لم تتوقف الإجراءات التي يتخذها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحكومته ضد الجالية العربية المسلمة طوال الشهور الماضية، لكن في المقابل تحاول الكثير من المنظمات والشخصيات المسلمة في فرنسا بشكل خاص وأوروبا بالعموم الوقوف سدًا منيعًا أمام الحملة العدائية التي تستهدف الوجود الإسلامي في ذلك البلد الذي يُقال عنه أنه “مدافع عن حقوق الإنسان”.
وفي ظل تصدي تلك الهيئات للسياسة الفرنسية ضد المسلمين، أعلن تحالف عالمي مكون من 25 منظمةً مدنيةً ومنظمات غير حكومية من 11 دولة بتقديم رسالة شكوى مفصلة إلى أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، تحث على “اتخاذ إجراءات فورية ضد فرنسا بسبب الإسلاموفوبيا التي ترعاه الدولة، وبسبب فرضها لميثاق الأئمة التمييزي والمخالف لحقوق الإنسان”.
تركز الشكوى المؤلفة من 22 صفحة على “ميثاق الأئمة التمييزي بطبيعته”، الذي طرحه الرئيس ماكرون، وبحسب بيان تحالف المنظمات فإن “الميثاق يطالب بالولاء للقيم الجمهورية بينما تستخدم الدولة في نفس الوقت هذه القيم كسلاح لإساءة معاملة مواطنيها المسلمين”، إضافةً إلى أنه يفرض رقابة على حرية التعبير بطريقة لم يسبق لها مثيل في القانون الأوروبي.
ويستثني الميثاق المسلمين الناشطين علنًا من القطاعات المدنية والسياسية والاجتماعية، كما يذهب الميثاق إلى أبعد من ذلك لإلغاء الجوانب الأساسية للعقيدة الإسلامية بما يتعارض مع مبدأ فرنسا المعلن بعلمانية الدولة “laïcité”، التي يجب أن تحافظ على فصل الدولة عن الدين، والكلام هنا لتحالف المنظمات المعني بالشكوى ضد الحكومة الفرنسية.
انتهاك لحقوق الإنسان
أعلن تحالف المنظمات بناءً على ما سبق أن “فرنسا تنتهك ميثاق الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية التي تحمي وتضمن حرية الفكر والوجدان والدين، وتنتهك أيضًا الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان”، ويطالب الموقعون على الشكوى رئيس المفوضية الأوروبية بفتح إجراء رسمي للانتهاك ضد فرنسا أمام محكمة العدل الأوروبية، لضمان احترام فرنسا لقانون الاتحاد الأوروبي بشأن حماية الحقوق المدنية والسياسية الأساسية لجميع مواطنيها.
وتتضمن الشكوى التي حصل “نون بوست” على نسخة منها 6 نقاط أساسية وهي:
– ينتهك “ميثاق الأئمة” للرئيس ماكرون الحقوق الدينية والسياسية والمدنية للمواطنين المسلمين في فرنسا.
– يستخدم مصطلح “الإسلام السياسي” للإشارة إلى كون المرء مسلمًا وناشطًا ومهتمًا سياسيًا واجتماعيًا. الاستنتاج هو أن أي مسلم نشط في المجتمع يشكل خطرًا محتملًا على المجتمع.
– يريد ماكرون أن تقتصر المحادثات في المساجد على الأمور الداخلية المتعلقة بفرنسا، وبالتالي فرض الرقابة على الاهتمامات الطبيعية للمسلمين الذين يعيشون في عالم تسوده العولمة.
– نفذت فرنسا العديد من القوانين المصممة للحد من حرية الاعتقاد ومعاقبة إظهار الدين.
– لا يوجد علاج فعال داخل النظام القانوني الفرنسي لمعالجة ظاهرة الإسلاموفوبيا التي تمارسها الدولة.
– يجب على رئيس المفوضية الأوروبية أن تتدخل كي لا تصبح هذه السياسات سابقة قانونية تلحق أضرارًا طويلة المدى ليس فقط على المسلمين، بل على المجتمعات الأخرى في فرنسا.
يجب أن يتوقف
في ذات السياق قالت القانونية سميرة صابر التي بدورها قدمت الشكوى نيابة عن التحالف: “نحن نتواصل مع السيدة فون دير لاين لوقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في فرنسا. يجب أن تتدخل المفوضية الأوروبية في مسار فرنسا وفي قوانينها التي تستهدف المسلمين بشكل تمييزي وغير متناسب، وتنتهك حقوقهم الإنسانية الأساسية “.
وأضافت جانينا رشيدي من المجلس الإسلامي المركزي السويسري عضو التحالف الذي يقوم على الشكوى: “لقد حان الوقت للاعتراف بأن الإسلاموفوبيا ليست ظاهرة منتشرة في الأوساط اليمينية فحسب، بل وصلت إلى التيار الرئيسي للمجتمع. وبدلًا من أن تتخذ الدولة تدابير مضادة وتحافظ على الوحدة الاجتماعية، فإن حالة فرنسا تجسد كيفية قيام الجهات الحكومية بإضفاء الطابع المؤسسي وإضفاء الشرعية في نهاية المطاف على هذه الإسلاموفوبيا من خلال خطابهم وإجراءاتها التمييزية التي تنتهك حقوق الإنسان الأساسية، وهذا يجب أن يتوقف”.
ما هو الميثاق؟
أقرَّ المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الميثاق الذي بدوره يضع إطارًا لممثلي الاتحادات الإسلامية الفرنسية لتحويل الإسلام في فرنسا إلى “إسلام فرنسي”، كما طلب الرئيس ماكرون، وكان الرئيس الفرنسي قد كلف المجلس بصياغة “ميثاق التزام بالقيم الجمهورية الفرنسية”، ويسير هذا الميثاق إلى جانب “المجلس الوطني للأئمة” وهو المجلس المسؤول عن تدريب الأئمة ومنحهم الشهادات التي تتوافق مع الميثاق.
بـ10 بنود أقر “ميثاق المبادئ”، التي ستكون ملزمة للأئمة في البلاد وتنص على أنه “لا يمكن الركون إلى أي قناعة دينية على الإطلاق كعذرٍ للإعفاء من الواجبات المفروضة على المواطنين الفرنسيين”، وتشدد الوثيقة على قضايا المساواة بين الرجل والمرأة، و”توافق العقيدة الإسلامية مع علمانية الجمهورية الفرنسية”، مع التركيز على محاربة توظيف الإسلام لأغراض سياسية وعدم تدخُّل دول أجنبية في شؤون ممارسة المسلمين لعبادتهم بفرنسا.
كما تُرجع بنود الميثاق الهجمات على المسلمين في فرنسا ورموز معتقداتهم إلى “أقلية متطرفة لا ينبغي الخلط بينها وبين الحكومة الفرنسية أو الشعب الفرنسي”، بالإضافة إلى “توجيه الشجب لما يُسمى بعنصرية الدولة فعلٌ يرقى إلى حد التشهير، ويُفاقم مشاعر الكراهية ضد المسلمين وكراهية فرنسا”.
هذا الميثاق لاقى رفضًا من منظمات وهيئات إسلامية، حيث أصدرت اللجنة التنسيقية للمسلمين الأتراك في فرنسا ومؤسسة المجتمع الإسلامي في أوروبا “ميللي غوروش” فرنسا، جمعية الإيمان والممارسة بيانًا نددّت فيه بـ “وثيقة المبادئ” التي تسعى الحكومة الفرنسية إلى فرضها، مشيرةً إلى أن الميثاق يحتوي على “فقرات تمسّ شرف المسلمين ولها طابع اتهّامي وتهميشي وتضعف أواصر الثقة بين مسلمي فرنسا والأمة، وللمفارقة فإن هذه الهيئات تملك عضوية المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية المنظم لهذا الميثاق.
في ذات الإطار، قال إبراهيم ألجي رئيس لجنة تنسيق الجمعيات التركية الإسلامية بفرنسا: “تأسيس مجلس الأئمة الوطنيين الذي يهدف إلى تشكيل آلية للموافقة على الأئمة الذين سيتم تعيينهم وتقييمهم وفقًا لمعلوماتهم الدينية وقدراتهم على التعليم وتوصيل المعلومات الدينية، أمر مهم بالنسبة للمسلمين في فرنسا”، لكنهم في الوقت نفسه “لا يرغبون في التوقيع على ميثاق المبادئ الإسلامية لأن بعض مواده ضد المسلمين”.
تنتهج المعارضة الفرنسية أيضًا نهجًا ينتهك حقوق المسلمين في تلك البلاد، ليبقى السؤال: أين الحرية والقيم في بلد يدعي أنه حامي القيم؟
وأكد ألجي وفقًا لوكالة “الأناضول“، رفضهم لتسمية “الإسلام الفرنسي” وأنه “لا يجوز حصر الإسلام بمجتمع معين أو أيديولوجية محددة لأنه دين عالمي”، موضحًا أن الميثاق “يُظهر بعض الأمور غير الموجودة في الإسلام على أنها شائعة، مضيفًا: “مثًلا يُظهر الميثاق أن الإسلام يعادي المرأة مع أن ذلك مخالف للحقيقة”.
وفي تغريدة له قال الشيخ المصري محمد الصغير: “سألني بعض الإخوة من الأئمة في فرنسا عن حكم التوقيع على ميثاق المبادئ الذي أصدرته الحكومة هناك؟ والجواب أنه يحرم التوقيع على هذه المبادئ التي جعلوها فوق العقائد، ولما ورد في بنودها من هدم للأصول وتغيير للثوابت ومحاولة مسخ الإسلام وإفراغه من محتواه ليصبح إسلامًا على الطريقة الفرنسية”.
على الرغم من كل التنديدات والشكاوى والاعتراضات إلا أن ماكرون وحكومته لا يبدون أي تفاهم أو تراجع في طريقة تعاملهم مع الإسلام والمسلمين في باريس، وهو ما يتضح مع حالات الإغلاق المتكررة للمساجد وقاعات الصلاة لأسباب قيل إنها “إدارية”، ولا يقتصر الأمر على الحكومة إنما تنتهج المعارضة الفرنسية أيضًا نهجًا ينتهك حقوق المسلمين في تلك البلاد، ليبقى السؤال: أين الحرية والقيم في بلد يدعي أنه حامي القيم؟