لم تمنع التحديات التي فرضها القمع الوحشي للثورة السورية وما أحاله من حرب وشتات، المرأة هناك من المشاركة في الحراك الطامح للتغيير الجذري والإسهام بتكوين الموازين السياسية والاجتماعية، فلا يخلو حديث السوريين والسوريات اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الأحاديث واللقاءات عن ناشطات وصانعات أفلام وفنانات سوريات يمثّلن حالة من نوستالجيا الثورة السورية.
وفي سياق سعي الثائرات بعد تطور الأحداث وبدء موجة اللجوء نحو دول الجوار وأوروبا وخاصة ألمانيا، انتقل جزء كبير من العمل النسوي مع صاحباته ليتمركز فيها ويطورن من مشاريعهن وأفكارهن نظرًا إلى أن احتياجات المرأة السورية في بلاد اللجوء بوجود مجتمع جديد وتحديات جديدة تختلف تمامًا عن مجتمعها الأم، لذا كان لا بد من وجود ناشطات تعيد قياس وفهم هذه الاحتياجات وتمد يد العون، في مختلف النواحي القانونية والاجتماعية والدعم النفسي والمعنوي للناشطات أنفسهن وللنساء عمومًا.
في هذا التقرير نحكي قصص وتجارب ثلاث نساء وجدن أنفسهن في المنفى، ألمانيا تحديدًا، أسست كل واحدة منهن منظمة أو مؤسسة لدعم النساء اللاجئات وتمكينهن.
أصوات نسائية في المنفى
وصلت ياسمين مرعي إلى ألمانيا في بدايات عام 2016، وكان هدفها منذ وصولها إنشاء مشروعها وفريق عملها الخاص، وبمساعدة معارف لها تمكنت من الحصول على تصريح قانوني لدخول مراكز اللجوء الموجودة ضمن حي كرويتسبيرغ في برلين.
وذلك لأنها كانت تسمع من المحيطين بها الكثير عن كلمة “اندماج”، وبعد زيارتها ولقائها بعدد من اللاجئين واللاجئات السوريين والسوريات، وجدت حسب وصفها “كلمة اندماج كلمة ظالمة، لأن مسارها مسار واحد، فنشأت عندي نظرية وأردت إثباتها، وهي أن الشعب الألماني وحتى الحكومة الألمانية لا يمتلكون المعرفة الكافية والعميقة بنا كسوريين، ليس كأفراد وحسب وإنما كجماعة وثقافة والأسباب التي أودت بنا للجوء إلى ألمانيا”.
صورة شخصية لياسمين مرعي في ألمانيا
بدأت العمل على ما أسمته “مساحة مشتركة” كان هدفها أن تكون البديل المتخيل لكلمة اندماج، وفضاءً يمكن للسوريات أن يلتقين من خلاله ويتواصلن دون الحاجة لتخبئة ثقافتهن أو إخفائها.
تطور العمل مع الوقت حتى أصبحت منظمة وتم تغيير الاسم ليصبح “نساء من أجل مساحات مشتركة“، حيث كان من المهم جدًا بالنسبة لها أن يُنتج شيء من داخل هذه المساحات ويُقدم للمجتمع الألماني بالدرجة الأولى والنشطاء وصناع القرار بالدرجة الثانية، وأول نشاط كان إنتاج كتيّبات من قصص ونصوص ورسائل قصيرة عنوانها “أصوات نسائية في المنفى“، تكتبها المشاركات بأنفسهن عن مواضيع متعلقة بتجربة اللجوء.
تقول ياسمين: “أفضل طريقة لصناعة ذاكرتنا الخاصة والتعبير عن أنفسنا هي الكتابة الفردية، فبدأت فكرة أصوات نسائية في المنفى، اعتبرت أن كل نص ستكتبه امرأة هو صوت ورسالة ترد بها على التهم والمطالبات المغلوطة الصادرة بحقها من المجتمع السوري والألماني والصحافة والجميع”.
تنقسم ورشات الكتابة لخمسة أيام، في الثلاثة أيام الأولى تشارك النساء مواضيع معينة تطرحها المنظمة مثل فرص العمل عند النساء المتقدمات بالسن وتحولات العلاقات الأسرية في ظل اللجوء وما شابه، من ثم في اليوم الرابع والخامس ينتقلن للكتابة التي يعبرن من خلالها عن رأيهن تجاه هذه المواضيع، فيما تشرف ياسمين على الجانب التحريري.
صور من ورشة “أصوات نسائية في المنفى” التي أقيمت في أكتوبر/تشرين الأول 2020
تترجم النصوص إلى اللغة الألمانية وتقام ندوات لقراءتها مع عدد من المدعوات الألمانيات ويناقشن محتواها في محاولة لبناء جسور بين الطرفين.
تقول ياسمين بمناسبة صدور الكتيب الرابع منذ أسابيع قليلة: “هذه المساحات في الواقع تشبهنا، وبناءً على ذلك قد تكون أدوات تساعدنا على التغيير ضمن دوائرنا السورية، أما القوالب الجاهزة التي تأتي إلينا من الخارج لا تناسبنا ولا تنطبق علينا وهو أمر غير إنساني أن نجلب قوالب جاهزة ونجبر الناس على مراعاتها، لذلك كان شرطنا أن نخلق نحن القوالب التي تشبهنا وتناسبنا”.
من نساء الزبداني إلى شبكة “أنا هي”
شاركت نور برهان، منذ بداية الثورة في المظاهرات السلمية، وكانت واحدةً من المتظاهرات في مظاهرة الحميدية الشهيرة في دمشق بتاريخ 15 من مارس/آذار 2011، من ثم انتقل نشاطها الثوري ليتركز ضمن مدينتها، الزبداني، حيث واجهت النساء في بداية الأمر تحديات فيما يخص مشاركتهن بالمظاهرات والحراك الثوري بشكل عام، حتى قررت مع مجموعة من النساء تشكيل مجموعة نسائية تهدف لمواجهة رفض المجتمع لمشاركتهن في الثورة، التي سميّت فيما بعد بـ”نساء الزبداني”.
تقول نور: “لم نكن حينها نملك الكثير من الخبرة في مصطلحات العمل، لكن فيما بعد تعرفنا على معنى المجتمع المدني ومنظمات المجتمع المدني فقررنا تنظيم أنفسنا ضمن منظمة نسائية صغيرة تواجه تنميط دور النساء وترفض حصر عمل المرأة ضمن نطاق قضايا النساء فقط”.
شاركت نساء الزبداني فيما بعد بالكثير من الأعمال الإغاثية والطبية على المستوى المحلي، وتوسع نطاق إنتاجهن ومشاركتهن حتى أنشأت مجموعة منهن في نهاية عام 2011 مجلة أوكسجين التي كان محتواها يكتب “بشكل تطوعي وشبه بدائي نسبةً للمعايير الاحترافية، لكن كانت بالنسبة لنا صدى لأصوات النساء، حيث كنا نطبعها ونوزعها على المتظاهرين في الساحات” حسب نور.
ومع توسع النشاط تم التواصل مع مجموعات أخرى في مناطق مختلفة على امتداد الأراضي السورية، حيث كانت هذه الحلقات تناقش فيما بينها أشكال المشاريع التي ترى أنها تناسبها بهدف “العمل على أن تشارك النساء في صنع القرار وقيادة ما يحصل على الأرض خلال الثورة، فوضعنا هذا النهج محاولة للاستغناء عن خطة التمويل التي تفرض أشكالًا معينة من المشاريع، وهذا ما نرفضه تمامًا”.
دفعت العديد من الضغوطات الأمنية والتطورات العسكرية في سوريا نور وغيرها من الناشطات في المشروع إلى الخروج هربًا نحو تركيا، وبعد الاستقرار في تركيا قررت نور مع مجموعة من النساء أن يؤسسن شبكة “أنا هي“، التي كانت حسب نور “قائمة منذ عام 2013 لكن دون هيكلية تأسيسية واضحة تربط فيما بيننا”.
تابعت شبكة “أنا هي” عملها كما كان سابقًا، لكنه اتسم بعد التأسيس الرسمي للشبكة بشكل من التنظيم والتطور، فقد بدأت المجموعات النسائية العمل على حلقات بحثية تسلط الضوء على مشاكل التمييز الجندري في المجتمع والقانون السوري، تنشر على الموقع الرسمي للشبكة، بالإضافة إلى إقامة حملات على مواقع التواصل الاجتماعي وأيضًا ميدانيًا لمناهضة العنف ضد المرأة ووصمة العار ضد المعتقلات السابقات وغيرها من المشاكل التي تواجهها النساء حاليًّا في سوريا.
صورة لحلقة نسائية من شبكة “أنا هي” في إدلب
يختلف عمل “أنا هي” عن الكثير من الأمثلة الأخرى، فمع خروج وتهجير عدد من كوادرها إلى خارج سوريا لم تتوقف عن عملها في الداخل، بل أسست حلقات نسائية أيضًا في تركيا نظرًا لعدد اللاجئين السوريين الكبير فيها، حيث تسعى حاليًّا أيضًا لإقامة حلقات جديدة في ألمانيا وستكون البداية تحديدًا من مدينة دوسلدورف.
الناشطات بحاجة للدعم أيضًا!
تحمل مي سعيفان، مؤسسة جمعية “نسوة”، وجهة نظر وفلسفة خاصة بنشاطها، وتجد أن الناشطات النسويات يحتجن أيضًا للدعم المعنوي نتيجة للجهود المستمرة التي تقدمها الناشطة في مجال عملها دون الانتباه إلى حاجاتها المعنوية والنفسية، ما دفع جمعية “نسوة” للتركيز في جزء كبير من مشروعها على دعم الداعمات أنفسهن.
فقد أقامت جمعية نسوة عدة ورشات واجتماعات التقت من خلالها العديد من النسويات الناشطات إما على الصعيد الثورة السورية وإما على الصعيد النسوي بشكل عام، حملت هذه اللقاءات طابعًا خاصًا ونوعًا من الحميمية بسبب تنوع النشاطات التي تقام ضمن هذه الاجتماعات، ابتداءً من اجتماعهن مع كورال حنين الغنائي، حيث تدربن معًا على الغناء، وانتهاءً بورشة الدفاع عن النفس وملتقى “دعم الداعمات” الذي التقت خلاله عددًا كبيرًا من الناشطات النسويات وتبادلن الخبرات والتخطيط بين بعضهن البعض.
أحد اللقاءات التي أقامتها جمعية نسوة ضمن نشاط “دعم الداعمات” في أكتوبر/تشرين الأول 2020
توفر هذه اللقاءات نوعًا من الأجواء الترفيهية نظرًا لأن المشاركات غير مطالبات بأي التزامات، بل تعتمد على التعارف وتبادل الخبرات والأفكار، وبالتالي خلق تعاون بين الناشطات.
وترى مي أن مشروع “نسوة” قائم على تطبيق المبادئ النسوية خلال تفاصيل عملها، فعلى سبيل المثال ركّزت الجمعية اهتمامها على عدم إقصاء الناشطات الأمهات، وكان ذلك من خلال تأمين رعاية لأطفال المشاركات، ما يتيح لهن اصطحاب أطفالهن بأعمارهن المختلفة معهن، ولا يشعرن بأن الأطفال قد يشكلون عائقًا يمنعهن من أن يكن ناشطات في العمل النسوي، لذا تسعى نسوة للإشارة إلى موضوع وجود مربية أطفال في نشاطاتها.
قد تختلف أشكال النشاطات النسوية والنسائية وطريقة طرحها للمواضيع وحتى في تطبيقها للنشاطات، نظرًا لاختلاف البيئة والظروف والأولويات، إلا أن الهدف منها دائمًا يصبّ في بحر واحد ألا وهو إتاحة الفرص للنساء ليظهرن قدراتهن في كل المجالات والقطاعات الخاصة والعامة، وإشراكهن في الحياة المدنية والسياسية وزيادة فعاليتهن حتى يستطعن ضمان حياة آمنة حرة وكريمة لأنفسهن داخل بلدهن وخارجها.