نشر “آفي شلايم”، الأستاذ الفخري للعلاقات الدولية بجامعة أكسفورد، ومؤلف كتاب “الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي”، مقالا تناول فيه “الاستعمار البريطاني ومعاداة السامية والحقوق الفلسطينية”.
النص الكامل لمقاله الذي نشره موقع “ميدل إيست آي”، على ثلاثة أجزاء، مهتما بالمنظور البريطاني الحالي والسابق للقضية الفلسطينية والدور الذي تلعبه المملكة المتحدة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والانحياز للاحتلال وسعيها لإفشال إقامة دولة فلسطينية، متحدثا عن عنصرية بريطانية ضد الفلسطينيين.
وفي ما يأتي الجزء الأول منه
في شهر كانون الأول/ ديسمبر من عام 2016، تبنت حكومة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي رسمياً تعريف معاداة السامية كما هو صادر عن التحالف الدولي لذكرى الهولوكوست (المحرقة النازية). كانت تلك هي الحكومة الأولى في العالم التي تقدم على ذلك، واضعة معلما آخر في تاريخ الدعم البريطاني المستمر للصهيونية منذ مائة عام وما يصاحبه من تجاهل للفلسطينيين ومن تنكر لحقوقهم.
كانت “الخطيئة الأصلية” هي إعلان بلفور عام 1917، الذي وعد بدعم إقامة “وطن قومي للشعب اليهودي” شريطة ألا يحدث شيء “يضر بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين”. كان العرب في عام 1917 يشكلون تسعين بالمئة من سكان فلسطين بينما كان اليهود يشكلون أقل من عشرة بالمئة.
وبذلك كان الإعلان وثيقة استعمارية كلاسيكية: إذ منح حق تقرير المصير الوطني لأقلية صغيرة بينما حرم من ذلك الأغلبية العظمى من السكان. وإمعانا في الإيلام والامتهان، أشار الإعلان إلى من يشكلون تسعين بالمئة من سكان البلاد بعبارة “المجتمعات غير اليهودية في فلسطين”، مرحلاً إياهم إلى مرتبة دونية. ولكن على الرغم مما فيه من جور عجيب وإيثار لليهود على غيرهم، إلا أن الإعلان كان على الأقل يشتمل على وعد بحماية الحقوق المدنية والدينية للفلسطينيين – إلا أن هذا الوعد حتى لم يتم الوفاء به.
استمر الانتداب البريطاني على فلسطين من عام 1920، وحتى منتصف ليلة الرابع عشر من أيار/ مايو من عام 1948، وهو تاريخ إعلان قيام دولة “إسرائيل”. كان أول مفوض سامي بريطاني لفلسطين، هيربرت صمويل، يهوديا وصهيونيا متحمسا. وكان الانحياز لصالح اليهود جليا من اليوم الأول، فقد كان حجر الزاوية في الانتداب هو حظر قيام أي مؤسسات تمثيلية طالما أن العرب هم أغلبية سكان فلسطين.
في نهاية المطاف، تجاوزت بريطانيا مجرد الوفاء بما وعدت به الصهاينة، وذلك من خلال المساعدة على تطوير “الوطن اليهودي” إلى دولة يهودية، بينما غدرت بالفلسطينيين ونكثت بكل تعهداتها لهم. وكان هذا الغدر البريطاني هو ما أثار حفيظة الفلسطينيين فانتفضوا في ما بات يعرف بالثورة الفلسطينية الكبرى والتي استمرت من عام 1936 وحتى عام 1939.
لم تُفقد فلسطين في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي كما هو شائع، وإنما فُقدت في نهاية الثلاثينيات نتيجة لقيام بريطانيا بعملية تحطيم بشعة للمقاومة الفلسطينية
وكانت تلك انتفاضة وطنية طالبت باستقلال العرب ووضع حد لسياسة الباب المفتوح أمام الهجرة اليهودية وشراء الأراضي.
وعملت قوات الجيش والشرطة البريطانية على إخماد الثورة وقمعها بوحشية، ولجأت بريطانيا في تنفيذ ذلك إلى كافة ما توفر لديها من إمكانيات وإجراءات استعمارية، بما في ذلك الأحكام العرفية والمحاكم العسكرية والاعتقال بلا محاكمة، والجلد بالعصي والسياط، والتعذيب، والقتل خارج نطاق القانون، والعقاب الجماعي، والقصف الجوي. وقتل أو جرح ما يقرب من عشرين ألف فلسطيني أثناء فترة تلك الثورة، ودمرت قرى بأكملها عن بكرة أبيها.
وأثناء عملية سحق الانتفاضة كسرت بريطانيا العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية. وقدر ما أضعفت الإجراءات البريطانية الفلسطينيين بقدر ما عززت من قدرات الصهاينة، في الوقت الذي كان فيه الطرفان يتجهان حتماً نحو مواجهة نهائية.
لم تُفقد فلسطين في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي كما هو شائع، وإنما فُقدت في نهاية الثلاثينيات نتيجة لقيام بريطانيا بعملية تحطيم بشعة للمقاومة الفلسطينية بينما كانت تقدم الدعم والمساندة للقوات اليهودية شبه العسكرية.
عنصرية معادية للعرب
كان تيار سفلي من العنصرية المعادية للعرب يصطبغ به تعامل بريطانيا بأسره مع الانتداب على فلسطين. ففي عام 1937، قال ونستون شيرشل، الذي أصبح فيما بعد رئيس وزراء بريطانيا: “لا أوافق على أن الكلب في المعلف له الحق النهائي في المعلف حتى لو قبع هناك لزمن طويل جداً. لا أقر له بذلك الحق”.
وأضاف: “لا أقر، على سبيل المثال، بأن ظلماً كبيراً قد وقع على الهنود الحمر في أمريكا أو سود البشرة في أستراليا. ولا أقر بأن ظلماً ارتكب بحق هؤلاء الناس لأن عرقاً أقوى، عرقاً أعلى مكانة، عرقاً أوسع حكمة ومعرفة، قد جاء واحتل مكانهم”.
ولذلك، كان محقاً ذلك المتظاهر من أتباع حركة “حياة السود تهم” عندما قام في شهر حزيران/ يونيو من عام 2020، بالخربشة بالأصباغ على تمثال لتشيرتشل داخل ميدان البرلمان في لندن، وكتب عليه عبارة “كان عنصريا”.
فقد كان تشيرتشل يحتقر العرب باعتبارهم عرقا دونيا، ولئن كان صادما إطلاقه وصف “الكلب في المعلف” على العرب الفلسطينيين، فإن ذلك لم يكن مستغربا تماما، فالعنصرية والاستعمار رفيقان لا يفترقان.
حينما كان الانتداب البريطاني على فلسطين يقترب من نهايته المخزية، ظلت بريطانيا مصرة على موقفها المعادي للفلسطينيين، فعندما جرى التصويت داخل الأمم المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1947 على تقسيم فلسطين الانتداب إلى دولتين، تبنت بريطانيا الحياد موقفا رسميا، ولكنها عملت فيما وراء الكواليس من أجل إجهاض الدولة الفلسطينية حتى لا ترى النور.
كان عداء بريطانيا تجاه الفلسطينيين والدولة الفلسطينية عاملاً دائماً لا يفارق سياستها الخارجية في الفترة من عام 1947 إلى عام 1949
تشاجر الحاج أمين الحسيني، زعيم الحركة الوطنية الفلسطينية، مع بريطانيا بسبب سياستها المؤيدة للصهيونية في فلسطين، فتواصل مع أدولف هتلر أثناء الحرب العالمية الثانية.
وكانت الدولة الفلسطينية في عيني بريطانيا مرادفة لدولة المفتي، وبالتالي فقد كان عداء بريطانيا تجاه الفلسطينيين والدولة الفلسطينية عاملاً دائماً لا يفارق سياستها الخارجية في الفترة من عام 1947 إلى عام 1949.
الشطب من الخريطة
وأعطت بريطانيا الضوء الأخضر لعميلها الملك عبد الله في شرق الأردن، لكي يرسل جيشه الصغير بقيادته البريطانية إلى فلسطين بمجرد انتهاء الانتداب البريطاني، لكي يستولي على الضفة الغربية – والتي كان من المقرر لها أن تشكل القلب من الدولة الفلسطينية.
وكان الفائزون في الحرب التي اندلعت حول فلسطين هم الملك عبد الله والحركة الصهيونية، وكان الخاسرون هم الفلسطينيين. ونتيجة لذلك فقد غدا أكثر من نصف السكان، ما يقرب من 750 ألف فلسطيني، لاجئين، وشطب اسم فلسطين تماماً من الخارطة.
باختصار، لعبت بريطانيا في نكبة أهل فلسطين دوراً كبيراً، وإن كان لا يعرف عنه الكثير. إنها النكبة التي أتت على الفلسطينيين فسحقتهم في عام 1948. وعندما أعلن رسمياً عن ضم الضفة الغربية إلى الأردن في عام 1950، فقد كانت بريطانيا وباكستان العضوين الوحيدين في الأمم المتحدة اللذين اعترفا به.
في ظل الأحداث المحيطة بحركة “حياة السود تهم” وإعادة تسليط الضوء على الماضي الاستعماري لبريطانيا والمطالبة بتصحيح مناهج التعليم في المدارس لتتوافق مع ذلك، أطل بعض العلماء برؤوسهم للدفاع عن الإمبراطورية البريطانية، ومنهم على سبيل المثال نايجل بيغار، أستاذ اللاهوت في جامعة أكسفورد، الذي دافع عن الإمبراطورية البريطانية باعتبارها قوة أخلاقية في سبيل الخير.
فبالإشارة إلى سيسيل رودس والحملة المطالبة بإزالة تمثاله من كلية أوربيل في جامعة أكسفورد، أقر بيغار بأن رودس كان إمبريالياً ولكنه قال إن “الاستعمار البريطاني لم يكن في الأساس عنصرياً، ولم يكن في الأساس استغلالياً، ولم يكن في الأساس كريهاً”. إلا أن من الصعوبة بمكان التوفيق بين تلك النظرة الحميدة للأستاذ الجهبذ وسجل الإمبراطورية البريطانية في فلسطين.
إرث من العار
حزب المحافظين وزعماؤه هم حملة لواء هذا الإرث المخزي من الدعم البريطاني غير المشروط لـ “إسرائيل” وعدم المبالاة بالحقوق الفلسطينية. ولا أدل على ذلك من أن كتلة “أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين” تعد أقوى لوبي مناصر لـ “إسرائيل” في بريطانيا، إذ ينتسب إليها ما يقرب من ثمانين بالمائة من أعضاء حزب المحافظين في البرلمان.
ومنذ الانتخابات العامة التي أجريت في 2015، فقد أرسلت كتلة “أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين” 24 وفدا لزيارة “إسرائيل” شارك فيها ما يزيد على الـ180 من أعضاء حزب المحافظين في البرلمان البريطاني.
بوريس جونسون فيعبر بشكل أكثر دقة عن سجل بريطانيا كقوة استعمارية في فلسطين
وكان آخر ثلاثة زعماء لحزب المحافظين من أشد المناصرين لدولة “إسرائيل”، حتى إن رئيس الوزراء السابق دافيد كاميرون وصف نفسه بـ”الصديق المتحمس” لـ “إسرائيل” مصراً على ألا شيء بإمكانه أن يقوض تلك الصداقة.
لربما كانت تريزا ماي أشد زعيم مناصرة لـ “إسرائيل” في أوروبا أثناء فترة رئاستها للحكومة، ففي خطاب وجهته لكتلة “أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين” في عام 2016، وصفت إسرائيل بأنها “بلد مثير للإعجاب… فهي ديمقراطية مزدهرة، ونموذج للتسامح، ومحرك للتجارة والأعمال، ومثال يقتدى به في بقية العالم”. وتحدثت عن “إسرائيل” بكونها “بلداً يتعايش فيه الناس من كل الأديان والميول الجنسية بحرية حيث إنهم يتساوون في نظر القانون”.
وخصصت تريزا ماي أشد انتقاداتها حدة لحركة “بي دي إس” (المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات) التي تعمل من أجل إنهاء الدعم الدولي لاضطهاد “إسرائيل” للفلسطينيين والضغط على “إسرائيل” حتي تلتزم بالقوانين الدولية. وحركة “بي دي إس” حركة غير عنفية، وهي عبارة عن حملة شعبية قاعدية مطالبها الرئيسية الأساسية – حق العودة للاجئي عام 1948 وحقوق متساوية لمواطني “إسرائيل” من الفلسطينيين – تنسجم تماماً مع ما ينص عليه القانون الدولي. ومع ذلك صرحت تريزا ماي بأن هذه الحركة “خاطئة وغير مقبولة، وهذا الحزب وهذه الحكومة لن يكون لهما أي تعامل مع من يشاركون فيها أو ينتسبون إليها”.
وذكرت تريزا ماي الحضور بأن بريطانيا كانت تلج “زمناً خاصاً” – الذكرى المئوية لإعلان بلفور – ومضت لتصدر حكماً متحيزاً ومن طرف واحد على هذه الوثيقة الاستعمارية قائلة: “إنه واحد من أهم الخطابات في التاريخ، إذ يكشف عن دور بريطانيا الحيوي في إقامة وطن للشعب اليهودي، وهي ذكرى سنوية تجعلنا نشعر بالفخر”. لم يرد في خطابها أي ذكر لإخفاق بريطانيا في التمسك حتى بأبسط حقوق الإنسان الفلسطيني.
الحقوق الوطنية
أما رئيس الوزراء بوريس جونسون فيعبر بشكل أكثر دقة عن سجل بريطانيا كقوة استعمارية في فلسطين. ففي كتابه الذي صدر في عام 2014 عن تشيرتشل، وصف إعلان بلفور بأنه “غريب” و”متهافت بشكل مأساوي” و”قطعة بديعة من الخداع الذي مارسته وزارة الخارجية”. وكان ذلك بحق نموذجاً نادراً من الحكم الحقاني والرؤية التاريخية الصائبة من جانب جونسون. ولكن في عام 2015، وأثناء زيارة إلى “إسرائيل” بوصفه عمدة لمدينة لندن، أشاد جونسون بإعلان بلفور معتبراً إياه “إنجازاً عظيماً”.
في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2017، وبصفته وزيراً للخارجية، أطلق جونسون حواراً داخل مجلس العموم حول إعلان بلفور. وحينها عاد وكرر ترنيمة شعور بريطانيا بالفخر لما لعبته من دور في إقامة الدولة اليهودية في فلسطين. وكانت لديه فرصة سانحة لكي يوازن ذلك بالاعتراف بفلسطين كدولة، ولكنه صدها المرة تلو الأخرى زاعماً بأن الوقت لم يكن مناسباً. بما أن حزب المحافظين يؤيد حل الدولتين فقد كان الاعتراف بفلسطين خطوة منطقية باتجاه تحقيق تلك الغاية.
معاداة السامية هي تصور معين لليهود يمكن التعبير عنه بأنه كراهية لليهود، من خلال المظاهر المادية والشفوية لمعاداة السامية الموجهة للأفراد اليهود أو غير اليهود
كان آرثر بلفور، وزير خارجية بريطانيا في عام 1917، قد تعهد بأن يحافظ على الحقوق المدنية والدينية للسكان الأصليين في فلسطين. وبعد قرن من ذلك، أضاف مجلس العموم إليها الحقوق الوطنية، وذلك حينما صوت في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2014 بمائتين وأربعة وسبعين صوتاً مقابل اثني عشر صوتاً للاعتراف بدولة فلسطين.
إلا أن كاميرون اختار أن يتجاهل نتيجة ذلك التصويت غير الملزم، فكان بذلك على الأقل منسجماً مع ارتباطه العاطفي والحماسي بإسرائيل، وهو ما لا يصح بحق خلفه، الذي، وكما هو حال مقاربته تجاه أي قضية من القضايا، كانت النفعية هي سيدة الموقف في سلوكه تجاه الحقوق الفلسطينية.
من بلفور وحتى بوريس، تتواصل السياسة البريطانية عبر خيط ممتد لا ينقطع من قصر النظر والنفاق وازدواجية المعايير والاحتيال والخديعة. ويأتي ضمن هذا التقليد المتحزب لصالح الصهيونية و”إسرائيل” والمحتقر للفلسطينيين تبني حكومة حزب المحافظين في عام 2016 لتعريف معاداة السامية، غير الملزم قانونياً، بالصيغة التي طرحها التحالف الدولي لذكرى الهولوكوست.
ينص التعريف على ما يأتي: “معاداة السامية هي تصور معين لليهود يمكن التعبير عنه بأنه كراهية لليهود، من خلال المظاهر المادية والشفوية لمعاداة السامية الموجهة للأفراد اليهود أو غير اليهود و/أو ممتلكاتهم أو مؤسسات الطوائف اليهودية والمرافق الدينية التابعة لهم”.
نماذج إشكالية
لا يذكر التعريف “إسرائيل” بالاسم، ولكن ما لا يقل عن سبعة من أحد عشر من “النماذج الإيضاحية” الملحقة به تتعلق بـ “إسرائيل”. وتشمل: “إنكار حق الشعب اليهودي في تقرير المصير، على سبيل المثال من خلال الزعم بأن وجود دولة إسرائيل هو مشروع عنصري”، “والكيل بمكيالين من خلال مطالبتها بسلوك لا يتوقع أو يطلب من أي دولة ديمقراطية أخرى”، “وإجراء مقارنات ما بين السياسات الإسرائيلية الحالية وتلك التي كانت للنازيين”، “وتحميل اليهود جماعياً المسؤولية عن تصرفات دولة إسرائيل”.
وتشتمل النماذج الأحد عشر على سلسلة غير مبررة من الافتراضات حول “إسرائيل” ويهود العالم. فهي تفترض أن جميع الإسرائيليين يعتنقون فكرة أن “إسرائيل” دولة يهودية، وأن “إسرائيل” “دولة ديمقراطية”، وأن “إسرائيل” ليست مشروعاً عنصرياً، وأن جميع اليهود ينددون بإجراء مقارنات بين السياسة الإسرائيلية والسياسة التي كان ينتهجها النازيون.
والحقيقة هي أن “إسرائيل” عبارة عن مجتمع غاية في انعدام التجانس وبداخله انقسامات عميقة، تُسمع في أوساطه سلسلة واسعة من الآراء حول جميع هذه القضايا – ولديه ثقافة سياسية يغلب عليها طابع الجدل الحاد والنقاشات التي لا تعرف الحدود ولا المحرمات.
يستمر اليمينيون الإسرائيليون في النفي بشدة أن تكون إسرائيل دولة أبارتهايد ويرفضون أي مقارنة بنظام الأبارتهايد الذي كان قائماً في جنوب أفريقيا
كثير من الإسرائيليين من ذوي الميول اليسارية يعتبرون “إسرائيل” مشروعاً عنصرياً. على سبيل المثال، كانت منظمة بيتسيلم، وهي منظمة حقوق إنسان معتبرة وتحظى بمستوى عال من الاحترام، قد نشرت ورقة تعبر عن موقفها المبدئي في كانون الثاني/ يناير تحت عنوان “نظام تفوق يهودي من نهر الأردن إلى البحر المتوسط: إنه أبارتهايد”.
وأعلنت فيه: “كل المساحة التي تسيطر عليها إسرائيل بين نهر الأردن والبحر المتوسط يحكمها نظام واحد الهدف منه هو تحقيق وإدامة تفوق مجموعة واحدة فوق أخرى. ومن خلال هندسة هذا الحيز جغرافياً وسكانياً وطبيعياً، فإن النظام يمكن اليهود من العيش في مناطق متواصلة بحقوق كاملة، بما في ذلك حق تقرير المصير، بينما يعيش الفلسطينيون في وحدات منفصلة ويتمتعون بحقوق أقل”.
يستمر اليمينيون الإسرائيليون في النفي بشدة أن تكون “إسرائيل” دولة أبارتهايد ويرفضون أي مقارنة بنظام الأبارتهايد الذي كان قائماً في جنوب أفريقيا. ولكن لا يوجد قانون يحظر نعت “إسرائيل” بأنها دولة أبارتهايد، وكثيراً ما يطلق عليها التقدميون الإسرائيليون هذا الوصف. كما أن القانون الإسرائيلي لا يحظر مقارنة “إسرائيل” بألمانيا النازية، ومع أن مثل هذه المقارنات أقل شيوعاً في الخطاب السياسي داخل “إسرائيل” إلا أنه يتم التعبير عنها من حين لآخر في المقالات الصحفية وحتى من قبل السياسيين.
الشيطان في التفاصيل
ولا يقل المجتمع اليهودي العالمي تنوعاً وشقاقاً، ومن المفارقة العجيبة أن التعامل مع اليهود كما لو كانوا مجموعة متجانسة يدخل في حقيقة الأمر ضمن معاداة السامية، والمعادون للسامية هم من يخفقون في التمييز بين مختلف أنواع اليهود، ويصرون على رؤيتهم جميعاً كما لو كانوا كتلة واحدة محصورة في مكان واحد. وعلى هذا الأساس تنبأ تيودور هيرتزل، مبتدع فكرة الدولة اليهودية، بأن “المعادين للسامية سيغدون أكثر أصدقائنا نفعاً لنا”.
يكمن الشيطان في التفاصيل، أو في حالة التحالف الدولي لذكرى الهولوكوست في الأمثلة المضروبة. إذا ما أردنا الدقة، فثمة تعريفان اثنان: الجملتان الافتتاحيتان المنقولتان أعلاه وقائمة من أحد عشر مثالاً. لا يمكن التأكيد على هذه النقطة بما يكفي من القوة: إنها حكاية نصين اثنين.
من أجل تحقيق الإجماع على الوثيقة ضمن التحالف الدولي لذكرى الهولوكوست، كان من الضروري فصل التصريح عن النماذج الإيضاحية التي تبعته. إلا أن الأشياع المناصرين لـ “إسرائيل” لطالما أعطوا الانطباع الخاطئ بأن الأمثلة المضروبة جزء لا يتجزأ من التعريف ذاته. وجرت العادة لديهم على حذف الصفة المقيدة التي تعتبر ذلك مجرد مسودة – “تعريفاً عملياً”.
وكما أشار عدد لا يحصى من المعلقين والمحامين والعلماء المتخصصين في موضوع معاداة السامية، فإن التعريف العملي الذي تبناه التحالف الدولي لذكرى الهولوكوست ركيك الصياغة، متهافت داخلياً، وغامض لدرجة البؤس، وعرضة لأن يساء استخدامه سياسياً، وهو بالمجمل غير صالح للاستخدام. كما أنه لا يفي بمتطلبات التعريف الأولية، ألا وهي تعريف الشيء.
يمكن تعريف معاداة السامية بكل بساطة بأنها العداء لليهود لمجرد أنهم يهود، أما الصهيونية فهي عقيدة قومية سياسية كانت تطالب بإقامة دولة يهودية
ينص التعريف على أن “معاداة السامية هي انطباع معين عن اليهود” ولكنه يخفق في التصريح بماهية ذلك الانطباع. لم يمر بي عبر خمسين عاماً قضيتها في التدريس الجامعي تعريف أكثر تفاهة أو عطالة من ذلك. ولكن على الرغم من تفاهته إلا أنه ليس حميداً. ولذك فقد رفض كينيث ستيرن، الذي تزعم صياغة التعريف، استخدامه قاعدة لتحديد خطاب الكراهية داخل حرم الجامعة، وقال إن من شأن ذلك أن “يضر ليس فقط بأنصار الفلسطينيين بل وكذلك بالطلبة اليهود وهيئات التدريس، بل وبالأكاديمية نفسها”.
معاداة السامية مقابل معاداة الصهيونية
ما يفعله التعريف غير الملزم الذي خرج به التحالف الدولي لذكرى الهولوكوست، بمساعدة الأمثلة التي يضربها، هو نقل التركيز من معاداة السامية الحقيقية إلى معاداة الصهيونية، تلك الظاهرة المحترمة تماماً والآخذة في التنامي والانتشار، بحيث باتت معاداة الصهيونية توصف من قبل الجهات المهنية المعروفة بمناصرة “إسرائيل” بأنها “معاداة السامية الجديدة”. ولذلك، فإن من الأهمية بمكان التمييز بين الأمرين بشكل واضح لا لبس فيه.
يمكن تعريف معاداة السامية بكل بساطة بأنها “العداء لليهود لمجرد أنهم يهود”، أما الصهيونية فهي عقيدة قومية سياسية كانت تطالب بإقامة دولة يهودية وهي الآن تدعم استمرار إسرائيل كدولة يهودية. وبذلك تكون معاداة الصهيونية هي معارضة السمة الإقصائية لدولة “إسرائيل” ومعارضة السياسات التي تنهجها هذه الدولة، وخاصة احتلالها للضفة الغربية. بينما تتعلق معاداة السامية باليهود في كل مكان، فإن معاداة الصهيونية لا تتعلق إلا بـ “إسرائيل” وحدها.
إن وثيقة التحالف الدولي لذكرى الهولوكوست بمجملها عرضة للاستغلال وسوء الاستخدام السياسي من حيث أنها تفتح الباب على مصراعيه أمام دمج معاداة الصهيونية، التي هي أمر مشروع، في معاداة السامية، والتي هي أمر شنيع. إن ما يقوم به أنصار “إسرائيل” والمدافعون عنها، الذين لا يكفون عن الترويج للوثيقة والمطالبة بتبنيها، هو الخلط عن عمد وسبق إصرار بين الأمرين، وبشكل روتيني.
ولذلك فإن من يكتفي بانتقاد التعريف لبلاهته يسيء فهم نقطة مركزية، ألا وهي أن بلاهة التعريف، في هذا المسعى، إنما تكسبه ميزة سياسية، حيث إنها تمكن المدافعين عن “إسرائيل” من تحويل التعريف إلى سيف يشهر في وجه معارضيهم، وخاصة ممن ينتسبون من اليسار، وتمكنهم كذلك من تصوير ما يعتبر في معظم الحالات انتقاداً وجيهاً للسلوك الإسرائيلي على أنه شيطنة لدولة “إسرائيل” ونزع للشرعية عنها.