يُسميهم البعض بالواهمين المهووسين، ويُطلق عليهم آخرون ألقابًا كالصيادين والنباشين في بطن الأرض، يمتهنون الكشف عن الذهب والكنوز التي تركها الغابرون من الأمم السالفة كالرومان واليونانيين والأتراك، يتحركون ليلًا بمعاولهم وترانيهم متمنين الثراء مع الخيط الأول للشمس.
في هذا التقرير لـ”نون بوست” حاولنا سبر أغوار هذا العالم الغريب، حيث تمتزج فيه التكنولوجيا المتطورة بالشعوذة والدجل، ورغم أنه التقاء غير موضوعي، يؤكد بعض النباشين في تونس أن الآلة و”العزيمة” لا يُمكن الاستغناء عنهما في رحلة الاستكشاف المضنية والخطيرة.
النباشون في تونس
لا يكاد يمضي يوم في تونس، دون أن تُعلن السلطات الأمنية كشفها لعصابات الاتجار بالآثار والتنقيب عن الكنوز، ما يفيد بأن هذه الظاهرة أصبحت منتشرة لدى فئات عديدة من التونسيين أي أنها لا تقتصر على المعطلين والمهمشين اقتصاديًا واجتماعيًا، ففي كثير من الأحيان تُميط القضايا اللثام عن تورط رجال أعمال ومسؤولين في الدولة مع شبكات دولية للاتجار في الكنوز والذهب.
على بعد 50 كيلومترًا من العاصمة التونسية وتحديدًا في جهة البطان التابعة لمحافظة منوبة، يجلس أحد الصيادين في زاوية لمقهى شعبي متصفحًا هاتفه بين الحين والآخر في إشارة إلى انتظاره لمكالمة مهمة، لكنه يجول أيضًا بناظريه في المكان مستكشفًا الأعين التي ترقبه في الخفاء.
بعد وساطة، أكد “إبراهيم” لـ”نون بوست” أنه نبش عن الذهب والكنوز الثمينة في أكثر من 10 محافظات شمالًا وجنوبًا ولمدة 14 عامًا، أنفق أموالًا طائلةً في أثناء رحلة البحث هذه، مشيرًا إلى أن الهوس بالمعدن الثمين لم ينقطع يومًا بسبب نجاحه أول مرة رفقة أصدقائه في استخراج قطعة أثرية باعوها قبل الثورة.
وأضاف المتحدث أن النبش عن الكنوز في تونس لا يقتصر على العاطلين والمعدومين، إذ انخرط في هذا المجال بعض المتنفذين وأصحاب الأموال، متابعًا: “بماذا تفسر تزايد أعداد الأثرياء الجدد في تونس؟ بالتأكيد هم الكناطرية (المهربون) وتجار الآثار الذين يجنون أموالًا طائلةً دون تعب أو شقاء، فالقطع تصلهم إلى حد أيديهم، هم يُحددون الثمن وإذا رفضت المبلغ المقدم إليك لن تستطيع بيعها بعد ذلك، عالمنا عالم صغير جدًا ومليء بالوشاة والمخبرين”.
وعن الأماكن التي ينشط فيها الباحثون عن الثروة، أكد إبراهيم أن القطع الأثرية الثمينة توجد أغلبها في محافظات التي عرفت تعاقب حضارات متنوعة كالقصرين ومدن الساحل ومحافظات بنزرت والكاف وجندوبة وبعض مدن الجنوب، مشيرًا إلى أن المناطق المحيطة بالعاصمة كقرطاج والبطان وأوتيك وزغوان هي الأخرى تزخر بكنوز مدفونة منها تماثيل الذهب والمرمر والقطع النقدية الرومانية والقناديل والمدافع الصغيرة الذهبية التي تركها الأتراك.
طرق البحث
(وجيه. م) أستاذ رياضيات مهووس بالبحث عن الآثار يؤكد من جانبه أن “ما يُحكى عن عالم الكنوز من أهوال ومخاطر، قد يجعلك تُفكر ألف مرة قبل الولوج إلى هذا الميدان، لكنه مغرٍ إلى أبعد الحدود”، مضيفًا في حديثه لـ”نون بوست” أن هناك من يعتمد على الخرائط وآلات كشف المعادن فقط، في حين أن أغلب الباحثين يميلون إلى الاستنجاد بالعزامة والعرافين (السحرة) فيستقدمونهم من المغرب، خاصة أن أغلب الأماكن محروسة بالجن والسحر والرصد.
بحسب المتحدث، فإن معرفة الأماكن التي تضم الكنوز ليست بالعملية العسيرة، إذ يمكن لأي الشخص التعرف عليها وتكون غالبًا من خلال بعض الرموز والرسومات كالنقوش الحجرية على هيئة حيوانات مثل الأفعى والسلحفاة والجمل وأشكال أخرى كالسهام والرحى وخمسة اليد، ولكل أمارة دلالتها التي تسهل البحث عن الكنوز.
بعد ذلك، تبدأ عملية فك التحصين بتحييد المانع أي حارس الكنز والوكيل وغالبًا ما يكون حيوانًا والأكثر تداولًا هو الثعبان والأفعى الكبيرة، بمجموعة متنوعة من البخور أقلها ثمنًا العنبر وأغلاها “اللبان الذكر” (نوع من العلكة)، إضافة إلى استخدام الزئبق الأحمر وطقوس أخرى يقوم بها مختصون لهم علم بكتب السحر القديمة وعلوم الجداول والتعزيم.
ووفقًا لعدد من صيادي الآثار، فإن “العزام” يستقدم الجان في المنطقة المختارة قصد استعمالهم للتواصل مع نظرائهم الساكنين في المكان من أجل تحديد مكان الدفينة، وهي عملية تتطلب القيام بالتربيعة كأن يأخذ أربعة حجرات أو بيضات ويخط فوقها أسماء أربعة من الجن (مازر وكمطم وطيكل وقسوره) وفي ذات الوقت يحمل جدولًا مكتوبًا فيه تلك الأسماء.
عملية الاستحضار أو الاتصال بين العزام (الساحر) ونفر الجان إضافة إلى حراس الكنز الأصليين المانع، قد تدوم ساعة أو ليلة كاملة تُقرأ فيها الطلاسم والتعويذات لكي تُفرج الأرض عن خزائنها، إلا أن الجان أو المانع (الرصد) قد يطلب أشياء أخرى تصل إلى تقديم القرابين (دم بشري)، ويُسميها الكنزيون بعملية “الاستنزال”.
لذلك، يذهب بعض المستجوبين إلى أن النقاط البنية أو السوداء التي تظهر في بياض عين الأشخاص وخاصة الأطفال، تعني لدى السحرة والعرافين أن دماء ذلك الشخص قادرة على إخراج الدفائن والكنوز المحصنة بسهولة، وهو ما يؤدي إلى اختطافهم وقتلهم في كثير من المناسبات.
المختار أو الزهوري له علامات أخرى تجعله هدفًا وطريدةً، كوجود خط يقطع راحة يده بشكل عرضي وأن يكون لسانه مفلوقًا بخط طولي وعينان تمتازان ببريق، إضافة إلى وجود تمزق طفيف في نهاية الجفن، وطبقًا لبعض النباشين، فإن الزهوري يرى أشياء لا يراها الإنسان العادي، فهو لا يرهب الجن ولا يؤثر فيه السحر، ويُمكنه أيضًا نقل الكنوز التي يخشى السحرة نقلها أو الاقتراب منها.
شبكات التواصل
عادة ما يميل اللاهثون وراء الآثار والكنوز إلى البحث عن دفائنهم في سرية تامة وحذر وتكتم شديدين، فيكون التواصل بينهم ليلًا حين تنقطع حركة الناس، إلا أن شبكات التواصل الاجتماعي كانت بمثابة المنصة التي وفرت لهم مساحات جديدة يتبادلون من خلالها الرسائل والإشارات، وبذلك انتقل الحديث عنها من الدوائر المغلقة التي تنحصر في الأواسط الاجتماعية الضيقة إلى مئات الصفحات التي تعني بتفسير الإشارات والتعابير الغامضة والدالة على أماكن دفن هذه الكنوز.
من هذا الجانب، فإن شبكات التواصل والإنترنت أصبحت فضاءً واسعًا ينشط من خلاله صيادو الآثار، فإلى جانب تحصيلهم للمعرفة بأسرار هذا المجال، فإنه سوق مفتوحة لبيع القطع الأثرية النادرة والكنوز الذهبية التي يصعب عرضها على التجار.
ويُعد الإنترنت المظلم (The Dark Web) ملاذًا للمافيات بأنواعها وللأنشطة غير القانونية كبيع السلاح والعملات المزورة وبطاقات الائتمان المسروقة والآثار، ويُمكن لروادها ومستخدميها إخفاء هوياتهم كما يصعب على السلطات مراقبة عمليات بيع الكنوز والاتجار بها.
من يشتري الكنوز؟
من خلال عملية التقصي، فإن أغلب الذين حاورهم “نون بوست” أكدوا أن بعض رجال الأعمال المحميين بقوة المال والعلاقات السياسية المتفرعة، يتحكمون في سوق الآثار ومسالك بيعها عبر شبكات معقدة يُديرها وسطاء، وغالبًا ما يتم تسريبها إلى الدول الأوروبية سواء في حقائب دبلوماسية أم عن طريق التهريب، وهذا الأمر يشمل الآثار المهربة من ليبيا.
ويزعم أغلب المتحدثين أن الكنوز المستخرجة من الذهب لا يتم بيعها إلا لليهود المعروفين بتجارة هذا المعدن، حيث يتم التواصل مع وسطاء مختصين عبر قنوات سرية تتم بمقتضاها عملية التعرف على القطع وتقييم قيمتها المادية، فيما يؤكد آخرون أن تجار الذهب في تونس “الصاغة” هم أيضًا زبائن لدى الصيادين، يشترون القطع ويذيبونها ثم يعيدون بيعها مرة أخرى في السوق دون مرورها بالهيئة الرقابية.
أما القطع الأثرية ذات القيمة، فيتم ترويجها بحسب رصد لـ”نون بوست” في محافظة سوسة وبالتحديد في مدينة الجم، حيث يُدير بعض رجال الأعمال شبكات التهريب والتجارة في الآثار ومنهم (ح. ف) و(ن. أ) و(ع. ر) المعروفين لدى صيادي وباحثي الكنوز بقدرتهم على تصريف القطع سواء في خارج البلاد أم داخلها، أما وسطاؤهم فيديرون المقابلات في الأحياء الراقية كالنصر والبحيرة وقمرت.
وقبل ثورة 14 يناير، كانت الآثار استغلالًا وتجارةً وتصريفًا حكرًا على النظام السابق، حيث كشفت التحقيقات عن تورط عائلات بن علي والطرابلسية والماطري في استغلال الآثار التونسية لتزيين قصورهم ولأغراض الرفاهية والترف، قُدر عددها بنحو 650 قطعةً أثريةً موزعةً بين نحوت وتماثيل ونصب كبيرة وصغيرة.
تحايل وجرائم
غالبًا ما ترتبط عمليات البحث عن الآثار والكنوز بقضايا وجرائم متفاوتة الخطورة ترتقي إلى حد القتل راح ضحيتها أطفال تم استغلالهم في عمليات استخراج الذخائر، وأشخاص آخرون قتلوا في أثناء الحفر والتنقيب.
وبعيدًا عن جرائم القتل، تشتغل عصابات التحايل على استغلال سذاجة بعض الناس لسلبهم أموالهم، فيوهمونهم بقدرتهم على استخراج الكنوز والذخائر الذهبية مقابل توفيرهم أجرة الساحر المستقدم من المغرب والبخور باهظ الثمن لفك الرصد وتحييد الوكيل.
يؤكد خبراء أن لا علاقة للجان برصد الذهب وبعلم الآثار وأن مزاعمهم محض خرافات بغرض الاحتيال، فالرموز والإشارات ليست إلا زخارف وعلامات منقوشة على الصخور المتناثرة في الفيافي والحجارة المتناثرة في المواقع الأثرية، وهي في الحقيقة نقوش ذات أغراض زخرفية مستوحاة من الحياة اليومية والمشاهد الطبيعية أو من التصورات ذات البعد العقدي والميثولوجي.
القانون التونسي
أرقام المحجوز من الآثار التي قُدرت بأكثر من 33 ألف قطعة أثرية خلال الفترة المتراوحة بين 2012 و2018، وقضايا التنقيب غير الشرعي (200) خلال الفترة نفسها دون احتساب الحفريات التي تسجل ضد مجهول، تؤكد أن السلطات التونسية عجزت عن وضع حد لهذه الممارسات رغم ترسانة القوانين المجرمة لهذا النشاط.
ويُعرض للسجن لمدة 5 سنوات وبغرامة قدرها 20 ألف دولار كل من ينقب أو يحفر أو غير ذلك من أعمال البحث بهدف التفتيش عن الآثار المنقولة أو الثابتة سواء بملكه أم بملك غيره دون الحصول على ترخيص مسبق من الوزير المكلف بالتراث.
وكذلك السجن لمدة 3 سنوات وغرامة تصل إلى 13 ألف دولار لكل من يكتشف بصفة عفوية آثارًا ثابتة أو منقولة أو يكتشف ممتلكًا أثريًا بالبحر ولا يعلم بها فورًا المصالح المختصة بالوزارة المكلفة بالتراث أو أقرب سلطة بالجهة.
يكمن القصور أيضًا في أن بعض القوانين تجرم النبش في المواقع المصنفة وذات الوضع القانوني الخاص، والحال أن مئات المواقع لا تخضع لهذا التصنيف أي أنها مجال خصب للنباشين دون تعرضهم لمساءلات قضائية.
في تونس، قضية المحافظة على الآثار مرتبطة أساسًا بمدى استقرار الدولة وتفعيل مؤسساتها المعطلة بفعل عطب الانتقال الديمقراطي، فمكافحة المتاجرة بالآثار تتطلب أولًا محاربة الفساد المستشري في البلاد الذي لم يعد يقتصر على موظف الدولة البسيط، ثم إعادة إحياء الانتماء الوطني والوعي الجمعي بضرورة حماية الهوية والتراث.