعيد. كذلك لاحظت أزمة ثقة بين القادمين الجدد من السوريين والمهاجرين القدامى بالعموم، مما جعل الأجواء طاردة للكفاءات. أتوقع أن الوضع تغير الآن بعض الشيء، وخصوصًا بعد أن صار القادمون الجدد قدامى، وهدؤوا قليلًا، واكتشفوا أن عقبات الغربة ومعاناتها لا تزول فجأة بتعلم بضع كلمات من لغة البلد الجديد، وأن الذين سبقوهم يحملون همومًا وجروحًا أيضًا، فضلًا عن غربة مزدوجة طويلة الأمد.
توجهت بعد ذلك إلى العمل النسوي مع السوريات داخل هولندا وخارجها. في البداية كان تركيزي على العمل النسوي نابعًا عن قناعتي أن بإمكاني تقديم شيء في هذا المجال، وإن لم تكن الصورة واضحة بعد في ذهني. أحاول عادة أن أتكلم فقط في الأمور التي أعتقد أني أفهم فيها. راقبت العمل النسوي السوري لفترة، ولم أدخل على الخط فعليًا إلا بعد أن توضح لي ما هو دوري وماذا يمكنني تقديمه.
2. ما قصة خروجك من سوريا ومعارضتك للنظام ولماذا اخترتِ هولندا؟
أنا ابنة معتقل سياسي سابق. اعتقل والدي لمدة ست سنوات في ثمانينات القرن الماضي، حيث أطلق سراحه لأسباب صحية. في تلك الفترة كانت منظمة العفو الدولية قد تبنته كمعتقل ضمير، وتم التواصل معه بعد خروجه من المعتقل لتقديم المساعدة الصحية التي يحتاجها. كما توسطت منظمة العفو الدولية ليجري والدي عملية جراحية في هولندا. وبعد عام من ذلك التاريخ حصلت عائلتنا على لجوء سياسي في هولندا.
أما بالنسبة لمعارضتي للنظام، فأنا لا أذكر يومًا واحدًا في حياتي لم أكن فيه معارضة للنظام. الفضل في ذلك يعود لوالدي الذي حماني اعتقاله من غسيل الدماغ الذي يتعرض له تلاميذ المدارس السورية منذ صغرهم. منذ الصف الثاني الابتدائي أعرف أن تحية العلم استعراض كاذب، وأن حافظ الأسد ليس أبونا وإنما سجاننا. أنا من زوار السجن الصغار، وأعرف سجن المسلمية/حلب من الداخل. وما زال ذلك اليوم مطبوعًا في ذاكرتي، حين سمح أحد السجانين لي ولأختي بدخول الممر المطل على زنازين المعتقلين مباشرة. مشينا في ذلك الممر المفتوح من جهة اليسار على الزنازين. كنا كلما اقتربنا من زنزانة جديدة، نرى المعتقلين يهبون دفعة واحدة نحو القضبان مادين أياديهم إلينا. أذكر أن أحدهم أعطى أختي قطعة سكاكر (دروبسة). وأذكر كذلك أنهم كانوا يحثونا أن نتابع السير إلى آخر الممر حتى لا يُحرم رفاقهم من رؤيتنا اللطيفة.
لحسن حظي إذن أن كان النظام مكشوفًا بالنسبة لي منذ الصغر، ولكنني لا أجد أن معارضة النظام فضيلة بحد ذاتها. إلى درجة أخجل حين أضطر إلى تسجيل موقف بهذا الخصوص، لأني أشعر حينها كما لو أني أستعرض أمرًا. معارضة النظام بالنسبة لي كالأكل والشرب. الأمر الأجدر بالتساؤل والتفكير برأيي هو لماذا لسنا جميعنا ضد النظام. لا بد أن عطلًا جسيمًا حصل في الطريق لدى البعض، أدى إلى تأييدهم للنظام.
3. هل يوجد نشاط نسوي سوري في هولندا؟ وما الذي تفعلينه كنسوية هناك؟
حسب ملاحظتي، فإن معظم السوريات في هولندا منشغلات بدراسة اللغة الجديدة، أو يحاولن الحصول على شهادة، أو إيجاد فرصة عمل مناسبة. درجات النجاح في ذلك متفاوتة، وتتراجع حين تكون المرأة كبيرة السن أو غير متعلمة. فضلًا عن واجباتهن المنزلية التي لها أول وليس لها آخر، وبخاصة الأمهات منهنّ. السوريات منشغلات بعملية الاستقرار والتعود على البلد الجديد إلى درجة بتن ينبذن النشاطات باللغة العربية أو الموجهة إلى خارج هولندا. أستغرب ذلك أحيانًا وأتفهمه أحيانًا أخرى. طبعًا التمكين الذاتي جزء مهم من مسار النسوية، ولكنه لا يكفي برأيي. تبدأ النسوية فعلًا حين نريد أن نغير العالم. طبعًا ثمة عدد من النساء الناشطات اللواتي تمكنّ من إطلاق مبادرات عامة تقدم المساعدة لنساء أخريات، ولكن حتى في تلك النشاطات يكون الاندماج مع المجتمع الهولندي هو الهم الأساسي. أيّ أن العمل مع النساء يكون مركزًا على حل المشاكل العملية والمباشرة مع المجتمع الجديد ومؤسساته، ولا يطمح فعليًا إلى بناء وعي نسوي حقيقي لديهنّ ولعل ذلك يتطلب بعض الوقت حتى يستعدن توازنهن ويحققن بعض الاستقرار.
بالنسبة لي بادرت منذ بضع سنوات بتأسيس نادي قراءة نِسوي باللغة العربية، وقد كانت تجربة جميلة. ولكن حاليًا لا يمكنني إعادة إطلاق هكذا مبادرات بسبب التباعد الاجتماعي الذي فرضه علينا فيروس كورونا. غير أن نادي القراءة الذي أديره على السكايب مفتوح للمهتمات من داخل هولندا وخارجها. ولقد أعلنتُ منذ فترة على وسائل التواصل الاجتماعية عن رغبتي بالالتقاء مع النساء السوريات الهولنديات الراغبات بمناقشة مواضيع نِسوية على خلفية البلد الذي يجمعنا. أخطط أن يكون أول لقاء (الكتروني) مع بداية الربيع. كما أنوي أن أسترجع تواصلي مع الحركة النِسوية الهولندية التي سرقتني منها الأوضاع الساخنة في سوريا.
4. لماذا تترجمين الأدب النسوي أو المقالة النسوية بشكل خاص عن باقي المواضيع؟ وكيف ترين أثر هذه الترجمات على الحركة النسوية العربية؟ هل هي بالفعل كما يقول البعض أنها لن تتعدى كونها تنظير اجتماعي بعيد عن الواقع لأسباب تختلف أولها فرق الثقافة والركيزة التي يقوم عليها المجتمع العربي (الدين)، أم يمكن لها بالفعل أن تكون ذو نفع في وضع أساسيات الحركة النسوية؟
مضى ثلاث سنوات تقريبًا على ترجمتي النسوية الأولى، والتي كانت بعنوان (نزق المرأة). فكرت حينها أن أترجمها، لأن هولندا كانت تحضّر نفسها للاحتفال بالذكرى الخمسين لصدورها، ذلك أنها تعتبر أحد أهم عشرة نصوص كتبت باللغة الهولندية في القرن العشرين. لا أقصد من ناحية المضمون فقط، ولكن من ناحية الأثر الذي تركته في المجتمع. كثيرًا ما يقال إنها كانت الطلقة الأولى التي أعلنت انطلاق الموجة النسوية الثانية. حين فكرت في ترجمتها، لم أكن متأكدة أن موقع الجمهورية سينشرها لي، خفت أن يقال لي إن الموضوع بعيد عن همومنا الحالية، لدينا أولويات أخرى. ولكن العكس حصل بصراحة. ما عدا ترحيب الجمهورية، فقد حازت الترجمة على انتشار واسع، وحسب ما أذكر أنها كانت المقالة الأكثر قراءة لديهم لذلك العام، مما شجعني أن أواصل البحث عن نصوص مفيدة أخرى وترجمتها. بعض السيدات قلن لي أن ترجماتي هي النصوص الوحيدة التي يقرأنها وسط همومهن الكثيرة. على خلاف ما يعتقد البعض إذن، يبدو أن القارئ/ة العربي/ة متعطش/ة لمناقشة الثيمات النِسوية من زاوية نظر جديدة.
كما أعتقد أننا بحاجة إلى طرح خطاب المرأة من زاوية غير دينية. ترجماتي من النصوص التي تساعد على النظر إلى وضع المرأة بعيدًا عن خطاب الحرام والحلال: ماذا يتبقى من ظلم واضطهاد للمرأة حين لا تتدخل النصوص الدينية؟ رغم أني لا أستهين أبدًا بمحاولات الإصلاح النِسوي من داخل الدين، والذي نحن بأمس الحاجة إليه، إلا أننا بحاجة كذلك إلى طرح موضوع المرأة بطريقة غير دينية. يقول نصر حامد أبو زيد إن علينا ألا نتنازل ونخضع لإرادة رجال الدين وغيرهم بتحويل قضية المرأة إلى مسألة تأويل نصوص، لأن القضية هي قضية اجتماعية أولاً وآخرًا، وأيّ محاولة لإخراجها من الإطار الاجتماعي ووضعها ضمن الميتافيزيقيات هي محاولة لمصادرة خطاب المرأة و تزييفه (من كتابه دوائر الخوف). أوافقه الرأي إلى حدٍ بعيد، فضلًا عن أن هناك عددًا كبيرًا من السوريين/ات العلمانيين/ات وآخرين من غير المسلمين/ات أصلاً. كما أن ترجماتي تتناول قضايا تمس كل امرأة في كل بقاع العالم، من بينها الأمومة والعنف المنزلي والعمل غير المأجور والحب والرجولة والتنظيم النِسوي. هناك تجارب إنسانية غنية نحتاج للاطلاع عليها واستخلاص ما يناسبنا منها، وهناك أدوات تختلف عن أدواتنا وقد تساعدنا على فك الحصار الديني عن خطاب المرأة. من هذه الناحية يمكنني القول إن النصوص التي أترجمها عالمية وتأسيسية بلا أدنى شك.
5. ما رأيكِ بالنسوية السورية اليوم؟
ثمة حراك واضح بين النساء السوريات داخل سوريا وخارجها. لا يخفى على أحد الغضب العام وشغف النساء بالقضايا النِسوية. وهناك عدد لا بأس به من النسويات ممن يشتغلن على أنفسهن وتطوير أداوتهن، بعدما انقلبت حيواتهن رأسًا على عقب، وفقدن الضمانات والقيود القديمة. غير أن النِسوية تتطلب تشكيل تكتلات نِسوية فاعلة، وتوجهًا واعيًا نحو المجال العام بغية التغيير. من هذا المنطلق لا يمكنني أن أجزم إلى أيّ مدى الحركة النِسوية السورية مؤثرة فعلًا. ومع أن هناك من تقول أنه لم يسبق للحركة النِسوية أن تصدرت المشهد كما يحصل الآن، إلا أنه من المحزن أن يصل النشاط النِسوي ذروة غير مسبوقة في التاريخ السوري ضمن هذه الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية المزرية للغاية. معظم الناشطات النِسويات مشتتات في جميع أرجاء العالم جراء الحرب واللجوء، ولا يلتقين سوى في ذلك الفضاء الالكتروني أو ضمن مجموعات فيزيائية صغيرة (جدًا) ومنهكة ماديًا ومعنويًا، جراء الغربة أو الظروف المحلية غير الآمنة. لذلك أخشى أحيانًا أننا نعيش في فقاعة افتراضية لا أكثر، نعمل افتراضيًا مع النسويات والنسويين دون أن نتمكن من مقابلتهن بشكل مباشر، وغالبًا لا نقدر أن نناقش أفكارنا، أو ننسق للعمل الكبير، وإن حاولنا سيكون سوء الفهم ينتظرنا خلف الباب. نبني علاقات الكترونية على مدى سنوات، وتنهار فجأة حين نكتشف أنه ليس لدينا رصيد حقيقي معهن/م. كما يبدو لي أن العمل مركّز في يد عدد من السيدات ممن برزن في بداية الثورة، ولا يخرج عن ذلك النطاق. فضلًا عن أن التشبيك مع المعنيات بالنسوية لا يسير بمرونة بالعموم، جراء التباعد الجغرافي والإرهاق والتراكمات الخلافية والاصطفافات التي حصلت بينهن في الماضي القريب ومستمرة حتى الآن. لذلك أشك أحيانًا أنه ضمن تلك الفقاعة الكبيرة توجد فقاعات صغيرة يصعب اختراقها. هذا يجعلني أتساءل إلى أيّ درجة نحن مؤثرات فعلًا إذا كنا غير قادرات على الوصول إلى بعضنا بعضًا؟ وإذا كنا نعمل وحيدات حرفيًا ومعنويًا؟ وماذا ينبغي فعله لتجاوز هذه الهشاشة؟
6. المحتوى النسوي العربي يتزايد يوماً بعد يوم بالأخص في منصات التواصل الاجتماعي سواء بجهود فردية أو من قبل منظمات ومختصين، لكن ما زال النص النسوي العربي خجول وربما غير غني ثقافياً بما يكفي فما السبب وراء ذلك برأيكِ؟
إذا أردنا أن نتطرق للمشاكل التي يواجهها المحتوى النِسوي، فأنا ألمس عدة استعصاءات بنيوية.
لدينا مثلًا الاستعصاء الديني الذي يتلخص بمصادرة الدين لخطاب المرأة، والذي تكلمت عنه منذ قليل، مما يجعل أيّ طرح يثير حساسية عالية بين الناس. حين نحاول مثلًا أن نتكلم عن قانون الأحوال الشخصية الذي هو قانون مدني، يبدو الأمر كما لو أننا نهاجم المقدسات. كثير من النساء القادرات على مواجهة الأهوال والمخاطر في سبيل مقارعة نظام الأسد، يعجزن تمامًا عن مناقشة قضايا كتعدد الزوجات، لا بل قد يدافعن عن تلك المؤسسة بأياديهن وأرجلهن. قرأت في مكان ما أن النساء السوريات، حتى قبل الثورة والحرب، من أكثر النساء العربيات دفاعًا عن مؤسسة تعدد الزوجات من الناحية النظرية والقانونية. من أجل الخروج من هذا الاستعصاء نحتاج إلى تعاضد فعلي بين النسويات الإسلاميات والليبراليات، فتشتغل الإسلاميات على إصلاح الدين من الداخل، ليوائم متطلبات العدل وحرية الضمير والرأي على المدى البعيد، ويتعاونّ مع الليبراليات على فرض المساواة القانونية بين السوريين والسوريات في جميع مناحي الحياة. ولكن للأسف، وحسب ملاحظتي لم ألمس حراك بين النسويات الإسلاميات بهذا الخصوص. هل من المعقول ألا يكون بيننا نسويات إسلاميات؟ هذه مشكلة كبيرة. بدلًا من ذلك لدينا فجوة بين المحافظات والليبراليات إلى درجة بتن يتجنبن أيّ نقاش حول المواضيع الهامة. مسؤولية الخروج من هذا الاستعصاء تقع على عاتق الطرفين. لو نظرنا إلى المدى البعيد سنرى أن لدينا أهداف كبيرة مشتركة، ولن يكون هناك داع لكل تلك الحساسيات والالتفاف على المواضيع التي تعنينا فعلًا.
ولدينا كذلك الاستعصاء على الصعيد السياسي. نمر حاليًا في فترة عصيبة سببها الفشل (المؤقت) بإسقاط النظام. كثير من النسويات يعتبرن أنفسهن سياسيات بالدرجة الأولى، ونسويات بالدرجة الثالثة أو الرابعة، حتى أن هناك من تتجنب العمل النِسوي أو أن تطرح نفسها كامرأة، لأنها تؤمن ضمنيًا أن ذلك سوف يقلل من قيمة عملها. هذا ما عدا ظاهرة حصر مفهوم السياسة بالمسارات الدولية العليا على حساب الشغل السياسي بالمعنى الواسع. برأيي هذه النظرة إلى السياسة لا تخلو من الذكورية، إن لم نقل إنها تابعة لأجندة الرجال غير المعنيين بأمور النساء على الإطلاق. لا أبالغ أبدًا حين أقول إنه بإمكاننا فصل السياسة عن النِسوية لتصبح سياسة عوراء تنظر بعين الذكور فقط، ولكن لا يمكننا فصل النِسوية عن السياسة. ذلك أن أيّ عمل نسوي هو عمل سياسي بامتياز، لأنه يطمح إلى تغيير البنى العميقة للحياة والمجتمع والتي انبنت فوقها جميع السياسات والديكتاتوريات العابرة والمتغيرة. كما أن حصر شغلنا وحلمنا وطموحنا و تركيزنا على هدف سياسي بالمعنى الضيق، سوف يشلّنا تمامًا، وخصوصًا حين يبدو ذلك الهدف متعسرًا على المدى القريب، فيصبح أيّ شغل فكري أو ثقافي أو حتى اجتماعي ليس ذا معنى أو ضرورة. حين نطمح أن تكون نِسويتنا تقاطعية، لا يعني ذلك أن نتغلغل في القضايا العامة الأخرى على حساب نِسويتنا، بل أن نأخذ نِسويتنا معنا إلى جميع القضايا الأخرى، الخاصة منها والعامة.
وكذلك لدينا استعصاء التركيز الشديد على حالات العنف الجسيمة، كالاغتصاب والتحرش الجنسي الصريح والعنف الجسدي، وإهمال الشغل الذي يتناول القضايا الجندرية من منظور أعم، أو يشمل تفاصيل اختلال موازين السلطة الدقيقة. كما لو أننا نستمد شرعيتنا من خلال محاربة أشكال العنف التي لا ينكرها المجتمع أصلًا، حتى وإن كان لا يحاول إيجاد حلولًا لها. لم أجد حتى الآن شخصًا يعترض إن نشرنا صورة امرأة تظهر علامات العنف الحمراء والزرقاء على وجهها وجسدها، ولكنه قد يعترض لو طرحنا مواضيع كاستعباد المرأة في المنزل أو الحد من حرية حركتها أو طالبنا بحقنا في الميراث. مبالغتنا بالتركيز على حالات العنف الجسدي الجسيمة، يجعل الرأي العام أقل حساسية لمطالبنا، وسوف يتوقعون منا أن نكون قنوعات إن لم نُضرب ونُهان صبحًا ومساء. ما زلنا مقصرات برأيي في طرح الانتهاكات اليومية والاقتصادية والرمزية، مع أنها تطبّع في العمق لحالات العنف الظاهرة والمعترف بها عمومًا. أعتقد أن أجواء العنف والحرب التي عمّت في السنوات الأخيرة، قد رمتنا أميالًا هائلة إلى الوراء، ولكنها ليست السبب الوحيد. هناك خجل وتردد وخوف من طرح القضايا بطريقة جذرية، كما لو أننا نخشى العقاب لو مددنا أرجلنا أوسع من اللحاف. فضلًا عن الاعتقاد الخاطئ والجاهل أن هذه المسائل ليست سياسية ولذلك أقل أهمية من غيرها.
كما لدينا ما أسميه بالاستعصاء المعرفي. نواجه يوميًا مشاكل على جميع الأصعدة، ولكن حين نحاول مقاربتها نكتشف أننا نفتقد الأدوات والمهارات والذخيرة المعرفية (النسوية). وحين نحاول صدّ هجمات ضد النسويين، نكتشف أننا لا نملك سوى الألم. لا أدري أين الصبايا اللواتي حصلن مؤخرًا على مِنح أو فرص لمتابعة الدراسات الجندرية في جامعات متقدمة. لماذا لا نسمع أصواتهن؟ لماذا لا يقدّمن برامج تدريبية لنا؟ هل من المعقول أن تنفصل الثقافة عن الحراك؟ ماذا يتبقى إذن؟
وبما أن العمل المعرفي النسوي هو مجال اهتمامي الأساسي، فاسمحي لي أن أتوسع قليلًا هنا. من المهم بداية أن نفرّق بين نوعين من العمل المعرفي النسوي. النوع الأول هو إنتاج المعرفة، والثاني هو نشرها. النوعان مكملان لبعضهما ولا يتعارضان. أشبّه إنتاج المعرفة بالحفر في العمق، ونشر المعرفة بالانتشار على السطح. الأول عمل نوعي والثاني كمي. وتواجه النِسوية السورية مشاكل على الصعيدين: إنتاج المعرفة النسوية محدود، وانتشارها الفعلي بين الناس محدود أيضًا. وسوف أقدم بعض التوصيات للاستثمار المعرفي الذي من المفترض أن يؤدي إلى الإنتاج على المدى البعيد. قد لا تكون التوصيات جديدة تمامًا، ولكنها جديرة بالذكر في جميع الأحوال:
أولًا: لقد لاحظت أنه لا يوجد أرشيف يجمع الإنتاج النسوي السوري بطريقة تسهّل النبش فيه من قبل الباحثات. كثير من المواقع، من بينها موقع الجمهورية مثلًا، وموقع شبكة المرأة السورية، وموقع منظمة مساواة، مصممة لعرض أحدث المقالات. جميع هذه المواقع صار لديها أرشيف معقول بنتهُ على مدى سنوات، ولكن معظم المقالات لا يمكنكِ إيجادها إذا كنتِ لا تعلمين بوجودها. لا توجد إمكانية للأرشفة المباشرة حسب الموضوع ولا حسب تاريخ الصدور ولا حسب اسم الكاتبة. كما أنها جميعها لا تعتبر من اختصاصها أرشفة الإنتاج النِسوي السوري النوعي على وجه الخصوص. لماذا لا تتساعد المنظمات النِسوية السورية الكبرى على تجهيز منصة أساسية تعرض فيها المقالات ذات الجودة فوق الوسط، والتي تقدم شيئًا مميزًا ونافعًا على المدى الطويل، على أن يتم تبويب المقالات بعدة طرق، وفق التسلسل الزمني، وحسب الموضوع، ومن الأفضل أن يكون للكاتبات بوابة خاصة بهن. سو ف تسهّل هذه المنصة العمل على الباحثات، ولن يحتجن بعد الآن أن يكتبن إعلانات هنا أو هناك بحثًا عمن لديها موادًا حول هذا الموضوع أو ذاك. أعتقد من الضروري أن يكون هذا العمل مشتركًا كي يكسب ثقة الجميع.
ثانيًا: تشكيل حلقات دراسة. ولا أقصد طبعًا ورشات عمل لعدة أيام فقط، بل أن يتشكل طاقمًا نسويًا من المهتمات فعلًا بالإنتاج المعرفي كي يجتمعن بشكل دوري على مدى سنة أو عدة سنوات، ليدرسن سوية ويراجعن إنتاجات بعضهن بعضًا ويناقشنها، ويتساعدن على التنقيب عما تحتاجه الساحة السورية لسد الثغرات المعرفية قدر الإمكان. ومن الأفضل أن يتكون الطاقم من نساء أثبتن سلفًا جدارة واستعدادًا في إحدى المجالات النسوية. لست متأكدة من هنّ المؤهلات للانضمام لهكذا طاقم، فالأمر يتطلب جرد الساحة النسوية بشكل جيد.
ثالثًا: دعم نوادي القراءة النِسوية، وأحيل هنا إلى مقالتي (أين هي نوادي القراءة النِسوية؟). الجزء الأعظم من العمل النسوي موجه إلى تلبية احتياجات المرأة العملية أو انتشالاها من العوز والفقر. وهذا عمل في غاية الأهمية، ولكن نشر الوعي النسوي لا يقل عنه أهمية برأيي، لأن جزءًا كبيرًا من ذلك العوز والفقر سببه وضع المرأة المتدني اجتماعيًا. إن لم نستثمر بنشر الوعي النسوي، سوف ننقرض قريبًا بإذن الله. نحن لا نملك القاعدة الكافية لاستمرار وجودنا. هناك للأسف استهانة كبيرة بأهمية نشر الوعي النسوي، حتى بين النسويات. لا أدري ما الذي يقف في وجه الانتشار الكبير لنوادي القراءة النسوية. كثيرات يقلن إن النساء/الناس لا يقرؤون، وهذا صحيح، ولكن المشكلة الأكبر برأيي هي نقص النسويين/ات المبادرون/ات. يعتقد البعض أن المبادرة تحتاج إلى معرفة نسوية رفيعة، وبرأيي أن كل ما يحتاجه المرء هو الحب والشغف والمثابرة.
رابعًا: الرفقة المعرفية النِسوية. تعرفتُ في هولندا على شيء اسمه رفيق اللغة. يأتي شخص هولندي “يتبنى معرفيًا” قادمًا جديدًا يريد أن يتعلم الهولندية ويتعرف على المجتمع الهولندي. يتعاقدان لمدة سنة على الرفقة. أتساءل لماذا لا نستورد هذه الوصفة إلى النِسوية مثلًا؟ كأن تكون لكل واحدة منا رفيقة تتعلم منها ومعها. قد يبدو الأمر ليس عمليًا للوهلة الأولى، ولكنه في غاية الأهمية إن أردنا أن نغير ونتغير. لماذا لا نطور آليات التبني المعرفي بين النِسويات؟ كأن تقدم المخضرمةُ أو الخبيرةُ المساعدةَ لإحدى المميزات الصغيرات لمدة متفق عليها مسبقًا. تعلمها أشياء تعرفها وتساعدها على امتلاك الأدوات، وشبكة التواصل سريعًا، وتراجع معها أسئلتها وربما كتاباتها، وتدعمها حين تيأس، وتحثها على الإنتاج ضمن ظروفها ومواهبها. وبعد أن ينتهي العقد، تبقى الصداقة. برأيي هذا أجمل ما يمكن أن نقدمه لبعضنا. هي مجرد فكرة وقد تناسب البعض ولا تناسب البعض الآخر، ولكنها تساعد على التراكم المعرفي، وحفظ شغلنا وتاريخنا النِسائي من الضياع، وعدم الاضطرار لاختراع العجلة كل مرة من جديد. فضلًا عن أن النسوية تتطلب منا الكثير، لذلك لن يكون ترفًا إن حصلنا على دعم معنوي.
طبعا يحصل أن تنقد محاولات الاستثمار المعرفي الذي سيؤدي إلى الإنتاج المعرفي على المدى البعيد. وأسوأ نقد هو أنها نخبوية أو ترف. والمفارقة هي أن هذا النقد لا يأتي من سوريات الداخل، وإنما من المقيمات في أوروبا في غالب الأحيان. في الحقيقة لا أدري كيف أرد على هذه النقطة، كل ما يمكنني قوله إن جزءًا كبيرًا من مشاكلنا الاجتماعية سببها الجهل، وإن المعرفة من أهم الأدوات النسوية على الإطلاق. طبعًا أنا لا أطالب النساء في الأماكن غير الآمنة أن يشغلن أنفسهن بهذه الأمور، هذا غير ممكن أصلًا، ولكن هناك نسبة كبيرة ممن حققن درجة معقولة من النجاة وهنّ المعنيات. كما أنه لا يمكن أن نخسر الثورة على جميع الأصعدة، ما زالت الساحة الثقافية متاحة أمامنا ولا يمكن أن يسرقها أحد منا، إلا إن أردنا ذلك بأنفسنا.
أميل للتفكير أن نقد العمل الثقافي ينبع من مشكلتين مزمنتين لدى السوريين والسوريات. المشكلة الأولى هي عقدة ذنب كبيرة تجاه ضحايا الحرب، وهذا أمر مفهوم للغاية كردة فعل نفسية على الأحداث الفظيعة. من هنا ملاحظتي أن هذا النقد يأتي غالبًا من السوريات اللواتي وصلن إلى أوروبا على وجه الخصوص. سوريات الداخل متواضعات بالعموم، وسعيدات بأيّ فرصة للتعلم والتطور. والمشكلة الثانية برأيي هي الكسل والإحساس بعدم الجدوى والاكتئاب، وهو أمر أفهمه أيضًا، فأنا أشعر بالكسل وعدم الجدوى والاكتئاب أحيانًا، ولكن الاستسلام أمر غير مطروح. أليس كذلك؟
7. رحاب.. يقال في أوساط النقاش السوري أن النسويات السوريات اليوم عدائيات ولهن باع طويل في الجدال والمهاجمة، ما رأيكِ بهذا الكلام؟
بكل صراحة أرى أن الحساسية من الخطاب النِسوي أكبر بكثير من حجمه الفعلي. لا بد أن ثمة صبايا ممن يخترن عن وعي أو غير وعي تكتيك الصدمة أو صب الغضب المباشر على رأس المجتمع، ولكن عددهن ضئيل بالعموم ولا يستحق هذا الهلع. الأمر له صلة برأيي بأزمة كبيرة وارتجاج في الموازين الجندرية تجعلنا جميعًا متحفزين ومترقبين. كما أن النسوية تطرح مسائل تبدو ظاهريًا أنها نافلة وعادية ويومية، ولكنها في حقيقة الأمر تمس البنية التحتية لمجتمعاتنا، وتخاطب مخاوفنا وآلامنا الدفينة. لذلك يظهر أن النسويات عدائيات، ولكن الحقيقة هي أن المجتمع خائف.
وصلني مؤخرًا رد من شخص لا أعرفه على مقالتي (الحب قضية نِسوية)، وأرى أن كلامه معبر جدًا عن هذه الحالة. قال بما معنى إنه تأكد بعد قراءة نصي أنه مصاب بعقدة القلم النسوي، لأنه لا ينهي قراءة أيّ مقال نِسوي إلا وهو مكدر ومتضايق إلى أبعد الحدود، إلى درجة أنه يشعر أحيانًا بالكره حيال النساء. من قبل كان يفكر أن صياغة المقالات النسوية والتعميم هما السبب. غير أن مقالتي ليست الأولى التي يشعر أنها منصفة تمامًا، لا بل تعرض جزءًا من أفكاره، ومع ذلك شعر بالانزعاج، مع أنه يعتبر نفسه مدافعًا عن حقوق المرأة. هذا الرجل لامس بمنتهى الصدق مسألة في غاية الأهمية، ولطالما لفّ ودار الرجال حولها. ليس مريحًا أبدًا أن يسمع الرجال أن الوضع الحالي ينبغي أن يتغير، لأن هذا يتطلب منهم الشغل المرير على أنفسهم والتخلي عن كثير من الامتيازات. في الحقيقة أتفهم ألا يعجب الرجل الوسطي بطروحاتنا، لأنه يفضل الكسل والتأفف والدلال عوضًا عن التواضع والتعاون والحوار. بكل تأكيد ما زال بإمكاننا كنسويات أن نحسّن خطابنا ونجعله أكثر حساسية وفاعلية، ولكننا ما زلنا نخطو خطواتنا الأولى، ونحتاج إلى مزيد من الزخم وليس أقل.
8. في مقال لك عنوانه “في التطرف النسوي” نشر على موقع الجمهورية بتاريخ ١٠ أيلول ٢٠٢٠ تقولين في المقدمة جملة استوقفتني: “«أنا مع النِسوية، ولكني ضد التطرف النِسوي!»، لطالما سمعتْ النِسويات هذا التأييد الملحوق مباشرةً بذلك التحفظ. وطبعًا جميعنا نحاول ألا «نتطرف». نحاول أن نتكلم بتروٍ قدر الإمكان، ونصلي على النبي قبل أن نكتب أي شيء على وسائل التواصل الاجتماعي، ونعيد ترتيب أفكارنا قبل نشرها، كي لا نظهر بمظهر البائسات والكارهات للرجال، ونخسر أكثر مما نحن خاسرات”. هل نحن خاسرات يا رحاب ولماذا؟
أنت تطرحين الآن سؤالًا ضميريًا. في الحقيقة ترددت كثيرًا هل أترك هذه الجملة أم أحذفها. ولكني أحسست أنها خرجت من قلبي، لذلك تركتها. أحاول أن تكون كتابتي وجدانية وعقلانية في الوقت نفسه. ولكن إذا حاولنا أن نجيب على سؤالك بأقل قدر ممكن من التحيز، فجوابي هو نعم ولا.
أصدقكِ أني كنتُ أفضل أن أكتب قصيدة غزلٍ حرّة لرجل جميل على أن أضطر لكتابة نص دفاعي إثر لغط كبير حصل بين السوريين والسوريات سببه خروج حالة عنف منزلي إلى العلن. أليست هذه خسارة بحد ذاتها؟ كما أن المرأة النسوية تتعرض أحيانًا لمواقف أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها بايخة، لأن البعض يستشعر أن نسويتها تضعها في خانة يسهل مهاجمتها من دون حجج عقلية أو حتى محاولة فهم للموضوع المطروح للنقاش. لا يوجد أسهل من ذر الرماد في العيون عبر قلب الحقائق واتهامها بالعدائية. لماذا تختار المرأة هذا الطريق الوعر برأيك؟ ألا تفعل ذلك لأنها اصطدمت مرارًا وتكرارًا بالظلم لكونها أنثى؟ لدينا خسارات نعجز أن نعبر عنها. حبر العالم لن يكفيها.
ولكن من ناحية ثانية نحن لسنا خاسرات تمامًا. في الحقيقة نسويتي منحتني قضية لمدى الحياة، وصار لدي خطة عشرينية. هذا أكبر مكسب في حياتي على الإطلاق. ليست مشكلتي الآن أن أعرف ماذا أفعل، ولكن أين أجد الوقت الكافي والرواق كي أفعل. لم يكن الأمر كذلك منذ عشرين سنة مثلًا. كنت لا أعرف ماذا أريد، والحياة تلف بي وتدور على هواها. النسوية منحتني بوصلة، ليس لأني أريد حياة أفضل لنفسي، بل لأني لامست جوهر الحياة وأريد أن أترك أثر تجربتي تلك.
9. نشر لكِ مقال مؤخراً عنوانه “الحب قضية نِسوية” قبل يومين من عيد الحب. تحدثتِ فيه عن أكثر المواضيع جدلاً في عالم المرأة والرجل على حد سواء، والمتابع الجيد لمقالاتك سيلحظ جرأةً جديدة بدأت تظهر أكثر من قبل في ما تكتبين. استخدمتي تعابير قوية، ساخطة، ناقدة لحال الحب في مجتمعنا وحقيقية قبل كل شيء. سؤالي هو: لما تأخرتِ كل هذا الوقت؟ ما الذي كنتِ تنتظرينه طوال السنوات العشر الماضية رغم إيمانكِ بأهمية الطرح الصريح والواضح لمواضيع نسوية أو نسائية على حدٍّ سواء؟
كل ما هنالك أني اكتشفت عن طريق الصدفة أن كل خطوة شجاعة تفتح الطريق لخطوة شجاعة جديدة. أذكر أني كنت خائفة حين ترجمت مقالة (ماذا تعرف النسويات عن الحب؟) للكاتبة الهولندية أنيا مولينبيلت. ولكن العالم لم ينقلب بعدها، وسارت الأمور طبيعية، حتى أنها فتحت الباب لمزيد من الاهتمام بترجماتي. ولكني كنت دائمًا أقول لنفسي إن هموم الحب في مجتمعاتنا أعمق مما وصفت الكاتبة الهولندية. وكلما ازداد الاهتمام بتلك المقالة، ازدادت قناعتي أننا بحاجة إلى كتابة تمس آفات مجتمعاتنا بشكل مباشر. بإمكانك القول إن ترجماتي عبّدت لي الطريق كي أكون جريئة بالكتابة. كنت مع ترجمة كل مقالة أزيل الحواجز والقيود والخوف المتراكم في صدري. كنت أوقع تحت كل كلمة أترجمها، أقولها بنفسي علنًا. لم أكن أثناء ترجمتي مترجمة بالدرجة الأولى، بل كنت نسوية بالدرجة الأولى. أختار نصوصي جيدًا، وأترجم وقلبي يخفق مع كل كلمة. وحين جاء الوقت المناسب، ووددت أن أقول كلمتي النهائية في الحب، وأبدأ مرحلة جديدة، ولِد نصي (الحب قضية نسوية).
10. بالإضافة إلى ترجماتك عن الهولندية أنتِ تكتبين أيضاً، ماذا تعني لكِ الكتابة يا رحاب؟ شاركينا مقتطفاً تحبينه لنقرأه معاً في نون بوست.
الكتابة تحدٍ كبير بالنسبة لي. يكمن التحدي في طموحي لتوسيع حدودي عبر لغة جريئة وأنيقة في آن. فضلًا عن حبي للغة العربية. في الحقيقة لم أبدأ الكتابة إلا منذ وقت قصير، ولقد كنت أعاني لفترة طويلة من عقدة قلم بحجم الكرة الأرضية، ولكني سعيدة أني تجاوزت تلك العقبة قليلًا. ما زلت أكتب بصعوبة، والسبب هو أني لا أكتب لمجرد التنفيث أو النشر، ولكن لأني أريد أن أضيف شيئًا.
اخترت لك مقتطفًا من مقالة (الحب قضية نِسوية). لم أختره لأنه الأجمل أو الأعمق، بل لأنه يشمل تعريفي للحب كما أراه وأطمح إليه. قالت لي قريبتي مازحة إنه ينبغي أن يدخل هذا التعريف ضمن قانون الأحوال الشخصية. ضحكنا كثيرًا، ولكنها جعلتني أفكر بإمكانية إضافات نضعها في عقد الزواج نفسه تشمل توقعاتنا من العلاقة، لعلها تحمينا سلفًا من سوء الفهم ومن ضعفنا الأنثوي المتعلّم. أتمنى أن يدفع المقتطف إلى التفكير بتعريفاتنا الخاصة للحب كما نراه ونطمح إليه، وأن يساعدنا ذلك بدوره على ألا نقبل بالأقل.
المقتطف هو كالتالي:
من أجل فهم الحب وتحليله بصدق، ينبغي إذن ألّا نتجاهل أصوات النساء وتعبيراتهنّ عن تجاربهن، وألّا نتغافل عن البعد الذكوري لسلوكيات الأفراد حتى ولو انطلقنا مبدئيًا من حسن نواياهم، وألّا ننسى ازدواجية المعايير والميسوجينيا المنتشرة في المجتمع، والتي تؤثر على العلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة من دون أدنى شك. الميسوجينيا هي احتقار النساء والاعتقاد بدونيتهنّ مقارنة مع الرجال. ماذا تقولين؟ الميسوجينيا؟ أسمع الآن بعض الرجال يستنكرون: «الميسوجينيا؟ أتقصدينَ كره النساء؟ ماذا إذن عن افتتاننا الحقيقي بوجودكنّ يا معشر النساء؟ ومطارداتنا المريرة لكنّ؟ وتعلّقنا بأذيال أثوابكنّ؟ وماذا عن المعلّقات الشعرية الطويلة التي كتبناها حول ولهنا بأهدابكنّ وعيونكنّ الحوراء؟ ألا تسمّينَ هذا حبًا؟ وحاجتنا العميقة إليكن إذن؟ ماذا تسمينها إن لم تكن حبًا؟». أنا متأكدة أن هذه هي التساؤلات التي تجول في أذهان بعض الرجال حين يسمعون مصطلح ميسوجينيا، كره النساء، للمرة الأولى. وهذا لأن الحب يختلط لديهم بالإثارة الجنسية العابرة التي تتمحور غالبًا حول الرغبات الذاتية أكثر مما تهتم بالآخر. لا، ليس هذا حبًا يا صديقي. الحب هو أن تحترم كياني كإنسانة كاملة القيمة، وتصون حدودي وجسدي وسري ومستقبلي وطموحي، وتحترم عقلي، وتَصْدُقني، وتهتم لتعبي، وتتكلم وتُصغي، وتأخذ وتعطي، وتتعاون من أجلك وأجلي، وتعتذر حين تخطئ، وإن تعذّر كل ذلك أن تنسحب دون أن تدمر ما خلفته وراءك. هل أنت قادر على كل ذلك؟ إذن أنت تعرف الحب!!