ليس سهلًا على الإنسان أن يبذل نفسه، بيد أن التضحية ملجأً للراكضين خلف حرية مسورة بالبارود، ومشربة بدماء تهليلة أخيرة لجثة جاثمة على فراشٍ وثير، لا تعكس مدى غلاظة القلوب، تنفيسة أخيرة لجسد هامد، مصفاة من كل خوف، لم يزل أثرها حاضرًا حتى اليوم، وجسدٌ ترك نفسه للوخز والنخس، ليرفع من سقف الحياة الواطئ، ويقيم ظهر الغلابة الكابي، ليت الشباب يعود يومًا ليضرم “فريد” بيده النار في نفسه مرة أخرى، مقدمًا قربانًا لآلهة المنع والكبح، لأسياد البنادق ومشرعي القتل، لهذا فقط، قد يبعث يسوع الأسود، ليبذل نفسه مرة أخرى.
أي يسوع؟ وأي مسيح؟
في لجة الصراع الدائر، اغتيل مالكوم إكس، وظهرت جماعة “الفهود السود” كرد فعل صارم لما يتجرعه المجتمع الأسود من اضطهاد وتنكيل بشكل صريح وضد كل مبدأ إنساني، وهكذا اندفع فريد هامبتون لينسل وسط الجموع، منضمًا للجماعة، يرى فيها ما يحسن الأوضاع المستقبلية للأجيال القادمة.
وفي وقتٍ قصير بعمرٍ صغير يترأس فريد حزب الفهود السود، ويجمل منهجية أبيه الروحي ملكوم إكس في إدارة الحزب، الاتحاد قوة، لا يمكن استخدام السلاح في غير موضعه، لكن إذا استدعى الأمر سيحمل سلاحًا ويوجهه للخنازير/الشرطة كما كانوا يسمونهم في الفيلم، ويكرس حياته ليخدم الناس مدافعًا عن حريتهم ومحاولًا توحيدهم.
تدور حكاية الفيلم لتتبع حياة فريد كفيلم سيرة ذاتية غير نمطي، لأن شخصية فريد الرئيسية لا تحمل إلا نصف الحكاية، والنصف الآخر يحمله بيل أونيل وهو شاب طوحته الحياة يمينًا ويسارًا، يتحين أي بادرة للخلاص من الفقر والانحلال الذي يعانيه المجتمع الأسود، غير عابئ بأي نوع من السياسة أو الكفاح لقضية، إنه مجرد شاب عادي، في طريقه ليصبح مجرم تكتب عنه الصحف، أخلاقه منحطة، يعيش حياته دون ملامح، يزور شارة ضابط عميل إف.بي.أي ليطوع الضحايا الذي يسرق سياراتهم ويجابههم بسهولة وينفلت هاربًا مثل الشعرة في العجين، سارق سيارات يهمه اليوم، ولا يهمه المستقبل لأنه لا يراه.
بيل أونيل: الشارة مروعة أكثر من أي سلاح.
الضابط روي ميتشل: أشرح لي؟
بيل أونيل: أي شخص أسود من السهل عليه أن يحوز سلاحًا يا سيدي، أما الشارة فتعني وجود جيش كامل يقف وراءك.
يهوي بيل في إحدى سرقاته، وتساومه الشرطة التي كانت في حاجة لتجنيد شخص داخل حزب الفهود السوداء، إما أن يبيع نفسه للحكومة ويندس داخل الحزب ليعمل كجاسوس للحكومة، وإما يدخل السجن لسبع سنوات بسبب جرائمه، هذه المساومة تعني حياته، مقايضة ليست حرة بل مرهونة بفكر برغامتي بحت، التفكير في الذات المحببة، أو الخيانة غير المحببة بيد أنها المخلصة.
وبالفعل يندس بيل كعضو في حزب الفهود السود، يتحين الفرص ليتقرب من الرئيس فريد ويتسمع الأخبار لينقلها للعميل روي ميتشل، وهل في هذا سوء؟ يحاول بيل ألا يسوء نفسه، بضع أيام ويقع فريد في يد الحكومة وتنتهي المأمورية ويندفع ليعيش حياةً جديدةً، بينما ينخرط فريد في إدارة الحزب، ويحاول مد جسور تعاون بين الجماعات والأحزاب الأخرى مثل جماعة “التيجان” The Crowns ويكون ما يمسى “تحالف قوس قزح” ناتجًا عن تحالف ثلاثي مع منظمة الشباب الوطنيين، ومنظمة القادة الصغار.
تتصاعد الأحداث، وينغمس بيل داخل الحزب، يترقى لمرتبة المسؤول عن أمن الحزب، يقبض على فريد ويسجن ظلمًا، ويترك حبيبته حاملًا.
يعتني بيل بالأمور كأي رجل مخلص للحزب، يحرق مقرهم فيعيدون بناءه بالمساعدات الخيرية، بيد أن بيل تحول إلى يهوذا حقيقي، أصبح مصدر ثقة تامة في الحِزب، حتى إن الضابط رآه في أحد الخطابات كرجل حقيقي يعكس كراهية مؤكدة للشرطة، وشعر بالخطر.
وعلى الجهة الأخرى تحول فريد الشاب إلى مسيحي حقيقي بعد خروجه من السجن، وتضاعف عزمه على الدفاع عن القضية، مصدقًا على ثورته المؤكدة.
يسوع مؤكدًا ويهوذا متخبطًا
في أغلب الأفلام، عند حضور ثيمة/شخصيتين متوازيتين للمسيح ويهوذا، يكون من السهل معرفة من هو المسيح، تكون دائمًا ملامح مؤكدة، لا تخرج القصة من إطار الخير والتضحية في رسم الشخصية.
من الجيد هنا أن ملامح الشخصية مرسومة بالفعل من قبل، أغلب المشاهدين يعرفون من هو فريد هامبتون، قرأوا عنه في قصاصات الجرائد أو شاهدوا وثائقيًا أو حتى أفلام ومقاطع مصورة سابقة تتماهي مع جودة الشخصية وحضورها التاريخي المهم في مسار جماعات النضال – المسلح أو المسالم – الأمريكي، لكن من المهم والمفيد للكثير من الأفلام هو ألا يعرف المشاهد من هو يهوذا، وهذا يرجع للموتيفات الذي يستخدمها المخرج للكشف عن شخصية الخائن، بيد أنه بالطبع من الجيد بالنسبة للمشاهد عدم معرفة شخصية الشر في الفيلم أو الخيانة، هذا عامل مساعد لإبقاء المشاهد حازقًا لكل كلمة ومنتبهًا لكل حركة لأنه ببساطة لا يعرف من أين ستأتي الضربة.
بيد أن هنا، وفي بعض أفلام السيرة الذاتية، يعمل المخرج على تطوير شخصيتين معروفتين سابقًا، شخصية الطيب وشخصية الشرير، وهذا ما فعله المخرج شاكا كينغ في فيلمه الروائي الثاني، إذ استغل كل مساحة ممكنة، فعرف أن شخصية فريد ذات وجه واحد، لا يمكن تطويرها أكثر مما يمكن أخذه عن الرواية التاريخية، فطور شخصية بيل بشكل يفسخ له المجال ليخطف الأنظار.
أراد منا المخرج أن نعرف من هو يهوذا أكثر من المسيح نفسه، منذ أول لحظة في الفيلم، كأنه يشير لبيل ويؤكد، هذا هو يهوذا، هذا هو الخائن، انتبهوا إليه، واستطاع أن يمنحنا شخصية يهوذا مركبة، ليس من السهل كتابتها على الإطلاق، شخصية تحمل كل خيبات الأمل الممكنة، تقف في وجه الريح، بين السلطة المطلقة التي تجذبه بالمزايا والمستقبل، وذويه من أنصاف الأحلام التي تحبو على الأرض أملًا في غد أفضل، ويضعنا المخرج بين صراعين مهمين تتطور الشخصية بما تختاره منهما.
يعمل الضابط روي على تحفيز بيل بكل الطرق الممكنة، يأخذه إلى بيته، يملًا عينه بما يراه من مطاعم فاخرة، يغذيه بشعور كراهية هائل ضد فريد، يشعر بيل أنه يقف ضد السلطة المطلقة، لا تعطيه مجالًا للاختيار، السلطة المطلقة هي من تشرع القوانين، وتحِل الأخلاق، لا يقف الضابط عند الترغيب، بل ما يعطيه باليمنى يأخذ باليسرى عن طريق الترهيب بالسجن والتنكيل.
يقف بيل على مسافة واحدة بين الترهيب والترغيب، وفي النهاية يتم وضعه أمام اختيار أخلاقي مهم، يمكن للرجل أن يسرق في مرة ويمكن حتى أن يخون من أجل مستقبله، لكن ماذا عن القتل، يتم تحفيز بيل طوال الفيلم إلى هذه اللحظة، ومثلما حدث مع المسيح، يهوذا الخائن الحقيقي، بثلاثين قطعة فضية يبيع نفسه، نحن لم نر يهوذا الحقيقي، بيد أننا نشاهد يهوذا الأسود، إنه يواجه نفسه، لا يريد قتله، ولا حتى أن يكون سببًا في ذلك.
يشعر بعيوننا نحن تشاهده، يفقد شعوره بالأمان، الآن ليس عليه فقط أن يمثل بحذر دور الشاب المخلص للحزب، لكن عليه ـ إذا رفض التواطؤ ـ أن يجابه الشرطة، يذهب للحانة لينتشي، فيشعر بعين تلاحقه، ستخدره يا يهوذا، أشباح الشرطة تحوم حوله، ستلاحقه إلى الأبد، سيموت أبشع موته إذا لم ينجز المطلوب.
يتوحد المشاهد مع بيل يشعر كم هو رخيص، الآن قد خسر نفسه، وخسر صديقه في السلاح، يسلط المخرج الضوء هنا حول تفاهة وفردانية الإنسان ضد النظام السلطوي، غياب نظام أخلاقي واجتماعي يجعل من الممكن الخيانة.
في نهاية الأمر، تفاقم الشعور بالذنب لدى بيل لدرجة الانتحار، شأنه شأن يهوذا، الذي امتلأ بالألم والتهمه الندم حتى الموت.
لقطات مضيئة
شخصية بيل هي شخصية مثيرة للاهتمام، حاول شاكا كينغ أن يصنع حكاية موازية للأصلية ويجعلهما تتقاطعان في النهاية، وأراد أن تكون القوتان المتصادمتان حاضرتان في أغلب المشاهد، بيد أن ــ أنا لا أعرف إذا كانت هذه نقطة قوة أم ضعف ـ كفة يهوذا أكلة كفة المسيح، وأضحت الشخصية الثانوية أقوى من الأصلية الذي تتمحور حولها القصة، وهذه نقطة يمكن الحديث عنها باستفاضة، هناك الكثير من الأفلام التي تعملَقَت فيها الشخصيات الثانوية/الدور الثاني لتغطي نوعًا ما على الشخصية الرئيسية، لكن وجود الممثل الرئيسي دانيال كالويا ساوى بين الكفتين، بأداء لائق وحضور يعطي للشخصية جاذبية مميزة.
هناك بعض المشاهد المميزة التي تمثل شحذًا وتحفيزًا للانقسام الذي يعانيه بيل أونيل، أشدهم تكثيفًا هو مشهد خطاب، بعد خروج فريد هامبتون من السجن، يقف بيل أونيل ـ يقوم بدوره الممثل لاكيث ستانفيلد الذي قام بدور أراه الأقوى بين أبطال الفيلم، ولا أعرف حجة لمحكمي الجوائز خاصة الغولدن غلوب في إغفاله حتى في الترشح لجائزة أفضل ممثل مساعد، وليس الفوز بها ـ في مقدمة الصفوة التي يصحبها معه في كل مكان.
يردد الجماهير بعنفوان اسم فريد وهو يردد معهم، إنما تتغير ملامح وجهه عندما يلاحظ أن العميل روي ميتشل بين الجماهير، يرشقه بنظرة إمعان وامتحان، فينكمش بيل داخل نفسه، تنطفئ عينيه، ويتغير وجهه، هنا تظهر كيفية انشطار الدماغ، التكثيف الواضح في الممارسة، الحكي، الصراخ باسم رئيس الحزب هو فِعل فاضح لدخيلة الشخصية، حتى لو أخذته اللحظة بشكل مؤقت، وساوره الشك في أفعاله، كان يجب أن يسقط في فخ الواقع، وجود عميل الFBi في الموقع ذاته، مع عدوه اللدود، أحدث صدامية مدهشة بالمشهد.
مشهد آخر، هو مشهد موته في النهاية، اللقطة القريبة لوجه الحبيبة، التي تحمل طفل فريد أدى غرضه بشكل جيد، وأعطى انطباعًا باستمرارية النضال، وبقاء القضية مهما تغيرت الوجوه إلى الأبد.
استخدم المخرج اللقطات القريبة والمتوسطة لكي يأخذ انطباعات وردود فعل الشخصيات، بحيث لعبت الوجوه الدور الأكبر في الفيلم، الكثير من اللقطات القريبة من وجه فريد وبيل أظهرت الصراعات التي يمرون بها بسهولة وسلاسة على الشاشة، وفي النهاية كان هناك يسوع أسود، في عالم خالٍ من المعجزات، لم يعرف أن يهوذا يتربص له.