سيجري البابا فرنسيس زيارته للعراق الجمعة 5 من مارس/آذار 2021 رغم استمرار خطر جائحة كورونا ووقوع بعض الخروقات الأمنية مثل تفجير ساحة الطيران وسط العاصمة بغداد وقصف قاعدة عين الأسد في الأنبار، لكن الزيارة ما زالت قائمة لتحقيق حلم فاتيكاني قديم، فحين تصل طائرته إلى مطار بغداد سيحقق فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية التي يزيد اتباعها على 1.3 مليار حول العالم، حلمًا قديمًا لسلفه البابا يوحنا بولس الثاني الذي خطط عام 2000 لزيارة مماثلة، بهدف الحج إلى مسقط رأس النبي إبراهيم، لكنها لم تكلل بالنجاح بسبب معوقات الحصار المفروض على العراق في ذلك الوقت وحملة المعارضة العراقية التي أدلت إلى إلغاء زيارة البابا للعراق تحت حكم نظام ديكتاتوري.
وبعد نحو 20 عامًا، وجه الرئيس العراقي برهم صالح، دعوةً رسميةً للبابا لزيارة البلاد وبدعم من شخصيات كنسية من داخل العراق ليتم تنظيم الزيارة التاريخية الأولى من نوعها لتشمل عددًا من المدن العراقية هي العاصمة بغداد والنجف التي يتوقع أن يقابل فيها المرجع الشيعي الأبرز السيد علي السيستاني، إضافة لأربيل والموصل القديمة التي سيصلي فيها على بقايا أحد أقدم كنائس الشرق وهي كنيسة حوش البيعة، فيما تبقى المحطة الأهم في الزيارة مدينة أور الأثرية مسقط رأس أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
الحج لأرض إبراهيم
وصف البابا فرنسيس بكلمة مسجلة وموجهة للعراقيين طبيعة زيارته للعراق بـ”الحج” وأن الرغبة تدفعه للصلاة مع الأخوة والأخوات من الديانات الأخرى تحت راية أبينا إبراهيم – عليه السلام – الذي يجمع في عائلة واحدة المسلمين واليهود والمسيحيين.
فيما أكد أن زيارته تحت شعار “أنتم جميعكم أخوة” وهي اقتباس من إنجيل متى وتحمل عنوانًا مشابهًا لعنوان رسالته الحبرية الأحدث “جميعنا أخوة”، الصادرة في خريف 2020.
فيديو رسالة البابا فرنسيس للعراقيين
كما عرج أيضًا على أن زيارته وحجه سيشمل نينوى (الموصل حاليًّا) موطن دعوة نبي الله يونس أو كما يطلق عليه في المسيحية يونان التي تردد صدى دعوته لتنقذ المدينة من الدمار وهي رسالة ثانية عن المشتركات بين الأديان الثلاث التي تؤمن بقصة يونان أو يونس وقريته الناجية من العذاب.
وختم رسالته بالعودة للحديث عن إبراهيم الذي بدأ مسيرته قبل آلاف السنين وعلينا اليوم إكمال هذه المسيرة بنفس الروح وأن نجوب دروب السلام معًا.
تكرار الحديث عن إبراهيم
لم يكن حديث البابا فرنسيس عن أرض إبراهيم والسير على طريقه حدثًا جديدًا أو دعوةً خاصةً بزيارته للعراق، فقد ترددت الدعوة للعودة للإبراهيمية كنوع من أنواع الحلول للتقارب بين الأديان كونه قاسمًا مشتركًا لا خلاف عليه، مما يساعد على نبذ التطرف والتناحر والاقتتال بين الأديان الثلاث التي تشكل بمجموعها 54% أي ما يزيد على نصف سكان العالم.
حيث يرى أتباع جميع الديانات الإبراهيمية الرئيسية نسبًا مباشرًا إلى إبراهيم، على الرغم من أن هذا النسب في المسيحية يُفهم من الناحية الروحية ومن هنا كان إبراهيم منطلق الدعوة لتوحيد المسير بين الأديان الثلاث مذهبًا قديمًا وليس بالجديد.
لكن استغلال هذه الدعوة للتقارب يراها البعض نوعًا من أنواع استغلال الدين لصالح سياسة التطبيع، حيث أُطلق على اتفاق التطبيع بين دولة الإمارات العربية المتحدة و”إسرائيل” اتفاق إبراهيم! دلالة على الجذر المشترك بين اليهود والعرب.
وتلعب الإمارات في الفترة الأخيرة دورًا مهمًا في الترويج لمفهوم الإبراهيمية كحل لإرساء السلام بين الأديان، فشيدت مبنى “بيت العائلة الإبراهيمية” في جزيرة السعديات بالعاصمة أبو ظبي، مكون من حديقة مشتركة بين ثلاثة مباني هي: كنيسة مسيحية ومسجد للمسلمين ومعبد لليهود، بالإضافة لمبنى رابع هو مركز ثقافي يتوقع افتتاحه العام المقبل.
وفكرة المبنى مقتبسة حسب القائمين عليه من وثيقة “الأخوة الإنسانية” التي وقّع عليها شيخ الأزهر أحمد الطيب والبابا فرنسيس، بابا الفاتيكان في الإمارات، في فبراير/شباط 2019.
كما رعت الإمارات توقيع اتفاقية بين نحو ألف شخصية من الديانات الإبراهيمية الثلاثة عام 2019 خلال منتدى تعزيز السلم سميت هذه الاتفاقية أو الميثاق بـ”حلف الفضول الجديد” الذي يهدف لتعزيز مفهوم التقارب بين الديانات الإبراهيمية وتعزيز المشتركات الأخلاقية، كل هذه التحركات رغم جمال شعاراتها المرفوعة تدعو للخوف من الاستغلال السياسي للموضوع.
تقول الدكتورة نعيمة عبد الجواد في مقال “الإبراهيمية الجديدة وخدعة التسامح”: “مراكز الدبلوماسية الروحية تُرسخ في الأذهان فكرة أن الأديان القائمة في شكلها الحاليّ ما هي إلا مصدر للمتاعب، ويجب إعادة تأويلها بشكل مسهب لدرجة تمنح الدين وقضاياه ميوعة لا يمكن بعدها تمييز قيم دين عن الآخر”.
وتبين عبد الجواد خطورة الأمر فتقول: “من خلال نشر قيم الدين الإبراهيمي الجديد، لن يجد الأفراد غضاضة في تقبل بسط دول أخرى نفوذها عليهم، حتى إن كانت محفورة في الأذهان كدولة معادية”.
الدعوة لوحدة الأديان ليست المشكلة
قبل أكثر من قرن نشر أحد أعلام التجديد في عصر النهضة العربية والإسلامية الحديثة المفكر جمال الدين الأفغاني مقاله بعنوان: “وَحْدَة الأديان وانقسامات تُجَّارِها”، ينظر فيه الأفغاني إلى الأديان الإبراهيمية نظرةً فيها واحديَّة.
حيث حاول الجمع بين الأديان الثلاث في رؤية تتوسَّل وحدة المحتوى توسلًا ظاهرًا، فيرى أنها لا يصح أن تتباين في جوهرها، لتوافقها في المقصد والغاية، ثم يحاور بعد ذلك عن فكرة الدين الخالص، والدين الخالص عنده ليس دينًا واحدًا أو دينًا بعينه، لكنه الدين الذي تتمُّ له الغلبة والظهور الموعود به، لا دين اليهود أو النصارى أو الإسلام إذا بقوا أسماء مجردة.
حدث زيارة البابا سيكون مهمًا للعراق الذي يعاني شعبه الكثير وهو مهم ونافع لو كانت الحكومة العراقية تحسن استغلال الفرص وتبني على أساسها رؤية لسياسة تجلب المصالحة للبلاد
وهذا الطرح على اختلافنا أو اتفاقنا معه ليس المشكلة، لكن وجوده ضمن أجندة سياسية تسوقها عدد من الدول يدفعنا لإعادة النظر وقراءة المشهد مرارًا وتكرارًا والانتباه لأدق التفاصيل.
عودة لزيارة البابا فرنسيس
لا شك أن حدث زيارة البابا سيكون مهمًا للعراق الذي يعاني شعبه الكثير وهو مهم ونافع لو كانت الحكومة العراقية تحسن استغلال الفرص وتبني على أساسها رؤية لسياسة تجلب المصالحة للبلاد.
فإقرار شخصية دينية بثقل البابا للعراق بأنه موطن دعوة إبراهيم وصدى دعوة يونان يمنح العراق فرصة لتسويق ذاته قبلة للحجيج ومزارًا لمواقعه الأثرية المهملة ودعوة للاستقرار في أرض الأنبياء وزاوية لتسليط الضوء على إعادة الإعمار في المدن المدمرة، فهل تستمع الحكومة العراقية لهذا النداء وتستغل هذه الفرصة التي قد لا تتكرر في المستقبل المنظور على أقل تقدير؟!