كان إعلان الدولة الإسرائيلية عام 1948 بداية لنهاية الوجود اليهودي في المغرب، حيث هاجر أكثر من ربع مليون يهودي تاركين وراءهم أملاكًا، بما فيها الأراضي والعقارات الأخرى من منازل ودكاكين بأحياء الملاح، التي أصبحت فيما بعد ملكًا للمسلمين واليهود الذين اختاروا البقاء في المغرب، فيما تزعم الدولة العبرية أنه تم الاستيلاء على أملاك من تسميهم بـ”اللاجئين اليهود”.
لهذا السبب تحركت “إسرائيل” قصد الحصول على الحق في مطالبة إيران وسبع دول عربية بما فيها المغرب بمبلغ مالي قدره 250 مليار دولار، تعويضًا عن الممتلكات التي تركوها وراءهم بعدما أجبروا على الهجرة من أوطانهم، وحسب ما تزعم الدولة العبرية، فإن السلطات المغربية استولت على هذه الممتلكات، لكن لم يتم تعيين مبلغ التعويض الذي ستطلبه تحديدًا تل أبيب من الرباط.
صفعة للكيان
سرعان ما تلقت “إسرائيل” صفعةً على يد الطائفة اليهودية في المغرب، مكذبة تلك الادعاءات بطرد اليهود واستيلاء السلطات المغربية على أملاكهم، بعدما بعث رئيس الاتحاد العالمي لليهود المغاربة رسالةً واضحةً إلى وزارة المساواة الإسرائيلية، يدعوها إلى الكف عن محاولات استخلاص أموال من المغرب بحجة كاذبة، لأن اليهود غادروا المغرب ولم يطردوا وتركوا آلاف الأماكن وراءهم مثل المعابد والمقابر وأرشيفًا مهمًا، لم تستول السلطات المغربية عليها، بل ما زالت إلى حد الآن تعمل على حمايتها وصيانتها على حسابها، وهو ما يستوجب حذف المغرب من لائحة البلدان المطالبة بتعويضات عن أملاك اليهود.
كان الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين أول من طرح مسألة المهجرين اليهود من البلدان الإسلامية في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 في كلمة عنوانها “أعيدوا لنا أموال اليهود” ألقاها بمناسبة الاحتفال لأول مرة بذكرى “طرد اليهود من البلاد الإسلامية” بعد تأسيس دولة “إسرائيل”.
تسمية اليهود المغاربة الذين هاجروا “إسرائيل” باللاجئين أكذوبة وادعاء لا يمكن تصديقه
كما صدر قانون عام 2010 ينص على أن أي اتفاق سلام لا بد أن يتضمن تعويضات عن أصول الطوائف اليهودية والأفراد اليهود الذين أجبروا على مغادرة الدول العربية وإيران.
أكذوبة اللجوء
في الحقيقة فإن تسمية اليهود المغاربة الذين هاجروا “إسرائيل” باللاجئين أكذوبة وادعاء لا يمكن تصديقه، لأن الحقائق التاريخية تثبت أنهم هاجروا طواعية ولم يتم طردهم من بلدهم الأصلي، لكن الحركة الصهيونية استجلبتهم لتنفيذ مشروعها الاستعماري، وأسكنتهم في مخيمات كما هو حال اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجروا عنوة من أراضيهم بالإرهاب وقوة سلاح العصابات الصهيونية التي سلبت منهم أملاكهم ومنحتها للوافدين اليهود، لهذا تطالب السلطة الفلسطينية بأكثر من 100 مليار دولار تعويضًا عن ممتلكات الفلسطينيين الذين يطالبون بحق العودة.
تزعم الحكومة الإسرائيلية أن اللاجئين اليهود تركوا وراءهم ممتلكات بقيمة 150 مليار دولار في البلدان العربية بعد نزوحهم الكبير منها إلى الكيان العبري، بحسب ما نقلت صحيفة “إسرائيل هايوم”، وهو رقم أقل بكثير من القيمة التي أوردتها تقارير صحفية عبرية أخرى.
غياب الدقة
لقد كرس مايكل فيشباخ سنوات طويلة لدراسة الأملاك اليهودية في سياق الصراع العربي الإسرائيلي، من أجل إعادة تركيب الظروف التي غادرت فيها الطوائف اليهودية البلدان العربية، حيث أجرى بحثًا دقيقًا وشاملًا في أرشيفات واشنطن والقدس ولندن ونيويورك وأماكن أخرى، ليقدم في كتابه “دعاوى الملكية اليهودية ضد الدول العربية” تقديرات أكثر موثوقية حتى الآن لقيمة الممتلكات المتروكة.
ومع ذلك لم يستطع فيشباخ التوصل إلى رقم دقيق للممتلكات التي تركها اليهود في المغرب، كما هو الشأن بالنسبة لتونس والجزائر، نظرًا إلى أن نزع الملكية لم يكن مشكلةً بالنسبة لليهود المهاجرين من المغرب، وحتى ظروفهم كانت مختلفةً عن بني جلدتهم في الشرق الأوسط، فلم يتعرض اليهود المغاربة لخسائر كبيرة في ممتلكاتهم.
ولم يسع المؤرخ الأمريكي أن يقدم الكثير من الأدلة التي توضح بالتفصيل ما تم فعله بممتلكات المهاجرين اليهود من تونس والمغرب والجزائر، لكن ما حدث مع الممتلكات الجماعية مثل المدارس والمقابر والمعابد اليهودية بعد الهجرة الواسعة النطاق، لم يكن دائمًا مشكلة كما كان الحال في العالم العربي الشرقي، لأن أقلية من الطوائف اليهودية استمرت في الوجود ولم تهاجر.
عام 1948 لم يكن المغرب قد حصل بعد على الاستقلال من الحماية الفرنسية، لهذا لم يشارك في الحرب العربية ضد “إسرائيل”، وكان اليهود الذين يعيشون هناك أحرارًا في التصرف بممتلكاتهم والهجرة إلى “إسرائيل” بعد الحرب إذا رغبوا في ذلك.
بعد استئناف العلاقات بين الرباط وتل أبيب، سترتفع قيمة أملاك الإسرائيليين في المغرب
مع تصاعد الحركة التحررية من أجل استقلال المغرب بدءًا من العام 1950، بدأت بعض المنظمات اليهودية بالتعبير عن قلقها بشأن مصير الممتلكات اليهودية هناك، غير أن مصدر القلق لم يكن متعلقًا بالاستيلاء على ممتلكاتهم، لكن تسرعهم في مغادرة المغرب سيواجه اليهود سوقًا عقاريًا متعثرًا، بالتالي لن يكونوا قادرين على بيع ممتلكاتهم وفقًا للسوق العقارية المتعارف عليها آنذاك.
وفقًا لما ورد في كتاب فيشباخ، أرسلت الوكالة اليهودية الدكتور روث من غرفة التجارة الفرنسية الإسرائيلية إلى شمال إفريقيا (المغرب والجزائر وتونس) لتقدير ممتلكات اليهود هناك، وحدد الممتلكات اليهودية بقيمة تتراوح بين 600 و700 مليون دولار، كما توصل إلى أن 60 أو 70% منها تتعلق بأراضي وعقارات معظمها في المدن الكبرى، يحوز قليل منها ملاك قلائل، وبعد عودته إلى فرنسا اقترح روث فكرة “إنقاذ” الممتلكات اليهودية في المنطقة المغاربية، حيث دعت هذه الخطة إلى تأسيس شركة وصاية أمريكية يُعهد إليها التصرف في الممتلكات العقارية لليهود، وستبيعها تدريجيًا من أجل تجنب الانخفاض الكارثي في سوق العقارات الذي قد يؤدي إلى التصفية الجماعية للممتلكات، وهي نفس الخطة التي تم تنفيذها سابقًا فيما يتعلق بالممتلكات اليهودية في العراق وليبيا.
نمو الثروة
تقول نيكول الجريسي، وهي كاتبة يهودية لم تغادر المغرب: “هجرة اليهود خلقت فرصة اقتصادية ممتازة في مجال العقارات وحركة الأموال واستصدار الأوراق الرسمية، كثير من اليهود لم يكونوا مسجلين ولم يكن لديهم جوازات سفر، وقد تحول استخراج هذه الأوراق إلى عمل مربح”، تستطرد نيكول ضمن تصريح بثته قناة الجزيرة في فيلم وثائقي عنوانه “فسيفساء” إن العديد من المغاربة اغتنوا بسبب الهجرة، بعض اليهود وكثير من المسلمين اشتروا أملاك اليهود المهاجرين.
شرعت وزارة الصناعة المغربية اتصالاتها مع المستثمرين الإسرائيليين من أصل مغربي، أولئك الذين لهم رغبة في الاستثمار بالمملكة منذ وقت سابق
في الوقت الحاليّ، تقدر أملاك الإسرائيليين في المغرب بـ33 مليار دولار في قيمتها التجارية، ولا يمكن للدولة تأميم هذه الممتلكات لأنهم يحتفظون بجنسيتهم المغربية المسترجعة بموجب القانون المغربي الذي يخول لكل شخص استرجاع جنسيته المغربية الأصلية التي كان متمتعًا بها عندما يطلب بذلك (حسب الفصل 15 من الظهير الشريف رقم 1.58.250 المتعلق بسن قانون الجنسية المغربية).
بعد استئناف العلاقات بين الرباط وتل أبيب، سترتفع قيمة أملاك الإسرائيليين في المغرب، حيث وقع البلدان على أربع اتفاقات تهم المجال الاقتصادي والتجاري والسياحي، وتنص الاتفاقية الرابعة على إنعاش العلاقات الاقتصادية بين البلدين من خلال التجارة والاستثمار، بالإضافة إلى التفاوض بشأن اتفاقيات أخرى تؤطر هذه العلاقات، ويتعلق الأمر باتفاقية تجنب الازدواج الضريبي واتفاقية إنعاش وحماية الاستثمارات واتفاقية المساعدة الجمركية.
عقب حفل التطبيع في الرباط اجتماع رسمي، عن بعد، جمع وزير الصناعة والتجارة حفيظ العلمي مع نظيره الإسرائيلي عمير بيريتس، هذا الأخير أبى إلا أن يفتتح المباحثات بما تبقى في ذاكرته من لهجة مغربية منذ هجرته رفقة عائلته وهو طفل إلى الكيان العبري.
فعليًا، شرعت وزارة الصناعة المغربية اتصالاتها مع المستثمرين الإسرائيليين من أصل مغربي، أولئك الذين لهم رغبة في الاستثمار بالمملكة منذ وقت سابق، وحينما تعذر عليهم ذهبوا إلى دول أخرى، لكنهم سيعودون إلى المغرب من أجل الاستثمار في مجال التكنولوجيا والصيدلة والأدوية، بالإضافة للمواد الفلاحية والإلكترونيات وما يتعلق بها وبأمنها.