ترجمة وتحرير: نون بوست
توفي طارق البشري، القاضي المصري والمؤرخ والمنظّر القانوني والمفكر العام، جراء إصابته بكوفيد-19 يوم الجمعة الماضي عن عمر يناهز 87 عامًا. ألّف البشري الكثير من الكتب وترك وراءه إرثا فكريًا وسياسيًا كبيرًا، وتمثل وفاته نهاية حقبة مفكّري ما بعد الاستعمار. هو حفيد سليم البشري الذي شغل منصب شيخ الأزهر مرتين – المرةّ الأولى من 1900 إلى 1904 والثانية من 1909 إلى 1916 – وابن عبد الفتاح البشري الذي شغل منصب رئيس محكمة الاستئناف المصرية (محكمة النقض) التي كانت حينها المحكمة الأكثر شهرة في مصر.
تلقى البشري تكوينًا في أرقى المؤسسات الدينية الحديثة في مصر. وسعى طيلة مسيرته الفكرية والقضائية والسياسية إلى حل التوترات بين هذين التيارين في المجتمع المصري من خلال دمقرطة الدولة المصرية.
من اليسار إلى الإسلاموية
بعد تخرجه من كلية الحقوق بجامعة القاهرة في سنة 1953، انضم البشري إلى مجلس الدولة الذي كان قد أنشئ حديثًا. كانت هذه النسخة المصرية، المستوحاة من المؤسسة الفرنسية، تقوم بوظيفة محكمة إدارية عليا تهدف في المقام الأول إلى حل النزاعات بين مختلف أجهزة الدولة المصرية وفيما بينها، ولكنها وفّرت أيضًا منتدى للمواطنين المصريين لتقديم الشكاوى حول المعاملة غير القانونية التي يتعرّضون لها على يد البيروقراطية المصريّة.
لعِب البشري دورًا مهما للغاية في تطوير هذه المؤسسة في الثمانينيات والتسعينيات، عندما أصدر قرارًا مهما في سنة 1992 ينصّ على إلغاء المحاكمات العسكرية للمتهمين من المدنيين. ولكن بما أن هذا القرار كان مجرّد قرار إداري، فقد كان تأثيره ضئيلًا، حيث غيّرت حكومة مبارك القانون بسرعة لتوفير السلطة اللازمة لمواصلة هذه الممارسة.
تقاعد طارق البشري من مجلس الدولة في سنة 1998 باعتباره أول رئيس لمجلس الدولة ورئيس الجمعيّة العموميّة للفتوى والتشريع. كانت سياساته المبكرة ذات توجّه يساري وتضمنت الاعتقاد بأن النخبة مسؤولة اجتماعيًا عن إصلاح المجتمع ودفعه نحو الحداثة. بعد نكسة 1967، تخلى البشري عن فكرة تغيير السياسة، وحاول بدلا من ذلك فهم الدور السياسي الذي يمكن أن تلعبه النخبة في السياق المحلي باعتبارها مصدرا لتجديد حيوية تلك القيم المحلية التي يمكن أن تُحدث التغيير المنشود.
مع أنه عادة ما ينظر إلى البشري على أنه إسلامي معتدل، إلا أن إرثه في مجال الإسلام السياسي يتضّح من خلال انتقاله من نظرية التغيير الاجتماعي اليسارية إلى نظرية التغيير الاجتماعي التي كانت متجذرة في القيم الأساسيّة للمجتمع نفسه. وبناء على ذلك، كان لا بد أن يمر المسار الواقعي الوحيد نحو الديمقراطية في مصر عبر الإسلام بكلّ ما يمثّله، والشريعة الإسلامية من ميراث ثقافي مشترك بين جميع المصريين – من المسلمين وديانات أخرى.
طوال مسيرته الفكرية، كان البشري مصريًا مناصرًا للقوميّة، ولا يُقصد بذلك القومية الزائفة والإقصائية والشوفينية التي ظهرت في مصر ما بعد 2013 بل القومية التي دافع عنها مفكر القرن التاسع عشر رفاعة رافع الطهطاوي
إن مراجعة البشري لمفهوم مكانة الإسلام في التحول الديمقراطي المصري واضحة في النسخة المعادة طبعها في سنة 1980 لدراسته التي نشرت في سنة 1972 بعنوان: “الحركة السياسية في مصر، 1945-1952”. في النسخة الأصلية، قلل البشري من دور جماعة الإخوان المسلمين في تمهيد الطريق لثورة 1952، واعترف أكثر بفضل أنشطة المنظمات الشيوعية والاشتراكية المصرية.
في النسخة المنقحة لسنة 1980، أعاد البشري النظر في موقفه وجادل في مقدمة جديدة مطولة في الكتاب بأن الإخوان المسلمين هم مرسّخو الديمقراطية الحقيقيون في مصر، وليس اليسار المصري.
مناصر القومية
طوال مسيرته الفكرية، كان البشري مصريًا مناصرًا للقوميّة، ولا يُقصد بذلك القومية الزائفة والإقصائية والشوفينية التي ظهرت في مصر ما بعد 2013 بل القومية التي دافع عنها مفكر القرن التاسع عشر رفاعة رافع الطهطاوي، القائمة على حب الوطن والرغبة الصادقة في السعي وراء رفاهية شعبه والترحيب بجميع الراغبين في التعاون في هذا المشروع، دون تشويه سمعة من هم خارج المجتمع القومي.
يؤكّد كتاب البشري لسنة 1980 بعنوان “المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية” مدى قوميته. لقد بدأ تأليف هذا الكتاب في أعقاب نكسة 1967 كوسيلة لمقاومة اليأس الذي فرضته الهزيمة على مسار المشروع القومي.
كان هدفه سرد قصة مجتمع قومي مصري متماسك يتخطى الانقسامات الطائفية، وهو مجتمع كان متحدًا في بناء دولة تسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف: تأميم وتمصير مؤسسات الدولة الذي يعني أن جميع مكاتب الدولة والجيش ستكون مفتوحة لاستقبال جميع المصريين، والتحرر من الهيمنة الأجنبية، وأخيرا التحرر من الحكم التعسفي للدولة من خلال إرساء الديمقراطية.
تحقق الهدف الأول تدريجيًا طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، أولًا مع محمد علي وخلفائه حيث تمكن المصريون تدريجيًا من شق طريقهم إلى معظم صفوف النخبة المدنية والعسكرية في الدولة؛ ثم من خلال حركة الضباط الأحرار المصريين التي تأسست في سنة 1952 التي أكملت تلك المهمة.
أما الهدف الثاني – وهو التحرر من الهيمنة الأجنبية – فقد حققته أيضًا حركة الضباط الأحرار، ولكن بثمن باهظ: فإقامة دولة بيروقراطية استبدادية حال دون تحقيق الهدف النهائي للحركة الوطنية المصرية: ألا وهو التحرر من الحكم التعسفي.
إقرار العصيان
باعتباره مُنظِّرا سياسيًا، كان اهتمام البشري مركزًا بالكامل على كيفية تعطيل الحكم الاستبدادي البيروقراطي الذي أرسته حركة الضباط الأحرار للتطور السياسي في مصر. لقد كان متعاطفا مع الدور السياسي للإسلام في المجتمع المصري الحديث لأنه كان يعتبره أفضل طريقة لإرساء نظام سياسي أكثر ديمقراطية ينطلق من القاعدة إلى القمة ويستطيع مقاومة التطور الاستبدادي للدولة المصرية.
بعد تقاعده من مجلس الدولة المصري في سنة 1998، جاهر البشري بمعارضته للحكم الاستبدادي والفساد وإضفاء الطابع الشخصي على القانون الذي أصبح متجذرًا خلال حكم حسني مبارك. في سنة 2006، أصدر البشري كتابا بعنوان “مصر بين العصيان والتفكك”، الذي اعتبر فيه العصيان المدني الجماعي استراتيجية لمواجهة الحكم الاستبدادي وإرساء الديمقراطية.
بعد تنحي مبارك عن السلطة في أعقاب انتفاضة 25 كانون الثاني/ يناير الشعبية، ترأس البشري لجنة من المحامين المصريين مكلفة بتعديل دستور 1971 للسماح بحدوث انتقال ديمقراطي هادف. ولكن عندما تم الإفصاح عن الطابع المحدود لهذه التعديلات، أدى ذلك إلى أول انهيار كبير للتحالف الثوري. أثار تدخل الجيش استياء البشري، وبدلا من تقديم التعديلات المقترحة للمصادقة عليها في استفتاء، أصبحت هذه التعديلات جزءًا من دستور هيكلي جديد أصدره الجيش نفسه.
على الرغم من أن ذلك ربما لم يكن واضحًا في ذلك الوقت، إلا أن تولي الجيش للسلطة الدستورية في استفتاء آذار/ مارس 2011 أنذر بحدوث مصيبة عصفت بعد وقت قصير بآمال وتطلعات الثوار المصريين، كانت استيلاء عبد الفتاح السيسي (وزير الدفاع آنذاك) بدعم من الجيش والشرطة في مصر على السلطة في انقلاب عسكري دموي.
حتى مع من انتقاداته لأداء الإخوان المسلمين في الحكومة بعد انتخاب محمد مرسي في سنة 2012، لم يتردد البشري في وصف ما حدث في صيف 2013 على يد السيسي بأنه انقلاب ضد حكومة منتخبة ديمقراطيًا.
لحظة صادمة
بالنسبة للبشري، لا شك أن انقلاب 2013 كان لحظة صادمة في نظر العالم مثل نكسة 1967، وربما أكثر من ذلك لأن الانقلاب جاء على يد الشعب المصري نفسه. كان البشري متفائلًا بشكل غريب، بل وحتى بشكل غائي، وينظر إلى التاريخ على أنه تقدمي، وإلى هذا الحد، لم يتوقف عن كونه يساريًا.
لسوء الحظ، قد لا نعرف أبدا موقف البشري – المفكر السياسي – من الانقلاب وتأثيره على تاريخ مصر الحديث ذلك أن الحكم الاستبدادي الوحشي لنظام السيسي لم يسمح للبشري بالتعبير عن آرائه علنًا. ربما سيُكشف عن وجهة نظره في الوقت المناسب، في حال ترك للأجيال اللاحقة – وأعتقد أنه فعل ذلك – كتابات غير منشورة.
حتى ذلك الحين، يتبقى لنا أن نتكهن موقفه بشأن إحياء الحكم الاستبدادي الوحشي في مصر بشكل لم يسبق له مثيل. ولا شك أن البشري ترك هذا العالم ليلتقي بخالقه حزينًا على ما كان من الممكن حدوثه. لكننا اليوم، نكرّم البشري لتكريس حياته في العمل من أجل تقدم مصر، ونأمل أن يحقق المصريون يوما ما، عاجلا أم آجلا، أمله الأكبر في التحرر من الحكم التعسفي للدولة.
المصدر: ميدل إيست آي