بعد 18 عامًا تقريبًا من سيطرة حزب العدالة والتنمية على مقاليد الحكم في تركيا، ونفس المدة من تسيد الرئيس رجب أردوغان المشهد السياسي وسيطرته عليه رئيسًا للوزراء ورئيسًا للجمهورية، أطل الرئيس التركي على مدار شهر مضى وحتى الساعات الأخيرة قبل كتابة هذا التقرير على الرأي العام في بلاده يبشرهم بتحولاتٍ إيجابية جديدة، على المستويات السياسية والاقتصادية والقانونية، فما هذه التحولات؟ وما سياقها؟ هذا ما نحاول معرفته في هذه الإطلالة السريعة.
إصلاحات اقتصادية
أهم ما أُعلن عنه خلال اليومين الماضيين، كان إطلاق الرئيس التركي رجب أردوغان رسميًا لخطة أو حزمة الإصلاح الاقتصادي التي طالما تحدث عنها مؤخرًا خلال الفترة الماضية، في حفل رسمي، مؤكدًا أنها ستساهم في دفع اقتصاد البلاد إلى الأمام، وتحقيق أهداف خطة 2023.
كان الرئيس التركي في خطابه مرتبًا واضحًا، مقدمة وتفاصيل ونتائج ووعود، حيث دارت المقدمة بشأن المناخ السياسي المستقر الذي وفره وجود حزب العدالة والتنمية على رأس الحكم خلال الأعوام الماضية، بدلًا من أشكال الحكم الائتلافية أو النزعات الفوضوية التي كانت تمنع البلاد من القدرة على مواجهة الأزمات الاقتصادية. هنا، كان الرئيس التركي يتحدث بلسان السياسي الذي يمثل حزبًا ينافس آخرين على السلطة.
الأزمة التي برهنت على متانة الطرح السياسي الذي يتبناه حزب الرئيس التركي، العدالة والتنمية، هي أزمة وباء كورونا، سواء من الناحية الصحية أم الاقتصادية التي تمثل موضوع الخطاب، أمس الجمعة.
فقد تسبب هذه الأزمة على حد قول الرئيس التركي، في انكماش الاقتصاد العالمي بنسبة 3.5%، وتراجع التجارة بنسبة 10% والاستثمارات الدولية المباشرة بنسبة 42% وارتفاع الدين العالمي إلى 282 مليار دولار، مع زيادات غير مسبوقة منذ نحو عقد في أسعار الأغذية والمواد الخام وعلى رأسها الحديد.
الاقتصاد التركي من وجهة نظر سيادية يحتاج إلى إصلاحات هيكلية، لم يقل الرئيس التركي سبب دفع هذه الإصلاحات حاليًّا أو عدم وجودها من قبل
ومع ذلك، فقد تمكنت الحكومة التركية بفضل الإصلاحات المتعاقبة في البنية التحتية الصحية بشريًا وتقنيًا، وفي منظومة الضمان الاجتماعي التي جرى توسيعها خلال الأزمة لتشمل معظم الفئات المحتاجة من تجاوز الأزمة، إذ حقق الاقتصاد التركي نموًا صافيًا بقيمة 1.8% العام الماضي، ليصبح بذلك الاقتصاد الوحيد، إلى جانب الصين، الذي يحقق نموًا حقيقيًا في منظمة العشرين الكبرى في العالم، وفقًا لأردوغان.
أشكال الإصلاح
رغم هذا التقدم في ظل الأزمة العالمية التي أردت اقتصادات وقطاعات صحية لدول كبرى، فإن الاقتصاد التركي من وجهة نظر سيادية يحتاج إلى إصلاحاتٍ هيكلية، لم يقل الرئيس التركي سبب دفع هذه الإصلاحات حاليًّا أو عدم وجودها من قبل، لكن ما يستشف من كلامه أنها إصلاحات تهدف إلى علاج بعض المشكلات في الاقتصاد وتفادي بعض الأزمات السابقة، لتعطيه دفعةً استباقيةً لإبقائه في حالة النمو، حيث يستهدف أردوغان أن يكون اقتصاد بلاده ضمن الاقتصادات العشر الكبرى في العالم.
أهم القطاعات الاقتصادية التي ستشهد إصلاحات بموجب الحزمة الأخيرة هي القطاعات التي تقف في منطقةٍ بينيةٍ بين الرياضيات النظرية والمال والقانون، مثل الضرائب والموازنة والتمويل المصرفي.
ومما يستشف من خطاب الرئيس التركي أنه جرى “تفصيل” هذه الخطة من اقتصاديين خلال الفترة الماضية على مقاس الحالة التركية، بحيث تؤدي إلى المرجو منها، دون عواصف وهزات كبرى على الهياكل الأساسية في الاقتصاد، إذ تركز على الحوكمة والرقمنة والنماذج الإحصائية ذات القدرة على التنبؤ ومراجعة أنماط الإنفاق والشفافية والحداثة والمحاسبة، أكثر من كونها قرارات ثورية.
على سبيل المثال، سنجد أن من ضمن الإجراءات التي أعلنها الرئيس التركي في الحزمة، مراجعة رؤوس الأموال غير المدرجة في الموازنة المركزية وتقليل الإجراءات التي تتم خارج الموازنة، وذلك من أجل تحقيق الوحدة في الموازنة، مع نشر تقرير مالي دوري كل 3 أشهر، متضمنًا أوضاع الموازنة ودراسة تأثير العوامل غير المتوقعة والخارجة عن السيطرة على الوضع المالي العام في الدولة.
في مجال الضرائب، أعلن أردوغان عددًا من القرارات التي من شأنها طمأنة كل الأطراف المهتمة بالملف، مثل الإعفاءات لأصحاب الأعمال الصغيرة حتى لا تؤثر الضرائب والأزمة العالمية الحاليّة على أعمالهم فتفقد الضرائب معنى كونها واجبًا من صاحب النشاط للدولة إلى أن تتسبب في غلق النشاط، بالإضافة إلى تفعيل تطبيق دائرة الضرائب لسداد المستحقات الحكومية عن بعد بسهولة ومراجعة اتفاقيات منع الازدواج الضريبي في النشاطات العابرة للحدود، ووضع نماذج إحصائية مسبقة لتحديد النسبة الضريبية المتوقع فرضها على الأنشطة منعًا للمنافسة غير العادلة.
وفيما يخص التمويل والقطاع المصرفي، قال الرئيس التركي إن الحزمة الإصلاحية تتضمن قانونًا لتطوير قطاع “التمويل التشاركي” ليتم جمع القطاع تحت مظلة واحدة وإنشاء مجلس استشاري للقطاع وآلية تحكيم دولية وإعادة هيكلة لمركز المخاطر الذي تجمع فيه كل البيانات الائتمانية، بالإضافة إلى توطئة البيئة القانونية والمصرفية أمام المولود المالي الجديد الأكثر إثارة للجدل: العملات الرقمية.
كل الدساتير التي مرت على البلاد، بما فيها الدستور التركي الحاليّ، صاغها ضباط جيش انقلبوا على حكومات مدنية ومسارات ديمقراطية ناشئة
تهدف هذه الحزمة من ضمن ما تهدف إلى الحد من الدين العام، وبالأخص كما قال الرئيس التركي الدين الأجنبي لصالح تعزيز الاقتراض الداخلي بالليرة والحد من التضخم وعجز الموازنة وتعزيز سلاسل الإنتاج المحلية وجذب مزيد من المستثمرين عبر إجراءات أقل بشريةً وأكثر رقابةً وشفافية، وفي سبيل ذلك أعلن أردوغان أيضًا نظامًا رقميًا جديدًا للمساهمة في الرقابة على المشتريات العامة، ولجنة وزارية من وزارات الخزانة والصناعة والطاقة والتجارة لمراجعة التضخم دوريًا.
دستور جديد
من المعروف أن الاقتصاد والسياسة صنوان لا ينفصمان، وقبل أن يعلن الرئيس التركي حزمة الإصلاحات الاقتصادية الجديدة التي تستهدف تنمية ما يجب تنميته وتقليل ما ينبغي تقليله هيكليًا عبر إجراءات محددة ومزمنة، أعلن منذ شهر تقريبًا أيضًا الدعوة إلى صياغة دستور جديد للبلاد.
برر الرئيس التركي هذه الدعوة، بأن كل الدساتير التي مرت على البلاد، بما فيها الدستور التركي الحاليّ، صاغها ضباط جيش انقلبوا على حكومات مدنية ومسارات ديمقراطية ناشئة، وأنه حان الوقت للخروج من هذه الدائرة المغلقة.
بالفعل، فقد عرفت تركيا 3 دساتير في العصر الحديث، الدستور الأول هو دستور عام 1924 الذي أنهى الخلافة العثمانية نظريًا وأسس تركيا التي نعرفها، ودستور عام 1960 الذي صاغه ضباط منقلبون، ودستور عام 1980 الذي صادق عليه بعد عامين، وجرت للمفارقة محاكمة وإدانة الضباط الذين قادوا الانقلاب المرتبط به عام 2010.
وبينما يقول أعضاء وقيادات في حزب العدالة والتنمية التركي إن الفرصة سانحة بالفعل لصياغة دستور جديد يكتبه مدنيون في الأساس وتستفتى عليه الأمة التركية، حيث جرى إبعاد الجيش عن الحياة المدنية إلى حدٍ كبير بعد الانقلاب الفاشل منذ 5 أعوام، وما تلاه من إجراءات عقابية بحق المتورطين فيه، وتنظيمية لتقليل النفوذ غير العسكري للجيش وتقريب الضباط غير المتورطين في الانقلاب، ومع الإصلاحات الاقتصادية المنتظرة، تدخل البلاد عصرًا جديدًا من سيادة القانون، يشكك معارضون في نوايا الرئيس التركي، فكيف يفكر أردوغان؟ وما سبب التزامن التقريبي بين هذه الإصلاحات الداخلية الهيكلية؟
عهد جديد
تمثل هذه المرحلة من حيث التوقيت ما يمكن تسميته إن جاز التعبير مفترقًا زمنيًا على مختلف الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، فقد بات هناك رئيس أمريكي جديد يضمر العداء لحزب العدالة والتنمية ومن المنتظر أن يبقى في الحكم 4 أعوام قادمة، وبناءً على هذه الحقيقة بدأت كل الأنظمة تعيد ترتيب بيتها الداخلي.
كما أن حزب العدالة والتنمية ينتظره بعد عامين من الآن انتخاباتٌ شاملة على مستوى البلديات والرئاسة، وبلا شك فإن الحزب لا يود تكرار المأزق الذي وقع فيه بالانتخابات الأخيرة عندما خسر بلديتي إسطنبول وأنقرة، وقد بات للرئيس التركي أيضًا أكثر من خصم شخصي ممن كانوا أصدقاء الأمس، مثل عبد الله غول وأحمد داوود أوغلو، والجميع يتحين لحظة تنحيه عن المشهد، إما انتقامًا من سياساته وإما لتغيير الوجوه الحاكمة.
ما أعلنه أردوغان رفع سقف التوقعات من خلال الحديث عن دستور جديد، وهو ما يمكن ربطه بشخصيته الثورية التي تعود عليها الشعب من البداية
ومن المفترض أن تركيا والعالم في الطريق إلى التعافي من آثار جائحة كورونا، حيث كان الأمر متوقفًا بطبيعة الحال على اكتشاف “لقاح” فعال قابل للتداول من جهة التخزين والثمن، وبالفعل باتت هناك حزمة من اللقاحات التي تتنافس كل دولة على تلقيح مواطنيها بها، وهو ما أشار إليه الرئيس التركي في حديثه يوم الجمعة، عندما ذكر ضرورة تطعيم الشعوب الفقيرة لأغراض نفعية حتى إذا لم يكن هناك دوافع أخلاقية، من أجل تسريع التعافي العالمي.
وكان الرئيس التركي قد شرع بالفعل منذ نوفمبر/تشرين الماضي في إجراء إصلاحات اقتصادية تدريجية بدأت مع استبعاد صهره بيرات البيرق من وزارة الخزانة والمالية بسبب غياب القدرة على التحكم في الأسواق المالية الداخلية، ليحل محله وزير جديد هو لطفي إلڤان، بالإضافة إلى رئيس جديد للبنك المركزي هو ناجي أغبال.
في هذا التوقيت، علق محللون مثل تناس كاراغول أن المواطنين بدأوا يفقدون الثقة في العملة المحلية، الليرة، لصالح سلة العملات الأجنبية، وبالأخص الدولار، إلى حد تجاوز حجم الودائع الأجنبية نظيرتها المحلية في المصارف التركية لأول مرة منذ عام 2001، وهو ما يحتاج إلى مراجعة اقتصادية شاملة من الحكومة، لبحث الأسباب الخارجية والداخلية التي أدت إلى هذا الوضع وسبل التعامل معه.
ليتحدث الرئيس التركي بعد ذلك أمام الرأي العام المحلي عن عهد جديد على مختلف الأصعدة قائلًا: “سنعد بلادنا للعهد الجديد من خلال تنفيذ الاحتياجات التي ستتشكل بالتشاور مع كل الأطراف القانونية وممثلي القطاع العام والخاص والسلطات التشريعية والتنفيذية”، لكن ما أعلنه أردوغان عمليًا “رفع سقف التوقعات من خلال الحديث عن دستور جديد، وهو ما يمكن ربطه بشخصيته الثورية التي تعود عليها الشعب من البداية”، كما يقيم المستجدات الأخيرة مستشاره ياسين أقطاي.