كعقد منثور تتوزع مئات المساجد في الموصل بين أحيائها القديمة والحديثة وعلى جانبيها الأيمن والأيسر وتعلو مآذنها سماء المدينة مشكلة لوحة سيريالية لتاريخ المدينة الإسلامي الممتد لأكثر من ١٤ قرن من الزمن.
بعد دخول الإسلام صلحًا إلى مدينة الموصل على يد الصحابي ربعي بن الافكل، تأسس أول مسجد في الموصل سنة ١٦هجرية وتزايدت أعدادها بعد ذلك التاريخ في المدينة وتزاحمت بعد توسعها وزيادة سكانها لتصل إلى بضع آلاف في عموم محافظة نينوى.
وبعد سيطرة داعش على الموصل وارتكاب التنظيم أكبر مجزرة بحق المساجد في الموصل بذريعة وجود قبور بداخلها، من خلال تخريبها وتفجير المئات منها مثل جامع النبي يونس، والنبي شيت، وقضيب البان، ونبي جرجيس، إضافة إلى العمليات العسكرية التي سعت إلى طرد التنظيم من البلاد، مما عرض سائر المساجد للدمار والخراب، وهي الحوادث التي أخلت مدينة الموصل في عام ٢٠١٧ من المساجد إلى حد كبير.
حملة الإعمار الذاتية
لا تعتبر المساجد في مدينة الموصل صروحًا خاصة للعبادة فقط، وإنما جزء من هوية المدينة وإرثها الحضاري والمعماري، فهي توثق تاريخ المدينة ومراكزها الاجتماعية والخدمية، وإعمارها يعد إشارة لعودة الحياة في الأحياء المدمرة، ولكنها للأسف وقعت بعد نكبة الموصل فريسة للإهمال الحكومي وتأخر الدعم الدولي لإعادة الإعمار، إضافة للصراع بين الوقفين على عائدية الأملاك ومحاولات الاستحواذ بقوة السلاح وغياب الالتفات من المنظمات الإسلامية العالمية.
وفق هذا المشهد القاتم تقدم الموصليون لإعمار مساجدهم بالأيادي والأموال الموصلية الخاصة بعد الإهمال الحكومي والدولي حرصًا منهم على ترميم هوية المدينة وتراثها وتاريخها ودفعًا لعجلة الحياة وتمسكًا بالقليل المتبقي من أحد أعظم حواضر الشرق الإسلامي.
في هذا التقرير نرصد لكم نماذج من حملات إعمار المساجد المحلية في مدينة الموصل وواقع الصراع عليها والوعود التي انطلقت لبث الحياة فيها من جديد.
جامع الباشا أول المساجد التراثية المرممة
في الصورة الشهيرة لمدينة الموصل القديمة خلال العمليات العسكرية يتربع في المشهد قبة جامع الباشا المدمرة شاهد على قباحة الحرب، ذلك المسجد الذي يعتبر من مساجد العراق التاريخية والتراثية أنشأه الوزير حسين باشا وأكمل بناؤه ابنه الغازي محمد أمين باشا وذلك سنة 1756م في وسط سوق باب السراي ويعتبر من أبرز معالم الحقبة الجليلية في الموصل.
تعرض الجامع لضرر كبير نتيجة العمليات العسكرية، فقد خرب محرابه الأثري المصنوع من المرمر الموصلية وكذلك منارته وقبته، لكن الأهالي بادروا بحملة إعمار للجامع راعت فيه البعد التراثي ، وذلك تحت إشراف مفتشية الآثار وبجهود وأموال موصلية بحتة.
وللحفاظ على الهوية التاريخية لجامع الباشا بصورته الأصلية شارك في حملة إعماره فنانون ونحاتون وخطاطون بخطوة تعد الأولى من نوعها في الموصل، ويقول النحات محمد عبد الإله عن هذه التجربة:
“عملنا على إعادة نفس القطع والحجارة السابقة إلى مكانها ونحتها وصقلها وصباغتها ليعود الجامع بنفس صورته القديمة بل وأفضل منها، واعتمدنا في ذلك على مخططات وصور من دائرة آثار نينوى”.
تحول الجامع بعد إنجازه لنقطة انطلاق الأسواق القديمة في باب السراي التي يتوسطها، حيث تسارعت الأسواق للعودة بعد اكتمال إعمار المسجد، وعدا عن ذلك، أصبحت هذه البقعة موطنًا للعديد من النشاطات الموصلية الثقافية كمركز لمشيخة المقارئ العراقية في الموصل.
جامع النبي شيت جمعية خيرية تعيد البناء
في يوم الجمعة 25 تموز/أيلول 2014، فجع الموصليون بخبر تفخيخ عناصر من داعش جامع النبي شيت عليه السلام وتفجيره ليتحول بمئذنته الشامخة إلى ركام، علمًا أن تاريخ بنائه يعود إلى سنة 1647م، ثم بني مسجد آخر بجانبهِ في عام 1791م، وأقيمت فيه الصلوات الخمس، وصار يعرف بمسجد النبي شيت.
أضاف أحمد باشا بن سليمان باشا أرض واسعة في جوار المسجد وبناه من جديد جامعًا كبيرًا وبنى فوق القبر قبة كبيرة وأسس فيه مدرسة لتدريس العلوم المختلفة وأنشأ بجانبها خمس غرف للطلاب وخصص لهم من أوقاف الجامع ما يكفي لإعاشتهم، وأوقف في المدرسة خزانة كتب تحوي مخطوطات مختلفة في شتى العلوم والمعارف، كما خصص راتبًا للمدرس ولخازن الكتب ولمن يتولى خدمة المدرسة من وقف الجامع.
يحتوي الجامع على منارة بناها سعيد أفندي، وذلك عندما كان يشغل منصب متولي الجامع، ولقد وضع حجر الأساس للمنارة في 1 آذار/مارس 1912م، وتقع المنارة في جانب الباب الشرقي وتعتبر من أجمل المآذن في مدينة الموصل حيث بنيت بحجر الحلان، وتحتوي على ثلاثة أحواض.
وتعرضت أرض الجامع لمحاولات استيلاء من قبل إدارة أموال الوقف الشيعي بوضع لافتة استثمارية على الأرض لكن بعد الضغط الشعبي أزيلت هذه اللافتة لتشرع بعدها جمعية “فعل الخيرات”، وهي جمعية خيرية موصلية، بإعادة بناء الجامع بتبرعات المحسنين على ذات الطراز القديم مما أغلق الباب أمام محاولات التلاعب والاستغلال.
عجلة إعمار المساجد تدور
بدأت عجلة إعمار المساجد بالتسارع في شوارع المواصل بصورة واضحة، فجامع عبدالله المكي أعيد إعماره بالكامل وافتتح للمصلين في المدينة القديمة، فيما يشرف جامع عجيل الياور في منطقة الطيران على الانتهاء بمبادرة وإشراف نساء من آل الياور، فيما تشهد منطقة الميدان حركة حثيثة في رفع الأنقاض ووضع القواعد الأساسية لإعادة إعمار جامع حمو القدو التاريخي في منطقة الميدان.
كما وضعت رقعة للشروع في إعادة جامع الإمام محسن الذي يعود تاريخه للعهد الاتابكي حين كان مدرسة أنشأها نور الدين زنكي، ثم تحول إلى جامع يتوسط حي الشفاء في الموصل، كذلك الحال مع إعادة اعمار جامع النبي جرجيس، الذي زاره ابن جبير الأندلسي في عام 580 هـ، وقال عنه: “وخص الله هذهِ البلدة بتربة مقدسة فيها مشهد النبي جرجيس عليه السلام، وقد بني فيهِ مسجد، وقبرهُ في زاوية من أحد بيوت المسجد عن يمين الداخل إليهِ، وهذا المسجد هو بين الجامع الجديد وباب الجسر، يجدهُ المار إلى الجامع من باب الجسر عن يساره”.
منارة الحدباء تنتظر الوعود
لا تكاد تدخل اليوم حي من أحياء المدينة إلا وتشاهد جامعًا يعاد إعماره، ولكن ذلك العرس لم تكتمل فرحته، فهناك العديد من المساجد الرئيسية لم تطلها خطط الإعمار لأسباب متعددة، ومنها الرمز الرئيس للموصل جامع النوري الكبير ومنارته الحدباء التي شيدها حاكم الموصل وحلب نور الدين زنكي قبل 9 قرون، رغم أنها تلقت وعدًا من الإمارات نيسان/أبريل 2018 بتمويل منظمة اليونسكو لإعادة إعمار الجامع والمنارة بمبلغ تجاوز 50 مليون دولار.
ومع مرور ما يقارب 3 سنوات على الإعلان الإماراتي إلا أن الجامع ما يزال على واقعه الحالي ولم ينجز غير المرحلة الأولى المتمثلة بإزالة الألغام والركام وتثبيت ما تبقى من قاعدة المنارة.
برر الوقف السني تأخر عملية إعادة الاعمار بأن الأمر مرتبط بتعويض أصحاب المنازل المجاورة للمسجد لتكون ضمن عمليات التوسعة، فيما أكد عدد من الأهالي عكس ذلك وأنه لم يتواصل معهم أحد لغرض التعويضات.
وتكمن أهمية إعادة جامع النوري ومنارته الحدباء للحياة في إحياء قلب الموصل القديمة التي ما تزال تحاول العودة للحياة، إضافة لأهميته المعنوية بالنسبة للموصليين كأهم الرموز التي تعبر عن مدينتهم الحدباء، ولكن يبقى السؤال متى تنفذ هذه الوعود؟
مساجد أخرى تنتظر
يقبع جامع النبي يونس عليه السلام بلا أي تحرك للإعمار بسبب صراع الوقف السني والشيعي على العائدية، إضافة إلى تدخل جهة ثالثة وهي مفتشية الآثار التي تمنع الإعمار كون الجامع يقع فوق تل أثري يقبع تحته آثار آشورية غير مستخرجة بعد.
كما بقي على نفس الحال أقدم مساجد الموصل، جامع المصفي أو الأموي أو المسجد الجامع الذي بني سنة ١٦ هجرية، كذلك جامع الخضر الذي فجره داعش لجهل عناصره بالتاريخ معتقدين أن اسم الجامع دليل على وجود ضريح للخضر بينما هو اسم اصطلاحي، وإنما عرف بالموصل لقرب الجامع من نهر دجلة، واسمه الحقيقي هو المجاهدي نسبة لبانيه مجاهد الدين قيماز الذي أذهل ابن جبير فقال عنه:
“وأحدث فيه بعض أمراء البلدة – وكان يعرف بمجاهد الدين– جامعاً على شط دجلة، ما أرى وضع جامع أحفل منه بناء، يقصر الوصف عنه، وعن تزيينه وترتيبه، وكل ذلك نقش في الآجر، وأما مقصورته فتذكر بمقاصير الجنة ويطيف به شبابيك حديد، تتصل بها مصاطب تشرف على دجلة، لا مقعد أشرف منها ولا أحسن، ووصفه يطول، وإنما وقع الإلماع بالبعض جريا إلى الاختصار”.
فيما يقبع أكبر مساجد الموصل، جامع الموصل الكبير، في جانبها الشرقي الصرح الموصلي المنتظر إكمال إعماره منذ عام 2003، وقد عرض زايد آل نهيان أن يتكفل بباقي تكلفة البناء ولكن بشرط تغيير اسم الجامع إلى “جامع زايد”، ولكن محافظ المدينة وأهلها رفضوا هذا العرض، وتم الشروع العام الماضي بالعمل في إكمال الجامع الذي يبلغ مساحته 75 الف متر مربع.
على الرغم من فداحة النكبة وشدتها، إلا أن الموصوليين تمكنوا خلال سنوات معدودة بعد نهاية الحرب من إعادة بناء الكثير من مساجدهم وأسواقهم التراثية وخاناتهم ومنازلهم المدمرة على الرغم من المعوقات وأزمة كورونا التي اجتاحت العالم وغياب وعودة الإعمار الدولية، ويبقى السؤال الأهم: متى تستفيق حكومة بغداد لتساهم بإعادة إعمار أكبر مدن العراق بعد العاصمة بغداد؟