“كان الأشمر مثالاً للمجاهد الشجاع الجريء الذي يقتحم غمار الموت ويهزأ بالأخطار التي تسعى بين يديه ومن خلفه، كما كان مثالاً للرجل المؤمن التقي الذي يلقي بالمواعظ على إخوانه المجاهدين متنقلاً من مكان إلى مكان يبث فيهم روحه المؤمنة القويّة كل معاني الثقة بالله وبعدالة الحق الذي خرجوا للدفاع عنه”. بهذه الكلمات رثى مصطفى السباعي القائد السوري المجاهد محمد الأشمر الذي توفي في مثل هذا اليوم من عام 1960، مضيفًا: “كان يكفيه من الأمجاد والخلود ما قام به في الثورة السوريّة من بطولات وتضحيات”.
وإن كانت الكتب والمجلدات قد امتلأت بأسماء الأبطال المدافعين عن سوريا زمن الاحتلال الفرنسي والجند الميامين الذين ضحوا بأرواحهم، فقد تخطى مسيرة الأشمر النضالية حدود القطرية والمناطقية، فجال بين سوريا وفلسطين مكافحًا الاستعمار في سبيل حرية الأوطان. لم يقتصر الأمر على القتال ضد الاستعمار لدى الأشمر، فقد كان شيخًا مصلحًا بين الناس، إذ سعى إلى خدمة الناس في وجه الظلم من أي طرف كان.
ينتسب الأشمر إلى أسرة مكية الأصل، ولد في حي الميدان الدمشقي عام 1892، كانت نشأته في بيئة محافظة ودينية، كما قرأ الفقه على العديد من الشيوخ، وكان له جولات بين دمشق وحوران، وفي الغاريّة الشرقية تدرب على الفروسية وفي دمشق تعرف على الشيخ أمين الزملكاني ليصبح متصوفًا نقشبنديًا، كما درس علم الحديث على المحدّث الأكبر بدر الدين الحسني ولازمه، وتلقى الفقه على الشيخ عبد القادر الشموط.
حياة من النضال
في تموز/يوليو من عام 1920 خرج القائد السوري يوسف العظمة إلى معركة ميسلون بآلاف المقاتلين المتطوعين وجنود الجيش المنحل الذين أرادوا صد المستعمر الفرنسي من دخول البلاد بعد إنذار غورو، ومن بينهم الأشمر.
أثرت ميسلون، هذه المعركة التي أصبحت أيقونة النضال ضد المستعمر الفرنسي ونقطة فاصلة في التاريخ السوري، على الأشمر فجعلته كتلة نار ضد الفرنسيين، فلم يكلّ أو يملّ من الحرب والمعارك ضدهم، حتى أن شيخه المحدث الأكبر بدر الدين الحسني كلفه بالخروج إلى غوطة دمشق والعمل على توحيد قوى الثورة ضد الفرنسيين ووضع حد لخلافاتهم، ومن هناك خرج الأشمر بمعاركه وغاراته على المستعمر، ومن أشهر معاركه: فك الحصار عن جبل الدروز في المسيفرة، ومعركة يلدا في الغوطة، ومعركة حي الميدان، حيث قاتل مع 100 شخص وحدات عسكرية مزودة بأحدث الأسلحة.
عمل الأشمر على تدمير خطوط السكك الحديديّة التي يستخدمها الفرنسيّون، كما لاحق الجواسيس والعملاء الذين يعملون لصالح الاحتلال الفرنسي، وعندما سيطرت القوات الفرنسية على مدن الغوطة الشرقية، خرج إلى مدينة داعل في درعا، فلحق الفرنسيون به بحملة عسكرية كبيرة تحميها الطائرات من أجل القبض عليه، لكنه استطاع الفرار منهم على ظهر فرسه وعبر نهر اليرموك باتجاه الأردن.
مكث في مدينة الرمثا شرق الأردن، وفيها أسس فرقة عسكرية وصلت إلى 600 مقاتل. اتخذت درعا مركزًا لعملياتها الهجومية، ومن الأردن انطلق لزيارة مدينة القدس ولقاء الحاج أمين الحسيني، إلى أن أصدر المستعمر الفرنسي عفوًا عن الأشمر ليعود إلى دمشق عام 1931، ليعمل على تحميس الشباب والإصلاح في المجتمع.
عارض الأشمر قانون الطوائف، وقاد مظاهرة شعبيّة اشترك فيها الكثير من وجهاء النضال ضد الفرنسيين في ذلك الوقت، وظلت الاحتجاجات حتى إلغاء القانون، وفي أيار/مايو 1944 صدرت الحكومة أمرًا باعتقال الأشمر، فاستجاب الأشمر للأمر وتوجه طواعية إلى سجنه في جزيرة أرواد وأقام في زانزينها شهرًا، نتيجة لإرسال شكري القوتلي رسالة له تفيده بأن اعتقاله يطفئ فتنة يريد الفرنسيون إشعالها بهدف عرقلة الجهود الرامية إلى الاستقلال النهائي.
الجهاد في فلسطين
لم تكن سوريا هي المحطة الوحيدة للشيخ الأشمر، فقد شارك في الثورة الكبرى في فلسطين سنة 1936 ودخل على رأس مجموعة من المجاهدين السوريين وانضم إلى قوات الثوار المحليين والقوات العربية التي دخلت فلسطين بقيادة فوزي القاوقجي، حيث نشط الأشمر في مثلث نابلس، وخاض عددًا من المعارك خلال 40 يوم قضاها هناك، أهمها معركة بلعا الثانية التي انتهت بانهزام الانجليز وسقوط عشرات القتلى منهم وإسقاط طائرات، إضافة إلى ذلك شارك في معركة “جمع” في سفح جبل ياصيد ومعركة “بيت امرين”.
انسحب محمد الأشمر وجماعته إلى سوريا لما توقفت أعمال الثورة في فلسطين إثر نداء الملوك والرؤساء العرب في الثاني عشر من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1936، لكن فلسطين ظلت مرتبطة بقلبه وعقله.
مصلح بين الناس
يقول زهير الشاويش وهو أحد قيادات العمل الإسلامي في ذلك الوقت عن الشيخ الأشمر “كان من أكثر الأمور التي تشغل وقت الشيخ محمد الأشمر اهتمامه بإصلاح ما بين الناس من خلافات وخصومات. وإذا كانت الخلافات من الكثرة بما يصعب إحصاؤها وتتبعها بالحل بين الناس، فإن لبعضها أثرًا بليغًا في المجتمع، إن لم يبادر أهل الحل والعقد من الناس بمواجهتها والسعي إلى حلها بالحسنى، وكان من أبرز هذه الخلافات ما ينجم عنه سقوط قتيل من جانب وتأهب للثأر من الجانب الآخر”.
قضى محمد الأشمر حياته في الكفاح من أجل الأوطان العربية وضد أوجه الظلم وأنظمة القمع، وكذا فعل أحفاده من الثوار السوريين الذي اقتفوا آثار مسيرته النضالية، فوقفوا أمام نظام بشار الأسد دفاعًا عن حقوقهم وكرامتهم.