ترجمة وتحرير نون بوست
تعد مصر تاريخيا في طليعة بلدان القومية العربية، ولذلك تجمعها علاقات معقدة مع اثنين من الدول الأخرى التي تنافس من أجل زعامة العالم العربي: وهي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وعلى الرغم من مظاهر النوايا الحسنة والتضامن، فإن العلاقات بين هذا الثلاثي تتسم في غالب الفترات بالتنافس والعدائية.
وحتى الفترات القصيرة من التعاون بين القاهرة والرياض خلال العقود القليلة الأخيرة، فإنها كانت نتاجا لالتقاء المصالح أكثر من كونها صداقة. وكان المبعوث السعودي لدى لقائه بالرئيس عبد الفتاح السيسي خلال الشهر الماضي، قد أثنى على العلاقات الوطيدة بين البلدين. ولكن مؤخرا وجه السفير السعودي السابق في القاهرة اتهامات لرئيس وزراء مصري سابق بإنفاق 3 مليار دولار، من المساعدات المالية السعودية التي كانت مودعة في البنك المركزي المصري في 2013. وهكذا فإن التصريحين يقدمان انطباعات متناقضة جدا حول العلاقة بين القاهرة والرياض.
أما علاقات مصر مع الإمارات فإن تاريخها أقصر من ذلك، إذ أن دولة الإمارات تأسست منذ 50 سنة فقط، إلا أن هذه العلاقة أيضا تتسم بماض معقد. وعلى عكس السعودية فإن الإمارات تعتمد سياسة خارجية عدائية، وهو ما يفسر جزئيا على الأقل سبب التوتر بين أبوظبي والقاهرة. إلا أن محاولات مصر لسلك طريق مستقل خاص بها، لم تفلح في تحويل هذا البلد إلى قوة إقليمية. وعوضا عن ذلك تزداد هيمنة السعودية والإمارات بوصفهما قادة المنطقة.
تاريخ من الخلافات
في العام 1818 قاد إبراهيم باشا الجيش المصري لتدمير أول دولة سعودية، كان قد أسسها محمد ابن سعود ومحمد ابن عبد الوهاب في 1744. ثم في 1837 دخل جيش مصري آخر يقوده خورشيد باشا إلى نجد، المعقل الرئيسي للدولة السعودية الثانية. وتمكن من غزو محافظة الأحساء وإجبار البحرين والكويت وعمان على الخضوع للحاكم المصري محمد علي. ولكن بحلول العام 1840 وضعت معاهدة لندن حدا لحلم محمد علي بإقامة مملكة عربية، حيث أجبر على التخلي عن الأراضي التي قام بغزوها خارج مصر.
الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
خلال خمسينات القرن العشرين دخل الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي يعد من أبرز دعاة القومية العربية، في صراع مع الملك سعود الذي كان قلقا من الكاريزما والجاذبية التي يتمتع بها عبد الناصر وسط العرب ومن بينهم السعوديين. وقد تدهورت العلاقات بين الجانبين إثر الإنقلاب الجمهوري الذي شهدته اليمن في 1962، حين وصل الآلاف من الجنود المصريين إلى الأراضي اليمنية للدفاع عن الجمهورية الناشئة ضد القوى الملكية المدعومة من السعودية. وهدأت حدة الخلاف بين الجانبين على إثر حرب 1967 عندما ألحق الإسرائيليون الهزيمة بالمصريين، واحتلوا سيناء إضافة إلى غزة والضفة الغربية ومرتفعات الجولان. حينها تخلى عبد الناصر عن سياسته الإقليمية المثيرة للجدل، ثم جاءت وفاته في 1970 لتزيل أكبر تحد إقليمي كان يواجهه النظام الملكي السعودي.
بعد ذلك أدت اتفاقات كامب ديفيد في 1978 إلى تحييد تأثير مصر على العالم العربي، الذي بدأ يشهد تغيرا تدريجيا في مراكز القوة من القاهرة وبغداد ودمشق نحو المدن الخليجية الجديدة. وقد أدت هزيمة سوريا أثناء غزو إسرائيل للبنان في 1982، وفشل الرئيس حافظ الأسد في إقناع السوفييت بأقامة توازن عسكري استراتيجي مع إسرائيل، إلى كشف الضعف السوري والعجز عن التحول لقوة إقليمية. أما العراق فإن الهيبة العسكرية التي حازها بعد الحرب العراقية الإيرانية في 1988، فقدها بعد أن أقدم على غزو الكويت بعد عامين، وتعرض للهزيمة على يد تحالف تقوده الولايات المتحدة. وقد أدت الحروب والتغيرات الحادة والزيادة السريعة في التعداد السكاني في تصاعد مستويات الفقر في الجمهوريات العربية. وفي الأثناء شهد الخليج العربي ازدهار الصناعة النفطية، وهو ما أدى لظهور مدن متقدمة تنعم بتدفق الأموال، وباتت السعودية والإمارات منخرطتان بشكل متزايد في الشؤون السياسية الإقليمية، بما أن حرب العراق والحرب الأهلية السورية أدتا لإحياء الخلافات بين مصر وخصومها الخليجيين.
مقاربات أمنية مختلفة
في العام 2012 اعتبرت السعودية والإمارات أن انتخاب الرئيس محمد مرسي المرتبط بالإخوان المسلمين في مصر مشكلة بالنسبة لها. وهنالك اعتقاد قوي لدى ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بأن نجاح الإخوان المسلمين في بلد واحد سوف يكون له تأثير أحجار الدومينو في كامل المنطقة. كما أن الملك عبد الله في السعودية كانت لديه مخاوف من التحالف الناشئ بين مصر وتركيا وقطر، على الرغم من تطمينات محمد مرسي.
وقد مثلت الإطاحة بالرئيس مرسي في 2013 في انقلاب قاده عبد الفتاح السيسي الذي أخذ مكانه في الرئاسة، انفراجة مؤقتة إلا أنها لم تدم طويلا. إذ أنه بعد اندلاع الحرب في سوريا، دفعت الرياض نحو الإطاحة ببشار الأسد، فيما كانت القاهرة وأبوظبي عازمتان على إنقاذه من تمرد مسلح تسيطر عليه الحركات الإسلامية. وبالنسبة للسيسي ومحمد بن زايد، فإن صعود التيارات الإسلامية كان يمثل تهديدا وجوديا. أما حكام السعودية فإن أهم خطر كان يتطلب تحركا عربيا مشتركا بالنسبة لهم يتمثل في إيران. هذا إلى جانب موقف مصر الرافض لإرسال قوات لدعم الحرب التي تقودها السعودية في اليمن، ما خلف شقوقا عميقة في العلاقة بين البلدين.
وبعد شهرين من تولي الملك سلمان الحكم خلفا للملك الراحل عبد الله في يناير/ كانون الثاني 2015، أطلقت السعودية عملية عاصفة الحزم لإيقاف التقدم الحوثي في اليمن، قبيل القمة العربية المنعقدة في شرم الشيخ، أهم منتجع سياحي مصري في سيناء. وعندما التقى القادة العرب، اقترح السيسي تشكيل قوة عسكرية عربية تحت القيادة المصرية للدفاع عن وحدة أراضي الدول العربية. إلا أن الملك سلمان الذي كان يتوقع انتصارا سريعا في اليمن، رفض خطة السيسي، خوفا من أن تحيي الزعامة المصرية على الشؤون العربية. وفي وقت لاحق من ذلك العام انضمت القاهرة إلى التحالف العسكري الإسلامي بقيادة السعودية ضد الإرهاب، إلا أنه رفض إرسال ممثلين إلى مركز عمليات هذا التحالف في الرياض، معتقدا أن الهدف الحقيقي له هو مواجهة النظام السوري وإيران. (في الواقع أكثر من نصف الدول الأعضاء في هذا التحالف، من بينها تركيا وباكستان، رفضت أيضا إرسال ممثلين إلى الرياض). وقد رحبت مصر أيضا بالاتفاق النووي الإيراني في 2015، رغم المعارضة السعودية، وقالت إنها سوف تعتمد سياسة منفتحة تجاه طهران، وتدرس شراء النفط الإيراني.
وفي 2016 زار الملك سلمان القاهرة وطالب باستعادة جزيرتي تيران وصنافير اللتين تكتسيان أهمية استراتيجية في البحر الأحمر، وكانت السعودية قد تخلت عنهما لمصر في 1950. وقد وافق السيسي بما أنه كان يبحث بشكل مستميت عن المساعدة المالية. وفي أكتوبر/ تشرين الأول من نفس العام صدم السعوديين من تصويت مصر في مجلس الأمن الدولي لفائدة المقترح الروسي بإنهاء الأعمال العدائية في شمال سوريا، بينما كانت قوات النظام تطبق الخناق على شرق حلب التي يسيطر عليها الثوار. وعندما وصف السفير السعودي لدى الأمم المتحدة الموقف المصري بأنه مؤلم، رد السيسي بالقول: “لن نركع إلا لله”. وبعد شهر واحد أوقفت الرياض تدفق النفط إلى مصر، رغم وعود الملك سلمان بتواصل التدفق أثناء زيارته إلى القاهرة للمطالبة باستعادة تيران وصنافير.
ويرى المصريون أن السعوديين لا يقدرون حجم الصعوبة التي واجهها السيسي في إعادة الجزيرتين لهم: إذ أن عودتهما لمصر من السيطرة الإسرائيلية كجزء من معاهدات كامب ديفيد جعلتهما مسألة فخر وطني، والتخلي عنهما للسعودية اعتبر تقويضا للسيادة. ويرى المصريون أن السعودية تعامل مصر كتابع لها وليس شريك.
جزر مهمة استراتيجيا
وقد فشل الإماراتيون أيضا في التشاور مع مصر حول سياستهم الإقليمية، إذ أن أبوظبي والرياض لم تعرضا استخدام نفوذهما كمستثمرين هامين في إثيوبيا، للتأثير على المحادثات بشأن سد النهضة الاثيوبي، وهو مشروع له تبعات خطيرة على مصر كإحدى بلدان مصب النيل.
أبوظبي تسود
ترى الإمارات في تراجع الدور القيادي المصري فرصة بالنسبة لها. إذ أن أبوظبي كانت تشعر بالقلق من قرار الولايات المتحدة بعدم التدخل لمنع سقوط نظام الرئيس السابق حسني مبارك، وهو قرار ساعد على إقناع محمد بن زايد بتولي مسؤوليات أكبر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. (من جانبهم يرى المصريون أن محمد بن زايد هو شخص طموح بشكل معلن. فهو وضع خطة لغزو قطر بعد وقت قصير من بداية الحصار الذي قادته السعودية ضدها في 2017، الأمر الذي عارضه السيسي رغم العلاقة المتوترة بين القاهرة والدوحة).
ولا تزال مصر تمثل أهم شريك عربي لـ”إسرائيل”، إلا أن العلاقات القوية بين أبوظبي والولايات المتحدة و”إسرائيل” تثير قلق السيسي، الذي يشعر أيضا بمخاوف بشأن خسارة مصر لدورها كوسيط بين تل أبيب والدول العربية، وذلك بعد اتفاق تطبيع العلاقات بين الإمارات و”إسرائيل” خلال العام الماضي. وتضع أبوظبي نفسها في موقع الوسيط الجديد بين الإسرائيليين والفلسطينيين، خاصة وأن الرئيس جو بايدن يبدو عازما على استئناف محادثات السلام. وقد يجد الإسرائيليون والأمريكيون أن التواصل مع الإمارات حول هذه القضية أسهل بالنسبة لهم، بما أنها تعتمد مقاربة أكثر موضوعية.
ولم تشعر مصر بالرضا تجاه مساعي أبوظبي لإقناع السودان والمغرب بالاعتراف بـ”إسرائيل”، رغم أنها فضلت التزام الصمت. فهي تشعر بالقلق من أن التطبيع سيفتح الباب أمام المخابرات الإسرائيلية للتحرك بحرية في السودان. وبما أن الحكومة السودانية مهتمة بالتعاون الزراعي مع “إسرائيل”، فإن مصر تخشى من أن المهندسين الزراعيين الإسرائيليين قد يطورون محاصيل مستهلكة للماء بشكل كبير (مثل الأرز وحبوب الصويا والقطن والذرة)، وهو ما سيضعف حصة مصر من مياه النيل، كما فعلت أثيوبيا قبل ذلك.
ولا يمكن للسيسي التنافس مع الإمارات أو حتى السعودية، لأنه ليست لديه أية أيديولوجيا سياسية يروج لها في المنطقة. فقد نجح عبد الناصر في السابق في كسب قلوب الشعوب العربية من خلال تزعم الفكر القومي العربي، وتشجيع سياسة عدم الانحياز ودعم حركات التحرر في آسيا وأفريقيا. وقد يكون الإماراتيون عدائيين، إلا أنهم أيضا براغماتيون وقادرون على توفير الموارد المادية التي يحتاجونها لتحقيق أهدافهم والتواصل مع القوى الدولية. أما السيسي من جانبه فهو لا يزال ضابطا في الجيش، يحتاج لأن يتحول إلى رجل سياسة.
المصدر: جيوبوليتيكال فيوتشرز