تتعدد الرسائل التركية والمصرية التي تهدف لإذابة الجليد في العلاقات بين البلدين خلال الآونة الأخيرة، ما دفع البعض إلى ترجيح احتمالية التقارب بين القاهرة وأنقرة بعد أكثر من 8 سنوات من الخصومة جراء الموقف التركي من الانقلاب العسكري على الرئيس المدني الراحل محمد مرسي في 2013.
الخلاف السياسي بين البلدين طيلة السنوات الماضية لم يمنع التواصل على مستويات أخرى، استخباراتية وأمنية بجانب المستوى الاقتصادي، لكنها كانت في إطارها الضيق، غير أن الأجواء خلال الفترة الأخيرة تحديدًا تذهب بالتواصل والتنسيق إلى آفاق أكثر وأعمق في ظل التحديات الإقليمية والدولية التي فرضت نفسها على الساحة الشرق أوسطية.
هناك نقلة نوعية في التصريحات الإيجابية الصادرة عن الجانب التركي تحديدًا، فالأمر لم يعد مجرد تصريحات عابرة من مسؤولين من الدرجة الثالثة أو الرابعة في البلاد، بل تجاوز ذلك إلى أعلى الهرم السياسي، حيث الرئيس رجب طيب أردوغان الذي أعرب عن رغبته في تعزيز التعاون مع مصر على المسارات كافة.
الموقف التركي أثار الكثير من التساؤلات على ألسنة الخبراء والمحللين الذين انبروا لقراءة ما بين السطور واستشراف مآلات تلك التصريحات، وهل من الممكن أن تشهد العلاقة بين البلدين مصالحة شاملة في ظل الملفات الخلافية الكبيرة بينهما أم أن الأمر لا يعدو كونه تنسيقًا من أجل المصالح المشتركة، فرضته المستجدات الأخيرة.
تصريحات إيجابية تركية
التصريحات التركية الإيجابية بشأن القاهرة شملت أردوغان ووزيري الخارجية والدفاع، هذا بجانب مسؤولين بحزب العدالة والتنمية، الأمر الذي يشير إلى توجه رسمي ورغبة حقيقية لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، فعلى لسان الرئيس التركي أمس الجمعة قال: “تعاوننا الاقتصادي والدبلوماسي والاستخباراتي مع مصر متواصل، ولا يوجد أي مشكلة في هذا” ورغم أن التنسيق بين البلدين لم يصل إلى مستوياته العليا لكنه يأمل في ذلك.
تزامنت تلك التصريحات مع إعلان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، بدء اتصالات دبلوماسية بين البلدين من أجل إعادة العلاقات إلى طبيعتها، وعدم طرح البلدين أي شروط مسبقة من أجل ذلك، قائلًا: “بدأنا اتصالاتنا مع مصر على الصعيد الدبلوماسي”، مضيفًا “لدينا اتصالات مع مصر، سواء على مستوى الاستخبارات أم وزارة الخارجية”، معلنًا “الأيام المقبلة ستشهد جولة مباحثات جديدة بين تركيا ومصر على المستويين الاستخباراتي والدبلوماسي”.
وزير الخارجية أكد في تصريحاته أنه “لا يوجد أي شرط مسبق، سواء من المصريين أم من قبلنا حاليًّا، لكن ليس من السهل التحرك وكأن شيئًا لم يكن بين ليلة وضحاها، في ظل انقطاع العلاقات لأعوام طويلة”، ولفت إلى أن تركيا ومصر قد تتفاوضان على ترسيم الحدود في شرق البحر المتوسط إن سنحت الظروف.
مضيفًا “يمكننا توقيع اتفاقية مع مصر من خلال التفاوض على المساحات البحرية وفقًا لمسار علاقاتنا”، متابعًا: “تلقينا بإيجابية نشاط مصر في التنقيب ضمن حدودها البحرية في البحر المتوسط وفق احترام حدودنا”، لافتًا إلى أن مصر “احترمت الحدود الجنوبية لجرفنا القاري، حتى بعد توقيع اتفاق مع اليونان ونفذت أنشطتها دون انتهاك حدودنا ونحن نعتبر ذلك خطوةً إيجابيةً”.
وقبل أسبوع تقريبًا صرح مستشار رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، ياسين أقطاي قائلًا: “من يمشي إلينا خطوة نمشي إليه خطوتين”، وذلك تعليقًا على تصريحات المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن لشبكة بلومبرغ، عن انفتاح بلاده على الحوار مع مصر، كما أعاد تلك التصريحات خلال لقاء تليفزيوني له أمس على قناة “مكملين” المعارضة المصرية التي تبث من تركيا.
#أقطاي حول تصريحات #قالن بخصوص انفتاح #تركيا على الحوار مع #مصر: هذه التصريحات جاءت بعد إعلان مصر أنها لن تتخذ خطوات تتجاهل أو لا تحترم ترسيم تركيا حدودها البحرية pic.twitter.com/aASHW6ZbFT
— TRT عربي (@TRTArabi) March 8, 2021
ترحيب مصري متحفظ
جاء الموقف التركي انعكاسًا للموقف المصري في بعض المواقف التي تشير إلى رغبة القاهرة في تخفيف حدة التوتر مع أنقرة وإن لم يتم التعبير عن ذلك بصورة مباشرة، البداية كانت في 18 من فبراير/شباط، حين طرح الجانب المصري أول مزايدة عالمية للتنقيب عن البترول والغاز الطبيعي واستغلالهما لعام 2021، للتنقيب في خليج السويس والصحراء الغربية وشرق وغرب البحر المتوسط.
المزايدة أخذت بعين الاعتبار حدود الجرف القاري لتركيا، وهو ما ثمنته أنقرة بشكل كبير، كما جاء على لسان المتحدث باسم الرئاسة التركية الذي علق قائلًا: “مصر قلب وعقل العالم العربي، ولديها دور مهم في المنطقة”، وفقًا لما نشرته قناة “TRT عربي”.
وأضاف المتحدث أن هذا الموقف يمكن البناء عليه من أجل تخفيف التوتر بين البلدين، مضيفًا “يمكن فتح فصل جديد، ويمكن فتح صفحة جديدة في علاقاتنا مع مصر ودول الخليج الأخرى للمساعدة في السلام والاستقرار الإقليميين”، لافتًا أن بلاده مهتمة بالتحدث مع مصر عن القضايا البحرية في شرق المتوسط، بالإضافة إلى قضايا أخرى في ليبيا وعملية السلام والقضية الفلسطينية.
الموقف ذاته تبناه وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، الذي ثمّن احترام مصر للجرف القاري التركي خلال أنشطتها للتنقيب شرقي المتوسط، لافتًا إلى أن هذا الأمر يعد تطورًا مهمًا يعكس عمق العلاقات بين البلدين، وذلك خلال كلمة له على هامش إشرافه على مناورات “الوطن الأزرق 2021” البحرية التي انطلقت ببحري المتوسط وإيجة في 25 من فبراير/شباط الماضي واختتمت فعاليتها 7 من مارس/آذار الحاليّ.
موقف آخر يراه محللون رغبة مصرية في ترك باب الحوار مع أنقرة “مواربًا” يتعلق باتفاق تعيين الحدود البحرية الموقع بين مصر واليونان، حيث ذهب خبراء إلى أن الجانب المصري عمد خلال الاتفاق إلى وجود ثغرة يمكن من خلالها تعديله مستقبلًا ودخول تركيًا طرفًا فيه.
الخبراء أشاروا إلى أن الاتفاق مع اليونان ليس نهائيًا، وسيتم استكماله لاحقًا، وأن ما أُبرم ليس سوى اتفاق أولي، لكن حين تدخل مصر أو اليونان في مفاوضات مع دول أخرى تشترك مع أحد طرفي الاتفاق في مناطق بحرية ربما يتم إعادة صياغته مرة أخرى وإدخال هذا الطرف، وهي الثغرة التي فسرت أن المقصود بها تركيا.
هذه الثغرة أثارت قلق اليونان بصورة كبيرة، وفق ما أشارت صحيفة “ذا انديكيتور” اليونانية التي كشفت أن أثينا تلقت معلومات بشأن تقارب تركيا مع مصر وأن هذا التقارب من شأنه أن يضر بالمصالح اليونانية مستقبلًا، مضيفة وفق ما نقل موقع “دويتش فيله” فإن المشكلة تكمن في أن الخطوط الرئيسية لإحدى المناطق البحرية في المتوسط لم يتم التعامل معها كما هو متفق مع اليونان، بل يبدو أنها تم تنظيمها مع تركيا.
يذكر أنه لم يصدر أي رد فعل رسمي من القاهرة بشأن الرسائل التركية، إلا أن وكالة “رويترز” نقلت عن مصدر مصري مسؤول – لم تذكر اسمه -، أنهم تلقوا طلبًا من الاستخبارات التركية لعقد لقاء في القاهرة، وهو ما اعتبره البعض تحفظًا مصريًا لحين قراءة المشهد بتفاصيله.
التحديات التي فرضتها التحركات الأمريكية المستجدة في المنطقة سواء على الساحة اليمنية أم الفلسطينية واللبنانية والعراقية، بجانب المسألة الكردية وثروات شرق المتوسط وتقاسم النفوذ في سوريا، بجانب التصعيد أو التهدئة مع إيران، كل هذا يتطلب تفاهمًا مصريًا تركيًا وربما سعوديًا
لماذا الآن؟
الكاتب الصحفي عبد العظيم حماد، رئيس التحرير الأسبق لصحيفتي “الأهرام “و”الشروق”، في مقال له على صفحته الشخصية على فيسبوك، استعرض عددًا من الدوافع والأسباب التي تقود إلى ضرورة تخفيف التوتر بين أنقرة والقاهرة والعمل معًا في عدد من الملفات حفاظًا على مصالحهما الإستراتيجية في المنطقة.
أول تلك الأسباب التمدد الإسرائيلي على كل المستويات، من المشرق العربي والخليج إلى المغرب مرورًا بالقرن الإفريقي وجنوب البحر الأحمر، وهو التمدد الذي يقترب من مرحلة الهيمنة الإستراتيجية، الأمر الذي لا بد أن يقلق كلًا من مصر وتركيا على مصالحهما ودوريها في الإقليم الذي تنتمي إليه الدولتان بأكثر مما تنتمي إليه دولة الاحتلال.
كذلك نجاح دور البلدين في ليبيا الذي توج بقرار التسوية السياسية الدولي واختيار حكومة تمثل الشعب الليبي، ما أدى إلى انتفاء احتمالات نشوب مواجهات عسكرية مسلحة مباشرة أو بالوكالة بين القوتين، ما يمكن أن يكون نقطة انطلاقة نحو تعاون أكثر في ملفات إقليمية أخرى.
ويرى حماد أن مصر وتركيا هما القوتان الوحيدتان المتماسكتان الآن في الإقليم، بعد تمزق العديد من القوى التي كانت تشغل حيزًا كبيرًا من الثقل الإقليمي وعلى رأسها العراق وسوريا، بجانب انكفاء الجزائر نسبيًا، وتعقد المشهد السعودي في ضوء تحفظات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على التعامل مع ولي العهد، ومن ثم القلق مما قد يحدث، ما يتطلب وقف التناحر بينهما حفاظًا على ثقلهما ودورها في المنطقة.
التحديات التي فرضتها التحركات الأمريكية المستجدة في المنطقة سواء على الساحة اليمنية أم الفلسطينية واللبنانية والعراقية، بجانب المسألة الكردية وثروات شرق المتوسط وتقاسم النفوذ في سوريا، بجانب التصعيد أو التهدئة مع إيران، كل هذا يتطلب تفاهمًا مصريًا تركيًا وربما سعوديًا لما لتلك الدول الثلاثة من دور محوري في شتى تلك الملفات.
متحدث الرئاسة التركية: #مصر هي قلب وعقل العالم العربي، ولديها دور مهمّ في المنطقة pic.twitter.com/VjUCstXjei
— TRT عربي (@TRTArabi) March 8, 2021
تنسيق مصالح أم مصالحة؟
انقسم المحللون حيال تلك الأجواء الإيجابية المتبادلة من الطرفين بشأن التقارب إلى فريقين، الأول يذهب إلى منطقة بعيدة نسبيًا من هذا التقارب حيث المصالحة الشاملة وعودة العلاقات بين البلدين بصورة كاملة، وهو التصور المستبعد إلى حد ما، في ظل حزمة الملفات الخلافية بين الطرفين التي من الصعب التوصل إلى تفاهمات مرضية بشأنها في الوقت الراهن، بجانب الضغوط التي قد تمارس على القاهرة من حلفائها الإقليميين للحيلولة دون إتمام هذه الخطوة.
ومن أبرز تلك الملفات التي تجعل من عملية المصالحة أمرًا صعبًا ملف المعارضة المصرية واستضافة تركيا لرموز جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من تيارات المعارضة الأخرى، بجانب وجود بعض القنوات المناوئة للنظام المصري فوق أراضيها، فضلًا عن المواقف التركية الرسمية حيال بعض الملفات التي تتعارض شكلًا ومضمونًا مع موقف القاهرة.
على مدار السنوات الماضية رفضت تركيا الاستجابة لمناشدات الجانب المصري بوقف قنوات المعارضة التي تبث من هناك، لافتة إلى أنها لا تملك السيطرة عليها كونها قنوات خاصة مستقلة غير خاضعة للدولة، وهو الطلب الذي كانت قد تقدمت به لقطر قبل ذلك بشأن قناة “الجزيرة”، الذي لم تستجب له الدوحة رغم إبرام اتفاق المصالحة في العلا، يناير/كانون الثاني الماضي.
الاتصالات الدبلوماسية الجارية الآن بين البلدين، وما سبقها من تنسيق استخباراتي، تندرج تحت إطار تنسيق المصالح، في فترة يحتاج كل طرف فيها إلى الآخر في أكثر من ملف
اللافت للنظر أن عناصر الإخوان لم تكن موجودة في تركيا وفقط، فهي منتشرة في العديد من العواصم الأوروبية كذلك لا سيما لندن وواشنطن، وتنشط هناك بصورة ربما أكبر مما هي عليه في إسطنبول، ومع ذلك لم تصعد القاهرة ضد تلك الدول ولم تجمد علاقتها الدبلوماسية معها، وعليه يرى البعض أن ملف الإخوان لم يكن الملف الحيوي في مسار العلاقات بين البلدين.
علاوة على ذلك الموقف التركي الرسمي من الانقلاب العسكري في 2013، وتوجهها السياسي حيال نظام عبد الفتاح السيسي، الذي تعتبره أنقرة لا يمثل الشعب المصري، وعليه جاءت التحركات لدعم العلاقات بين البلدين (استخباراتية واقتصادية وأمنية) بعيدًا عن الأنظمة الحاكمة.
أما الفريق الثاني فيميل إلى أن الاتصالات الدبلوماسية الجارية الآن بين البلدين، وما سبقها من تنسيق استخباراتي، تندرج تحت إطار تنسيق المصالح، في فترة يحتاج كل طرف فيها إلى الآخر في أكثر من ملف، مراعاةً للمستجدات والتطورات سالفة الذكر التي تجعل من استمرار الخصومة مخاطرة تهدد مصالح الجانبين.
حزمة الملفات التي تتقاطع فيها مصالح البلدين في الشرق الأوسط كبيرة لدرجة ربما تدفع القاهرة وأنقرة إلى العودة للوراء قليلًا لإعادة النظر في بعض التوجهات، بما يمهد نحو أرضية مشتركة لتدشين موقف دبلوماسي متقارب حيال تلك الملفات، بما يعزز مصالح الشعبين.
أنصار هذا الفريق يستبعدون أن تتجاوز الاتصالات الحاليّة هذا الخط البرغماتي المرسوم، فالملفات الشائكة بينهما تتجاوز فكرة تباين المواقف السياسية إلى ما هو أبعد من ذلك، فالأزمة السياسية عميقة بدرجة كبيرة يصعب معها القفز فوق الخلافات.
رأي آخر فرض نفسه بخصوص توقيت الرغبة في عودة العلاقات بين البلدين، لافتًا إلى أن المكاسب الاقتصادية المتوقع تحققها عبر التعاون في أكثر من ملف لا سيما شرق المتوسط هي المحرك الأسياسي لهذه الخطوة، لكن آخرين أشاروا إلى أن العامل الاقتصادي وحده لا يصلح لعودة العلاقات، فلا بد من تنسيق سياسي كامل في القضايا الإقليمية التي لا يستطيع طرف واحد من الطرفين التحرك فيها بمفرده في ظل التدخلات الأجنبية الكبيرة من أوروبا وأمريكا وروسيا.
وفي الأخير فإنه من السابق لأوانه تقييم هذه النقلة النوعية في مستوى الخطاب السياسي بين البلدين، التي يجب أن توضع في سياقها الطبيعي دون تهويل أو تحقير، الأمر الذي يلقي بالكرة في ملعب الطرفين، في انتظار ما يمكن تقديمه لترجمة هذه الاتصالات إلى قرارات ميدانية، وحتى هذا الحين تبقى تلك التصريحات التغازلية بين الطرفين – التي لم تكن الأولى من نوعها خلال الأعوام الأخيرة – لا تفارق مكانها حتى إشعار آخر.