صخب الرغبة يحرك المياه الراكدة في نهر لا يملك فيه الرجال أنفسهم، تلمع قيعانه ببريق ونعومة الخمر، وتنسدل أستاره في ليلٍ مزيف وفراش وثير، وست الحسن والجمال ملقاة، يستقبلها الشاب الهمام بحفاوة ويجرها بهدوء اللمسات وينتهز هيمنة الخمر عليها، يمكث ويتكهن سقوطها، وحين يتيقن، تنفض – هي – الغبار عنها، كأنها ولدت للتو، وتسير الأمور كما تريد، تبصق الحقيقة في وجوه العابثين، تتضخم حتى تتشيطن وتنطفئ عينيها، لا يبقى فيها إلا الشر، فيخبو في جلده ويتصنع الانكسار، فتفتح الباب وتذهب فيما ترتسم على شفتيها سيماء الانتصار والقوة.
يضع فيلم Promising Young Woman – من إخراج وكتابة إيميرالد فينيل وبطولة كارى موليجان – التصرفات الذكورية موضع التنظير، بشكل يجعل الرجال مثيرين للشفقة، بيد أن ذلك التنظير من وجهة نظر أنثوية صرفة، فتظهر المرأة بشكل أشد قوةً وأكثر سطوةً في المواقف التي تواجهها.
يدور الفيلم حول الفتاة كاساندرا توماس التي تعاني من اضطراب ما بعد صدمة غيرت حياتها، لا يتعرف المشاهد على تلك العقدة إلا بعد فترة من الزمان، إذ يوظف المخرج تلك النقطة في صالحه ليدخل المشاهد داخل جو الفيلم، وهي طريقة/ثيمة معروفة في السينما، تظهر آثار تلك العقدة على كاساندرا في هيئة كراهية للرجال، تسبب لها مشاكل في حياتها العاطفية، بعد ذلك يظهر أن كاساندرا تعاني من مشكلة في تكوين صداقات في المطلق.
طورت كاسي عادة تمارسها بشكل مستمر على فترات قريبة، وهي الإيقاع بالرجال في مصيدتها، بتقديم نفسها كقربان – بشكل غير مباشر – لشهوتهم التي تتنامى مع الاستسلام التام وعدم الوعي المطلق الذي تصطنعه كل ليلة في الملهى الليلي، مثل أي سيدة تجرعت الكثير من الخمر فيذهب عقلها، وعندما يظهر اللحم تشحذ الأسنان وتنطلي الحيلة على الفارس المغوار، ويمتلئ غرورًا وثقةً أن الفريسة على وشك الوقوع في شباكه.
بيد أن كل شيء يتغير عندما يصحبها للبيت، وتفاجئه كاسي بأنها متزنة، وتمسك به في موقف لا يحسد عليه، وهي التي لم تغازله أو تعطيه أي نوع من السماح باللمس أو ممارسة الحب، بيد أنه كان يواصل دفع نفسه إليها دون رغبتها.
تكتفي كاسي بتفريغ عقدتها في الحديث معهم بشكل يجعلهم يرتعبون، ثم تذهب وتدون اسم الشخص في دفتر صغير تحتفظ بيه بأسماء وعدد ضحاياها، وهذه نقطة مفصلية في الفيلم، في كل مرة يتمثل الرجال في كيانات شهوانية مجردة مطلقة غير متزنة، تتلاعب بهم امرأة بشكل أكثر سهولة من اللعب مع طفل، ورغم ذلك فالفيلم يحمل واقعيته من وجهه الأنثوي، لأنه يعرض الفكرة بشكل ينزع للمرأة بنسبة 100% ولا يظهر وجهة النظر الأخرى حتى، لكن هكذا تدور القصة.
تجري الأحداث، وتقابل شابًا كان زميلها في الجامعة، ويتضح أن كاسي تركت الدراسة في مدرسة/جامعة الطب بإرادتها، ويبدأ المشاهد هنا بالولوج أكثر في عالمها ويتعرف عليها بشكل أوضح.
يُظهر الفيلم كاسي كمخلصة لجنس الإناث من الشرر، تبذل نفسها من أجل تحقيق عدالتها الخاصة، فتأثر الفيلم بالنظرة العالمية “للفيمينيست” يعطي شرعية للأحداث بشكل يجعل المشاهد يتعاطف معها، لا لأنها الحق المطلق، بل لأنها متسقة مع الجانب الذي يراه الكثير من الناس الجانب الأضعف.
يلعب الفيلم على ثيمة الانتقام المعهودة، شخصٌ تتراكم عليه الأحداث، يعمل في النص بشكل مركزي، يؤسس لما سيحدث، يحاول أن ينتقم من شخصٍ أو عدة أشخاص من أجل أن يصل إلى غايته وهي نصرة الضعيف أو إثبات شيء ما، الموتيفة/motif استخدم في الكثير من الأفلام السابقة، وليس غريبًا على السينما بشكل عام، بيد أن تناول الموتيفة ذات نفسه يحمل كل ما يؤهله لكي يكون فيلمًا جيدًا، الشخصية المتناقضة التي تكرس حياتها من أجل إثبات نظرية معينة، وسمات الشخصية الأنثوية نفسها تضعها في مقدمة الشخصيات “الفيمينست”، القوة والذكاء والخبث بجانب الشجاعة التي تحيط بها عالمها، بالإضافة للقضية الجنسية التي تنطوي عليا الحبكة، تضرب الوتر الحساس.
بيد أن الفيلم ليس فارغًا من الداخل، الكشف عن القصة كان في المجمل جيدًا جدًا، بجانب غموض الشخصية الرئيسية وتتبع حياتها بشكل هادئ ولا يعطي كل شيء في مرة واحدة، يكشط الطبقات المسطحة ويوغل في أفعال البطلة ليعطيها الشرعية الكافية، وفي نفس اللحظة يلعن المجتمع بعدالته وقيمه الزائفة، ويترك الفرصة للمشاهد لكي ينتقم، ويسقط المشاهد بفخ مؤلم، ويمارس المخرج نوعًا من الشدة على المشاهد بقسوة الذروة التي يقدمها، والتحكم الرائع بالإيقاع يسير الخط الرئيسي بشكل فيه صعود وهبوط، بمعنى أن المشاهد يمشي بهدوء على الخط الدرامي والمخرج يستمر في إعطائه التلميحات والإرشادات ليستمر في المشي للأمام، فيتحكم بالمتلقي صعودًا وهبوطًا، ولا يواجه مشكلة في إبطاء الإيقاع – في بعض الأحيان – لتمرير المعلومات.
خرجت الممثلة كارى موليجان من عباءتها، متمردة على أدوار الفتاة الجميلة اللطيفة التي لعبتها في الأفلام الماضية لتقدم شيئًا استثنائيًا بالنسبة لها، الشخصية تحمل قدرًا كبيرًا من التعقيد، والانتقال بين اللحظات الرومانسية والكوميديا ثم الروح الشريرة التي تكسوها ليلًا يحتاج فهمًا لطبيعة الشخصية، بجانب كشف الجوانب المحددة وتنوير المشاهد في اللحظات المناسبة للإبقاء على غموض الشخصية أكبر وقت ممكن دون حرقها، وبالطبع فالشخصية ليست أفضل شيء ممكن كتابته، وكما قلت سابقًا هي موضوعة لتخدم فكرةً معينةً، وترى بعين واحدة ما يود أن يراه البعض، بيد أننا لا نستطيع أن نختلف على مدى قوة وخطورة القضية.
يدرس الفيلم نقطتين ربما يبدوان عارضتين خلال السرد، وهي نقطة التعلق المطلق بشخص ما ونقطة لوم النفس على أشياء لم يكن البطل السبب فيها، واللعب على هاتين النقطتين يصنع نوعًا من الزخم يدفع الأحداث للأمام حتى آخر نصف ساعة، فينجح المخرج في إبقاء الفيلم خارج التوقعات، ويبدأ المشاهد في تلقي الصدمات، واحدة بعد الأخرى، بشكل مسلٍ ومرضٍ لحفيظة المتلقي، ليلقي بنفسه في خطر الازدراء، فالنهاية غير ما توقع المشاهد لكنها في الوقت نفسه مرضية.
من الجميل اختيار وجوه جديدة، ومن الممتع مشاهدة بو بورنهام – الإستاند أب كوميدي الشهير – في دور ريان، وتسليط الضوء على فكرة الوجوه البريئة التي تخفي وراءها أشباحًا قديمةً ووقائع تستدعي حضورها في وقت ما.
بجانب ذلك، لم يعطينا المخرج أي نوع من تفاصيل الاعتداء الجنسي، لم يصفه أو يصوره في مشهد “فلاش باك” كما المعهود، ليلمح بأهمية الضحية كإنسان وعدم أهمية الحادثة أو شكلها، كل ما هو مهم وجود الحادثة ووجود ناس يصدقون وجودها وخطورتها، وهذا يخدم قضية الفيلم بشكل أكثر عمومية.
لا يمكننا القول إن الفيلم هو أفضل تناول للقضية، لأنه يظهر وجهة نظر الـ”فيمينست” فقط، لكن بالطبع الفيلم مرضٍ ومسلٍ لدرجة أنك لن تشعر بالوقت، وهو مناسب لربح الجوائز في المهرجانات، لكن يظل تناولًا سطحيًا للقضية، بيد أن المخرج لم يكن يود أن يصنع فيلمًا عبقريًا عن قضية مهمة، إنه فقط فيلم مسلٍ يمكن مشاهدته دون ملل، بجانب مساهمته بإلقاء الضوء على قضية مهمة.
ترشح الفيلم لأربع جوائز غولدن غلوب، بجانب فوز بطلته كارى موليجان بجائزة اختيار النقاد لأفضل ممثلة، بالإضافة لترشحه لعدة جوائز أوسكار وأكثر من خمس جوائز بافتا.