ترجمة وتحرير: نون بوست
في تبادل معبّر للهدايا في الخرطوم بتاريخ 25 كانون الثاني/ يناير، قدّم وزير المخابرات الإسرائيلي إيلي كوهين لمضيفه وزير الدفاع السوداني ياسين إبراهيم ياسين، علبة بها زيت الزيتون والحمضيات من فلسطين مقابل تقلي نموذج مقلد من بندقية “إم-16” مقلّدة من صنع منظومة الصناعات الدفاعية السودانية. كانت دلالة ذلك جلية، فقد سلّمت تل أبيب رمزا يدل على هيمنة المستوطنين على الأراضي والموارد الفلسطينية، وعنى تقديم الخرطوم السلاح ترسيخ واقع الاحتلال الإسرائيلي.
أعرب كوهين عن انبهاره بمدى “حفاوة” الاستقبال في الخرطوم، وتلك المشاعر تُرجمت إلى مذكرة تفاهم للتعاون الأمني والاستخباراتي “للعمل معًا لوقف الإرهاب، وتبادل الاستراتيجيات والخبرات الدفاعية”.
ناقش كوهين مع رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، إمكانية انضمام إسرائيل إلى تحالف الدول المطلّة على البحر الأحمر – وهو تكتل أمني ودفاعي جديد أسسته السعودية السنة الماضية يضم السودان وجيبوتي والصومال وإريتريا ومصر واليمن والأردن، ويهدف رسميًا لتأمين ممر البحر الأحمر من القرصنة والتهريب والتهديدات الإقليمية، وهي مصطلحات تستخدمها السعودية كطريقة ملتفة للإشارة للمصالح الإيرانية.
مكافأة فورية
في وقت سابق من شهر كانون الثاني/ يناير، وقّعت الحكومة السودانية سرًا على “اتفاقات إبراهيم” للتطبيع مع “إسرائيل” مع التأكيد على أن القرار النهائي يبقى للبرلمان الانتقالي الذي لم يتم تشكيله حتى الآن. وقد تمثلت المكافأة الفورية في التزام الولايات المتحدة بتزويد السودان بقرض تجسيري (مؤقت) في إطار مساعدته على سداد ديونه المتأخرة للبنك الدولي والوصول إلى مليار دولار من التمويل السنوي.
تمكنت قوة عظمى من إخضاع أمة فقيرة سياسيًا
في كانون الأول/ ديسمبر، أزالت الولايات المتحدة رسميًا السودان من قائمة “الدول الراعية للإرهاب” بعد أن وافقت الحكومة السودانية على تطبيع العلاقات مع “إسرائيل” ودفع تعويضات تعادل 335 مليون دولار لضحايا تفجيرات سفارتيّ الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا التي تعود لسنة 1998، وتفجير المدمرة الأمريكية “يو إس إس كول” قبالة سواحل اليمن في سنة 2000. مع ذلك، تظل الحكومة السودانية مسؤولة عن دفع ما يعادل مليارات الدولارات في شكل تعويضات إضافية لعائلات ضحايا أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر.
كانت الحكومة الانتقالية في الخرطوم، المثقلة بأعباء الأزمة الاقتصادية، مجبرةّ على الرضوخ لمقايضة واشنطن بغض النظر عن المخاوف التفويضية أو المحلية. وبذلك تمكنت قوة عظمى من إخضاع أمة فقيرة سياسيًا. لكن ذلك لا يعني ألا وجود للشراكة الطوعية من قبل الخرطوم، وهو واضح في مقدار الحفاوة التي استُقبل بها كوهين في العاصمة السودانية.
في شباط/ فبراير 2020، كان اللقاء المفاجئ بين البرهان ونتنياهو في مدينة عنتيبي في أوغندا بمثابة تصريح من المؤسسة العسكرية السودانية عن أجندتها الفعلية. حينها، نفى سياسيون ينتمون لتحالف “قوى إعلان الحرية والتغيير” – الذراع المدني لمجلس السيادة – أي علمٍ مسبق باللقاء.
تم إطلاق حملة إعلامية لتبرير “التطبيع”، حيث تدافع المطلعون بما في ذلك الشيوخ لتسويق قضية السلام مع “إسرائيل” – إن جاز التعبير. يمكن تلخيص فحوى جدالاتهم في ثلاث نقاط رئيسية إحداها جوهرية والأخرى عرضية بالنسبة للشؤون السودانية، وفيما بينهما ذريعة عنصرية للتخلي عن القضية الفلسطينية بالكامل.
رعاة أقوياء
يدعي البعض أن الواقعية السياسية تُلزم السودان بالسعي نحو “التطبيع” مع “إسرائيل” من أجل تلبية مطالب الولايات المتحدة ورعاته الأقوياء في المنطقة، وخاصة السعودية والإمارات العربية المتحدة. ويوصف هذا الموقف على أنه صحوة قد طال انتظارها لمصالح السودان الاستراتيجية ومثال على “استقلالية” عملية صنع القرارات الوطنية.
يقول البعض الآخر إن إجماع “اللاءات الثلاث” فيما يعرف بـ قمة الخرطوم لسنة 1967 – لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بـ “إسرائيل” – من مخلفات عصر قد مضى. وحجتهم في ذلك إبرام دولتي المواجهة، مصر والأردن، اتفاقيات سلام منفصلة مع “إسرائيل” منذ فترة طويلة، وتوقيع الفلسطينيين في حد ذاتهم صفقات تعزز هيمنة “إسرائيل” على حياتهم، مناقضين بذلك قضيتهم الخاصة.
تستند الحجة الأولى إلى افتراض وجود هيئة سياسية موحدة – وهو افتراض أُسس لتجاوز المصالح المتضاربة والتحيزات السياسية ومطالب أي مجتمع. لكنّ مزاعم خدمة المصلحة الاستراتيجية للأمة هو في الواقع غطاء للاستبداد الغاشم. ففي الحقيقة، تسعى المؤسسة العسكرية والأمنية السودانية إلى التطبيع مع “إسرائيل” لتصبح ضمن صفوف الأقوياء وتمتلك تقنيات القمع الخاصة بهم.
بمجرد توقيع المسؤولين المؤمنين بالواقعية السياسية في السودان على اتفاقيات إبراهيم، بدأ الجيش الأمريكي تدريجيًا رسم جدول أعمال للتعاون والتبادل، مع زيارة كبار القادة الأمريكيين في إفريقيا السودان لمناقشة “الاستراتيجية“.
في 24 شباط/ فبراير، وصلت سفينة نقل سريع استكشافية تابعة لقيادة النقل البحري العسكري الأمريكي إلى مدينة بورتسودان، فيما اعتُبر “لحظة تغيير جوهري في العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والسودان”. وفي الثاني من آذار/ مارس، رحّب ضباط البحرية السودانية المبتهجون بمدمرة الأسطول السادس الأمريكي “يو إس إس ونستون تشرشل” في بورتسودان. ولكن بناءً على الأمثلة الإقليمية، فإن المظلة العسكرية للولايات المتحدة ليست بيئة لازدهار الإرادة الديمقراطية للشعب.
دوائر القوة
ترتبط الحجة الثانية بالشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي ويسيّره أمراء أوسلو (الحكام الفلسطينيون) الذين انتهت صلاحياتهم منذ فترة طويلة. يطمح الواقعيون في السودان إلى الانضمام إلى هذه الدوائر. لكن تبرير “الفلسطينيين فعلوا ذلك أيضًا” لا يمكن اعتباره مؤشرا مناسبًا للإرادة السياسية السودانية المستقلة.
في هذا الصدد، تحولت القضية الفلسطينية إلى سلاح باعتبارها محل خلاف سياسي بين الإسلاميين السودانيين المهزومين الآن وخصومهم. ويرى الكثيرون أن الإسلاميين في السودان يرغبون في الحفاظ على سياسة مقاطعة “إسرائيل” بينما يقوم رعاتهم – قطر وتركيا – بتنمية العلاقات معها.
على هذا النحو، يُزعم أن تحول السودان إلى محور “إسرائيل” والولايات المتحدة والسعودية والإمارات دليل على تحرره من الهيمنة العربية التي تؤثر على خياراته السياسية. وحسب هذا المنطق الخيالي، اكتفت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بتهنئة السودان على هذا القرار الذي يمهد الطريق لتحريره.
المصالح الاستراتيجية واتفاقيات أوسلو والفئات العرقية مجرّد أعذار تهدف إلى نقض التضامن مع القضية الفلسطينية
تكتمل هاتان الحجتان بزلة فرويدية صارخة. يؤكد بعض مؤيدي السلام مع “إسرائيل” أن الفلسطينيين لا يستحقون التضامن لأنهم ينظرون إلى السودانيين على أنهم أقل شأنًا عرقيًا – يريدون أن يكونوا عربًا بينما هم من أصل أفريقي.
لا يأخذ هذا المنطق بعين الاعتبار تجارب طالبي اللجوء السودانيين في “إسرائيل”، حيث تعقّبت عصابات عنصرية في تل أبيب البعض منهم وهم يهتفون بشعار “الشعب يريد ترحيل السودانيين”. كما صرح عضو من حزب الليكود في الكنيست: “كان السودانيون سرطانًا في أجسادنا“. ومع استمرار المحادثات بين الخرطوم وواشنطن وتل أبيب، ذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن صفقة التطبيع ستشمل خططًا لترحيل حوالي 6 آلاف طالب لجوء سوداني موجود حاليًا في “إسرائيل”.
القوى التي تملي عليهم اختياراتهم
من المفارقات أن الصهاينة سعداء بالاعتراف بالسودان دولةً عربية وذلك لخدمة أجندتهم الجديدة. بعد مكالمة هاتفية مشتركة في تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي مع قادة الولايات المتحدة والسودان، أعلن نتنياهو: “اليوم نعلن انطلاقة سلمية أخرى. تنضم دولة عربية أخرى إلى دائرة السلام. هذه المرة، تمّ تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسودان”. وأكد نتنياهو بلهجة النصر أن الخرطوم قالت “نعم للسلام مع إسرائيل، نعم للاعتراف بإسرائيل، ونعم للتطبيع مع إسرائيل”.
يجب الاعتراف بأنّ المصالح الاستراتيجية واتفاقيات أوسلو والفئات العرقية مجرّد أعذار تهدف إلى نقض التضامن مع القضية الفلسطينية، ورسم صورة كاريكاتورية عن إمكانية تحرير الشعب الفلسطيني، وتثبيط عزيمته على التحرر من وطأة الاحتلال. كان يمكن لحكام السودان خدمة مصالحهم بشكل أفضل لو اعترفوا ببساطة بالقوى التي تملي خياراتهم السياسية بدلاً من استحضار حجج واهية حول الإمكانات الثورية للإرادة الشعبية التي تحافظ على بقائهم في السلطة.
المصدر: ميدل إيست آي