لطالما كانت تواجه تركيا مشكلةً في مجال الدفاع الجوي، نظريًا، يصعب تفهم المشكلة، لأن تركيا تمتلك جيشًا ضخمًا من الناحية البشرية وأراضي شاسعة من حيث المساحة، تتطلب الدفاع عنها، في وقت تربطها حدود مترامية مع أعداء تاريخيين وقوى إقليمية مثل روسيا وإيران.
كما أن تركيا عضوٌ في حلف شمال الأطلسي، ليست كأي عضو، بل هي الدولة الثانية من حيث حجم المشاركة في قوة الحلف، فكيف لدولة بهذه الإمكانات والاحتياجات والمقومات أن تواجه مشكلة في تدبير احتياجاتها من وسائل الدفاع الجوي؟
الإجابة ببساطة: أن تركيا لم تكن، في السابق، تملك القدرة الفنية والإرادة السياسية اللازمة لتصنيع منظومة دفاع جوي محلية الصنع بالكامل، كما أن حلف الناتو كان يتعامل مع الأتراك وفق سردية: لا خطر منا، دعونا نحميكم من الآخرين، وما يسري علينا يسري عليكم.
والمحصلة، أن طلبات تركيا لشراء منظومات دفاع جوي متطورة كانت تقابل بالرفض غربيًا، ومدد بقاء المنظومات الغربية المتطورة مثل “باتريوت” في الأراضي التركية كانت محدودة ولا سيطرة للأتراك عليها، تأتي إليهم بصعوبات شديدة وتذهب بعد وقت قليل.
ويعتمد الأتراك في حماية مجالهم الجوي على بعض المنظومات العتيقة، الغربية والمحلية، بالإضافة إلى استخدام سلاح الجو وطائرات الإنذار المبكر، وهو أمرٌ مكلف وغير عملي، لأن الدفاع الجوي المتطور يعتمد على الطبقات المتعددة، التي تبدأ بالكشف الأرضي الفضائي (الرادار) والكهروبصري، ويكون التعامل بالصواريخ أفضل وأقل كلفةً من الطلعات الجوية.
حصار أو
ما الذي تغير؟ الجديد في الأمر كان ما أعلنه إسماعيل دمير مدير مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية (SSB) التابعة مباشرةً لمؤسسة الرئاسة في تركيا: لقد تجاوزت منظومة “حصار أو”(Hisar – O) محلية الصنع الاختبارات القياسية التي صممها الخبراء لاختبار المنظومة.
إذًا، لدينا خبران هنا، الأول أن المنظومة كما أوضح دمير صناعةٌ محلية بالكامل، والثاني أنها نجحت بالفعل في تجاوز الاختبارات القياسية، وهو ما يعني أن القيادات التركية لا تتحدث عن مشروع، وإنما تتحدث عن منظومة دخلت الخدمة بالفعل، وسيبدأ إنتاجها الكمي وتوريدها إلى سلاح الدفاع الجوي بالجيش.
يحتفي الأتراك عادةً بكل منتجاتهم الدفاعية أولًا بأول، بسبب أن هذا المجال، مجال الصناعات الدفاعية، ظل بعيدًا عنهم للغاية لسنوات طويلة بفعل الضغوط الخارجية، ولأسباب تسويقية تتعلق بالرغبة في البحث عن زبائن خارجيين لكل منتج من هذه المنتجات.
يعتمد الأتراك في حماية مجالهم الجوي على بعض المنظومات العتيقة، الغربية والمحلية، بالإضافة إلى استخدام سلاح الجو وطائرات الإنذار المبكر
لكن الجديد في “حصار”، من النسخة “أو”، كما أوضح مدير الصناعات الدفاعية التركي أن هذه المنظومة تعد تطويرًا جديدًا لمنظومة مطورة جرى اختبارها منذ 3 أشهر فقط، أي أننا دخلنا في سلسلة تطويرات لمنتج عكف المهندسون الأتراك على تطويره منذ 14 عامًا كما أوضحت المصادر.
المنظومة هي نتاج تعاون ثنائي بين شركة “أسيلسان” لتكنولوجيا الصناعات الدفاعية وشركة “روكيستان” لصناعة الصواريخ، وجرى تطويرها من النسخة المطورة التي اختبرت مؤخرًا (حصار إيه +)، بحيث تعمل في المديات المتوسطة، وهي بذلك أبعد المنظومات المحلية في المدى وأطولهم ارتفاعًا، حيث يصل مداها إلى 25 كيلومترًا، وتستخدم في الأساس لحماية المنشآت الحساسة والإستراتيجية.
المديات القصيرة
منذ عام تقريبًا، أعلن الرئيس التركي رجب أردوغان نشر منظومة حصار على الحدود مع سوريا، بحيث تحمي قوات بلاده المنتشرة في نقاط المراقبة بالشمال السوري، على خلفية الاشتباكات الجوية مع قوات النظام وتبادل إطلاق النار بين الطرفين.
في هذا التوقيت، قال نائب قائد القوات الجوية الروسية السابق في نظام الدفاع الجوي المشترك للدول الأعضاء في رابطة الدول المستقلة الفريق الاحتياطي آيتيش بيجيف لصحيفة “فزغلياد” الروسية متحدثًا عن المنظومة المنصوبة: “ستحمي القوات التركية من شتى الهجمات الجوية السورية، وستضطر الطيران السوري حال أراد الهجوم على القوات التركية إلى العمل من خارج مدى المنظومة أو اتباع تكتيكات مختلفة”.
منذ ذلك التوقيت، خضعت منظومات “حصار” إلى تطويرين: أحدهما الإصدار السابق متوسط المدى الذي تحدث عنه دمير منذ أيام بعد تجاوزه الاختبارات القياسية، والآخر وهو ذو مدى أقل، كشفه الرئيس التركي منذ 3 أشهر خلال افتتاح القسم الثاني من الطريق السريع الذي يربط أنقرة بولاية نيدة، بعد أيام من فرض وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية.
قال أردوغان متحدثًا عن النسخة “حصار إيه +” (Hisar A +) ديسمبر/كانون الماضي: “لقد فضلنا تأخير هذه التجربة عدة أشهر، والسبب في ذلك أن بعض قطع هذه المنظومة كانت تستورد من الخارج، لكنها لم تسلم لنا، وهو ما دفعنا لتصنيع تلك القطع وتطويرها بقدرات محلية صرفة بفضل من الله، وتم إدخالها إلى مخزون قواتنا المسلحة. العقوبات الأمريكية ضد تركيا لا يمكنها أن تمنعنا من العمل، بل هي دافع لنا للاعتماد على الصناعة الدفاعية الوطنية”.
تتعقب العائلة الأهداف بواسطة نظام رؤية بالأشعة تحت الحمراء وآشعة الليزر، وتبلغ المدة من رصد الهدف إلى إطلاق الصاروخ 4 ثوانٍ
النسخة المطورة التي كشف أردوغان تجاوزها الاختبارات القياسية منذ 3 أشهر (حصار إيه +) يبلغ مداها بعد التطوير 15 كيلومترًا، وبشكل عام فإن عائلة “حصار”، سواء التي استخدمت على الحدود السورية أم النسختين اللتين تجاوزتا الاختبارات مؤخرًا، تستطيع إطلاق الصواريخ المزودة برؤوس حربية شديدة الانفجار عموديًا، من خلال منصة إطلاق محمولة على عربة متحركة بسرعة 65 كيلومترًا/ ساعة.
وتتعقب العائلة الأهداف بواسطة نظام رؤية بالأشعة تحت الحمراء وأشعة الليزر، وتبلغ المدة من رصد الهدف إلى إطلاق الصاروخ 4 ثوانٍ، وتستطيع إصابة 6 أهداف في وقت واحد، بفاعلية 360 درجة، وقد لبت النسخة التي استخدمت خلال عملية “درع الربيع” والنسخة التي كشف أردوغان تجاوزها الاختبارات القياسية (حصار إيه +) الاحتياجات الدفاعية التركية في المديات القصيرة التي تمثل إزعاجًا للجيوش عند التعامل مع الطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة بكثافة، فيما تلبي النسخة التي كشفها منذ أيام الاحتياجات الدفاعية التركية ضد خطر المقاتلات والمروحيات على مدى 25 كيلومترًا.
إس 400
في الـ12 من يوليو/تموز عام 2019، وصلت إلى قاعدة مرتد الجوية شمال غرب أنقرة 4 منظومات من طراز S- 400 الروسية، كانت تركيا قد تعاقدت عليهم عام 2017 بقيمة 2.5 مليار دولار، مع إرسال طواقم من كوادرها في الدفاع الجوي للتدريب عليها في الأراضي الروسية.
كما هو معلوم، فإن الولايات المتحدة الأمريكية مارست على تركيا أقصى ضغط ممكن بغرض منعها من إتمام الصفقة، سواءً بالاستبعاد من برنامج “إف 35” بعد استلام المنظومات مباشرةً أم بفرض عقوبات تقنية على قيادات مؤسسة الصناعات الدفاعية كما حدث منذ 3 أشهر.
بعد 3 أشهر من استلام البطاريات، فرضت أنقرة قيودًا على المجال الجوي والبحري في مدينة سينوب الساحلية على البحر الأسود، مع ملاحظة آثار انفجارات تالية، فيما فسر لاحقًا أنها تجارب محلية أجراها الفنيون الأتراك لاختبار المنظومات بشكل عملي داخل الأراضي التركية.
آخر المستجدات بشأن التفاوض الأمريكي التركي على مصير الصفقة، كان نفي الأتراك عرضهم وضعًا يشابه وضع منظومات “إس 300” القبرصية، حيث وافقت الأخيرة على نصب بطاريات المنظومة الروسية المتطورة في كريت اليونانية بدلًا من قبرص بعد الضغوط التركية عام 1999، ولم يتم تشغيل المنظومة إلا في تدريبات عام 2013.
نفى الأتراك رسميًا طرح هذا العرض، لتعمل إس 400 الروسية جنبًا إلى جنب مع منظومات “حصار المحلية” التي تخدم في المدى القصير والمتوسط، فيما تخدم الأولى في المدى البعيد، حيث يمكنها كشف حتى مسافة 600 كيلومتر، وتتبع نحو 300 هدف في نفس الوقت، والتنبيه من خطر المقاتلات من مسافة 240 كيلومترًا، وتدمير الصواريخ الباليستية من مدى 60 كيلومترًا، وإطلاق 72 صاروخًا في وقت واحد، يمكن لنصفهم إصابة أهداف ممكنة، ولا يتعدى زمن نشر المنظومة من الحركة أكثر من 5 دقائق.
المستقبل
باتت تركيا تمتلك واحدًا من أقوى الدفاعات الجوية في العالم، شق لا يستهان به محلي، بعد أن كانت تستجدي حلفاءها وخصومها من أجل توريد عدد من المنظومات الدفاعية، لتنصبها هنا أو هناك، بشكل مؤقت، ويعاد استردادها من جديد.
الخطط المتناثرة التي يحاول الباحثون والصحفيون تجميع أطرافها، تبدو متكاملة وواضحة عند المسؤولين في الجيش التركي
وفي منتصف مارس/آذار الماضي، قال مدير الهيئة الفيدرالية الروسية للتعاون العسكري التقني ديمتري شوغاييف في تصريحات لوكالة “إنترفاكس” الروسية إن الأتراك أخطروهم بالرغبة في الحصول على المزيد من منظومات “إس 400″، لكن الصفقة ما زالت في مرحلة التفاوض على المحتويات ومعاد التوريد والقيمة، خاصة أن تركيا تريد المشاركة في التصنيع، وهناك توتر مع الولايات المتحدة بخصوص هذا الشأن.
وتخطط تركيا إلى إخضاع منظومات عائلة “حصار” إلى مزيد من التطوير في السنوات القادمة، بحيث يصل مداها الأقصى إلى 80 كيلومترًا، لكي تغطي مسافات أكبر في الدفاعات الصاروخية متعددة الطبقات، مع السماح بتصديرها مستقبلًا إلى الحلفاء، في ظل الطلب المتزايد على الأسلحة التركية، سواء من المسيرات أم القطع البحرية.
هذه الخطط المتناثرة التي يحاول الباحثون والصحفيون تجميع أطرافها، تبدو متكاملة وواضحة عند المسؤولين في الجيش التركي، إذ بات هناك إصرارٌ على تحقيق “الاستقلال الكامل” من المنتجات الدفاعية، ولم يعد الاكتفاء الذاتي في هذا المجال خيارًا في ظل العقوبات المفروضة سرًا وعلانيةً، كما قالت مؤسسة الصناعات الدفاعية ودائرة الاتصال التركية مؤخرًا.
التأثر إيجابيًا بالضغوط الخارجية بدلًا من التراجع بات يشبه العقيدة لدى صانع القرار التركي، كما قال أردوغان بعد فرض الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على بلاده بموجب قانون “كاتسا” نهاية العام الماضي، مشيرًا إلى أن تركيا تعرضت لعقوبات مماثلة بسبب العملية العسكرية خارج الحدود عام 1974، فما كان منهم إلا أن ردوا على العقوبات بجمع التبرعات لإنشاء قلاع عسكرية دخلت لاحقًا في مصاف أفضل الشركات في العالم، وهو ما سيتكرر مع العقوبات الحاليّة: “إن تركيا ستسرع الخطى من أجل الوصول إلى الريادة العالمية وتحقيق الاستقلال”، قال الرئيس التركي.