من كان يتابعُ مقومات العلاقات الدولية بين الثلاثيّ مصر والسودان وأثيوبيا خلال الأعوام الأخيرة، سيندهشُ كثيراً من المتغيرات المتسارعة، والانقلابات، التي حدثت في المشهد بين هذا المثلث، والتي كان آخرها في الأيام الماضية، ومن المنتظر أن تؤسس لواقع جديد مختلف عن ذي قبل.
فقد كان معروفا أن بين القاهرة والخرطوم خلال فترة حكم مبارك ما صنع الحداد، إذ يقبع في السودان نظام سياسيٌ هجين بين الشيوعية والإسلامية، يرى في القاهرة، وترى فيه أيضاً، العداء أكثر من الفرص، بالرغم من كل المشترك المادي والرمزيّ بين البلدين.
وفي ظلِّ هذا العداء بين الخرطوم والقاهرة، نشأ تحالفٌ ثنائيّ بين الخرطوم وأديسْ أبابا، فقد اتهم مبارك النظامين بالتخطيط لاغتياله من قبل، وحتى بعد الإطاحة بالبشير في السودان، بقيت مصر منبوذةً من الثنائيّ في كلّ الملفات، بما في ذلك سدّ النهضة، حيث رفع البلدان في وجه القاهرة شعار “أخت بلادي”، على أساس عداء النظام المصري للثورات عموماً بما في ذلك الثورة السودانية، وكون نظام أبي أحمد نظاماً ثورياً يصلح لرعاية اتفاق المرحلة الانتقالية بالخرطوم.
باتت القاهرة أكثر استعداداً لتقديم الدعم للسودان، في ظلّ وجود مجلس عسكري على رأس السلطة بالخرطوم
ولكنَّ الوضع تغيّر كثيراً في الأسابيع القليلة الماضية، فمن جهةٍ قد أفلَ نجم أثيوبيا وبريقها بعد عجزها عن استيعاب مشاكلها الداخلية وتزايد زلاتها الخارجية، ونما في السودان تيارٌ فنيّ وسياسيّ يعيد تقييم الملف الأكثر خطورة، سد النهضة، على أساسٍ موضوعي بعيداً عن “النكايةِ” في مصر.
ومن جهةٍ أخرى باتت القاهرة أكثر استعداداً لتقديم الدعم للسودان، في ظلّ وجود مجلس عسكري على رأس السلطة بالخرطوم، يمكن أن يتفهم شواغلَ القاهرة كما يقول مراقبون.. فما هي المؤشرات الأخيرة على التحالف الجديد بين مصر والسودان؟ وما هو سياقه؟
زيارات وتنسيق
شهدت الساعات الأخيرة ارتفاعا في وتيرة التنسيق المشترك بين مصر والسودان، والمعلنُ صراحة أنه تنسيقٌ موجه السياسات الأثيوبية في ملف سدّ النهضة الذي تريد أديس أبابا ملء المرحلة الثانية منه خلال يوليو/ تموز المقبل، دون التوصل إلى اتفاق مع دولتي المصبّ.
تبلور هذا التنسيق في زيارة الأكاديمية السودانية والشخصية رفيعة المستوى، مريم الصادق المهدي، وزيرة الخارجية السودانية، إلى القاهرة، حيث شهدت الزيارةُ اهتماما كبيرة وحفاوة بالغة من الأوساط الدبلوماسية في القاهرة.
الوفد السودانيّ الذي ترأستهُ الصادق المهديّ في القاهرة التقى كبار الشخصيات في النظام المصريِّ، وعلى رأسها عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية، ووزير الخارجية سامح شكري، حيث أطلق الوزيران يوم الثلاثاء “إعلانا مشتركاً” حيال أزمة سدّ النهضة.
أهمُّ ما ورد في الإعلان بعد معاودة التأكيد على ضرورة التوصل لاتفاق قانونيّ ملزم حول ملء وتشغيل السد بما يحفظ الحقوق المائية للدولتينِ إلى جانب أثيوبيا ويحدّ من أضرار المشروع على دولتي المصبّ، كان تصريح القاهرة أخيراً بإعلان دعم الاقتراح السّودانيِ الخاصّ بتوسيع رعاة المفاوضات مع أثيوبيا.
ترى السّودانُ منذ مدة أنّ فكرة توسيع صلاحيات المراقبين الدوليين بشكل عام، والتي تبلورت في الاقتراح الأخير الخاص بتشكيل رباعية دولية تضم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة إلى جانب الاتحاد الأفريقيّ برئاسة الكونغو في دورته الجديدة، أفضل حلّ ممكن لإنقاذ المفاوضات بعيداً عن اللجوء إلى مجلس الأمن مجدداً أو التصعيد السياسيّ وغير السياسيّ، وكان الجديد هو موافقة القاهرة على هذا المقترح بعد رفضه سابقاً.
اللُّغة المشتركة بين القاهرة والخرطوم لم تظهر في تعضيدِ الأولى الاقتراح الفنيّ للأخيرةِ فقط، بل في الاتفاق الثنائيِّ على أنّ شروع أثيوبيا في الملء الثاني دون التوصل إلى اتفاق يعني لدولتيّ المصبّ صراحةً:”تهديدا مباشراً للأمن المائي، لاسيما فيما يتعلق بتشغيل السدود السودانية وتهديد حياة 20 مليون مواطن سوداني، وخرقاً لاتفاق إعلان المبادئ المبرم بين الدول الثلاث في الخرطوم 23 مارس/ آذار 2015″، كما قررا معا إحاطة الدول العربية بمستجداتِ المفاوضات، بما في ذلك اللجنة العربية المشكلة لمتابعة هذا الملف الحيويّ.
قضية سد النهضة قضية سياسية واجتماعية وفنية، تحوي فرصا ومخاطر، ومن الضروري أن تركز الأطراف المعنية على تعظيم الفرص وتقليل المخاطر
ومن المقرر بعد هذه الزيارة التي صرح خلالها الرئيس المصري للوزيرة السودانية بأن أمن السودان جزء لا يتجزأ من أمن مصر، أن يزور السيسي الخرطوم يوم السبت المقبل، في زيارةٍ ستشهدُ الاجتماع بالفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السياديّ السودانيّ للتباحث حول ملف سد النهضة والتنسيق الثنائي.
تعاون عسكري غير مسبوق
يقول البلدان، ومصر بالأخصّ، إن قضية سد النهضة قضية سياسية واجتماعية وفنية، تحوي فرصا ومخاطر، ومن الضروري أن تركز الأطراف المعنية على تعظيم الفرص وتقليل المخاطر، حفاظاً على الأمن الإقليميّ وحقوق الشعوب في التنمية.
ومع ذلك، لا تُخفي القاهرة استعدادها السياسيّ والفنيّ لاستخدام القوة العسكرية لردع أثيوبيا عن تهديد مصالحها الحيوية في المجال المائي، غير أنها تحرص على استظهارِ كون هذا الخيار غير مطروح، دون التنسيقِ المعلن مع السودان على كل المستويات.
في ضوء هذه الاعتبارات التي تعدّ محصلةً تحليلية لخطاب وسلوك القاهرة خلال الفترة الأخيرة، يمكن قراءة زيارة رئيس أركان الجيش المصريّ الفريق محمد فريد إلى السودان على رأس وفد عسكريٍّ رفيع المستوى، قابل خلالها نظيره الفريق أول ركن محمد عثمان الحسين.
بحسب مصادر مؤكدة، فقد وقع الطرفان اتفاقيةً عسكرية لم يكشف عن مضمونها أكثر من كونها تستهدف:”تحقيق الأمن القوميّ للبلدين، وبناء قواتٍ مسلحة مليئة بالتجارب والعلم”، وأنها تأتي في ضوء “سعي مصر إلى ترسيخ الروابط والعلاقاتِ مع السودان في كافة المجالات، خاصة العسكرية والأمنية، والتضامنِ كنهجٍ إستراتيجيّ تفرضه البيئة الإقليمية والدولية”.
وتعتبر هذه الزيارةُ التي شهدت انعقاد اللجنة الفنية العسكرية الثنائية وما سيأتي لاحقا من تعاون في هذا الصدد بناءً على الحدث الأهمِّ في نهاية أكتوبر/ تشرين الماضي، حينما قام جُلّ المجلس العسكري المصريّ بزيارة رفيعة التقوا خلالها نظراءهُم في السودان، وبحثُوا ما يمكن تسميته بـ”تدشين شراكةٍ عسكرية متكاملة تبدأ بشكل عاجل”.
عقب هذه الزيارةِ التاريخية مباشرةً، زار قائد قوات الدفاع الجوي السوداني الفريق ركن عبد الخير عبد الله ناصر نظيره المصري، في الرابع عشر من نوفمبر/ تشرين تحديداً، تفقدا خلالها مقرات هذا التخصص في الجيش الثاني الميداني، وحضراْ معا تدريباً عمليا بالذخيرة الحية.
وفي التاسع عشر من نوفمبر/ تشرين من نفس الشهر، دشن سلاح الجو بالبلدينِ مناورات “نسور النيل” التي انعقدت في السودان بمشاركة القوات الخاصة، وشهدت التدريب على الهجوم على أهداف حيوية بطائرات شرقية من طراز واحد (ميج – 29)، والتي وصفها قائد الأركان المصري بأنها:”يوم عزيزٌ على نفوسنا جميعا لما يحمله من معان ودلالات تؤكد وحدة الهدف والمصير والرؤية والإرادة للعمل المشترك، حيث نعاينُ ونحصدُ باكورة ثمار التنسيق والتعاون على إطلاق مرحلة جديدة ونوعية من تاريخ العمل العسكري المشترك”.
يبدو من نمط التقارب عاملان أولهما أنّ الاندفاع من القاهرة والترحيب من السودان، وأنّ القاهرة تبحث عن تحالف مستدام مع السودان يتجاوز ملف سد النهضة
وفي اليوم التالي مباشرةً العشرين من نوفمبر تشرين، وقع وزير الإنتاج الحربيّ المصري محمد أحمد مرسي مع نائب المدير العام لمنظومة الصناعات الدفاعية السودانية العميد ركن المعتصم عبد الله الحاج، “مذكرة تفاهم في مختلف مجالات التصنيع” بعد زيارة المسؤول السوداني كل مصانع الإنتاج الحربي المصري تقريباً.
أسباب التقارب
لاشك في أنّ قضية سدّ النهضة هي السبب الأهمُّ للتقارب السياسي والعسكريّ بين البلدين في الوقت الحالي، ولكن يبدو من نمط التقارب عاملان أولهما أنّ الاندفاع من القاهرة والترحيب من السودان، وأنّ القاهرة تبحث عن تحالف مستدام مع السودان يتجاوز ملف سد النهضة.
يؤكد على هذه الحقيقة إعلاميون مقربون من النظام في مصر، ولكن وبشكل أوضح يقول رئيس أركان الجيش المصري محمد فريد أن الزيارات المتبادلة تأتي في سياق:”إطلاق مجالات جديدة تناسب خطورة التحديات الراهنة وتلبي طموحات البلدين في الأمن والاستقرار والتنمية”، حيث باتت القاهرة تعتبر جيشها “رصيدا للسودان والجيش السوداني رصيدا لمصر”.
كما يقول نفس القائد العسكريّ واصفاً نمط العلاقات الجديد بين البلدين أنه:”لاشك أن التطور الكبير والسريع في طبيعة التهديدات والتحديات الموجهة للأمن القومي المصري والسوداني تفرض المزيد من المسؤوليات على القوات المسلحة، وتضاعف من ضروريات وحتمية التنسيق الإستراتيجيّ وليس التعاون فقط”.
من أهمُّ شواغلِ القاهرة غير التقليدية في السودان إلى جانب ملف سد النهضة هي مسألة أمن البحر الأحمر، حيث ينظر النظام المصريّ إلى هذا المسار باعتباره طريقا غير شرعي لتهريب الأسلحة القادمة من إيران إلى خصومه الإسلاميين، وبالأخص في قطاع غزة، لذلك دشن واحدة من أكبر القواعد العسكرية البحرية في العالم نهاية العام الماضي في هذه المنطقة الحيوية (قاعدة برنيسْ).
كما تخشى القاهرة من تأثير النزاع الدوليّ الحالي على السودان بين الولايات المتحدة وبين روسيا من جهة، على خلفية رغبة الأخيرة في حجز مستقر بحري لها على شواطئ السودان، وإقليمياً بين إيران وتركيا، سلبا على نفوذها في السودان، وبالأخصّ أن تركيا لا زالت تحظى بترحيب من الدوائر العسكرية في السودان بالرغم من سقوط نظام البشير، وهو ما تنظر مصر إليه بعين التهديد، بعد أن حجزت أنقرة لنفسها مقعدا دائما في الغربِ المصري (ليبيا) بشكل سياسيّ وعسكري رسميا العام الماضي.
تكتيكات القاهرة
إلى جانب الصلف الأثيوبيِّ في التعامل مع السودان مؤخرا وبالأخص في قضية الحدود، والتماديْ في قتل السودانيين، مدنيا وعسكريا عبر كمائن تعدها قبائل موالية للجيش مما ساهم في توتير العلاقات بين الدولتين، بالإضافة إلى أفول نجم التجربة الأثيوبية داخليا، فقد اتبعت القاهرة تكتيكات خاصة لاستمالةِ السودان إلى جانبها.
بالرغم من عداء النظام المصريّ بشكل عام للثورات والتغيير، خاصة إذا حدث بالقرب منه، فإنه تلافى التصعيد الخطابيّ ضد النظام السودانيّ الجديد القادم بعد الثورة، بل على العكس اعترف به وحاول حجز مكان لنفسه على طاولة مفاوضات المرحلة الانتقالية.
تقول الخارجية المصرية في استقبال وزيرة الخارجية السودانية “إن لدى مصر التزاما راسخا بدعم المرحلة الانتقالية في السودان والوقوف إلى جانب تطلعات الشعب السوداني في التقدم والازدهار وتحقيق أهداف ثورة ديسمبر المجيدة، كما تهنئ الشعب السوداني على توقيع اتفاقية السلام، وتحيي جهود الحكومة السودانية التي لا تتوانى عن بذل الجهد لتحقيق آمال وتطلعات الشعب السوداني”.
تخطط الحكومة المصرية في المرحلة القادمة لرفع كفاءة خطوط الربط الكهربائيّ بين البلدين لتصل إلى نحو 300 ميجاوات، وهو ما قد يعد بديلا جزئيا عاجلا عن التدفقات المتوقعة من كهرباء سد النهضة
وقد ركزت القاهرة خلال الأسابيع الماضية التي انشغلت فيها أثيوبيا بالأزماتِ الداخلية وازدادت حدة الصراع الحدودي بينها وبين السودان، على تقديم المساعدات العاجلة إلى الخرطوم خلال كارثة السيول وجائحةِ كورونا، وفتحت الجسور الجوية العسكرية لتقديم أطنان المعدات الإغاثية، وأرسلت مسؤوليها لتفقد مخازن الحكومة السودانية رأساً، وهو ما شكرته مريم المهدي رسميا للقاهرة في الزيارة الأخيرة.
وتخطط الحكومة المصرية في المرحلة القادمة لرفع كفاءة خطوط الربط الكهربائيّ بين البلدين لتصل إلى نحو 300 ميجاوات، وهو ما قد يعد بديلا جزئيا عاجلا عن التدفقات المتوقعة من كهرباء سد النهضة، بالإضافة إلى دعم مشاريع الربط السككي والنهري والبحري، والتي قطع البلدان فيها أشواطا بيروقراطية بالفعل، بعد توسيع عدد وكفاءة المنافذ الحدودية في الأعوام السابقة.
أثيوبيا: استمرار الأمر الواقع
شنت وسائل إعلام ناطقة بالعربية ومقربةٌ من الدبلوماسية الأثيوبية هجوما على زيارة مريم المهدي إلى القاهرة، وعلى المسؤولة السودانية نفسها، بدعوى أنها تمثل السودان في التنسيق مع أطراف ثالثة (جنوب السودان أو أريتريا) للضغط على أثيوبيا وتعطيل مشروعها القوميّ.
ومع ذلك، فإنّ هذه الضغوطات، وفقا لهذه المنصات الإعلامية، لن تنجح في إثناء أديس أبابا عن هذا المشروع، لأنه يقام في أرض أثيوبية بأموال أثيوبية لخدمة الشعب الأثيوبيّ، وأن القانون الدوليّ يقف مع أثيوبيا، خاصة أنّ السودان كانت ولوقتٍ طويل ترى أن السدّ لا يضرّ بها.
على الصعيد الرسميِّ، رفضت الخارجية الأثيوبية، ضمنا، في مؤتمر صحافيٍّ المقترح السوداني الذي دعمتهُ مصر عن “الوساطة الرباعية”، مشيرةً إلى أنّها ترحب بكل حسن نية باستمرار المفاوضات، وأن رفض الوساطة حقٌ مشروع في ضوء إعلان المبادئ الذي يشترط موافقة جميع الأطراف على أي وساطات جديدة.
وبحسب هاني رسلان الخبير في الشأن الأفريقيّ ومدير مركز الأهرام للدراسات الاجتماعية والتاريخية، فبما أنّ الحلّ العسكريّ مطروحٌ كما يظهر للجميع، والمسار السياسيّ يعاني من انسدادٍ ممتد، فإنه من الراجح أن تحاول الدول الكبرى فرض نفسها على المحادثات منعا لانزلاقِ الأمور أكثر من ذلك.
ووفقا لنفس الخبير، فإنه ليس من الضروريّ أن يكون قرار الولايات المتحدة في إدارة بايدن الجديدة برفع العقوبات التي فرضتها الإدارة السابقة على أثيوبيا سلبيا، إذ يهدف القرار على الأرجح إلى توطئة الطريق أمام أداء دور الوسيط المحايد بعد اعتراض أديس أبابا على انحياز إدارة ترامب للقاهرة، مع استبعاد أي وساطة عربية في ظل تجاهل الدول الخليجية لعب هذا الدور خلال عقد المفاوضات خوفا على مصالحها في أثيوبيا، وفي كلّ الأحوال، ستستمرّ حقبة التحالف بين القاهرة والخرطوم لأنها، وإن كانت مرتبطة بسد النهضة، فإنها لا تعتمد عليه كلياً.