معظم الثورات التي شهدتها المجتمعات العربية منذ العام 2011، قامت في الأصل من أجل توسيع المشاركة الشعبية بالدول التي قامت فيها، ومن أجل إعادة الاعتبار للمجتمع والشعب، أي من أجل استرداد الحقوق التي سلبتها قوى الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في كل مجتمع.
حدثت نجاحات وتغييرات جزئية في بعض الدول، كما في تونس والجزائر والمغرب، كما يمكن الكلام عن تقدم ثم تراجع في مصر، بينما لم يحدث ذلك في اليمن وليبيا وسوريا، ففي سوريا مثلًا، بدأ الحراك على شكل محاولة لاسترداد الحقوق وللمطالبة بالمشاركة الشعبية في القرار الوطني، من خلال توسيع مشاركة ممثلي الشعب والسماح بتشكيل الأحزاب وإعادة بناء الديمقراطية، غير أن ظروفًا معقدةً داخليةً وخارجيةً أخذت الحراك باتجاه الثورة الشاملة من أجل استرداد الدولة والوطن من قبضة السلطة الحاكمة.
أظهرت أحداث الثورة السورية أن النظام لا يجد أي مشكلة في التضحية بالوطن ككل مقابل الحفاظ على الحكم المطلق، وإن لم يكن متوقعًا أن يصل الأمر به إلى هذا الحد من التفريط، إلا أن السؤال عن وطنية العائلة الحاكمة كان دائمًا مطروحًا بين الناس، ويمكن القول إن غياب المواطنة التي تحدد على أساسها الحقوق والواجبات كان واحدًا من المبررات الأكثر قوةً للثورة، لكن الشك بالانتماء الوطني للفئة الحاكمة (بمعنى محبة الوطن والانتماء له) كان من بين المبررات الأساسية لاستمرار الثورة ضدها.
غير أن كراهية نظام الأسد لم تكن مفاجئة لي على المستوى الشخصي، فلم يكن سقف توقعاتي عاليًا فيما يخص وطنية العائلة الحاكمة في سوريا، لكن المفاجئ فعلًا ويستحق الوقوف عنده مطولًا، غياب الوطنية عند شرائح واسعة من المعارضين والثائرين ضد هذه العائلة، ولا أتحدث هنا عن غياب قيم المواطنة، بل أقصد ضعف مشاعر الانتماء والوطنية ومحبة الوطن عند عموم السوريين، أي غياب ما لا يمكن الاستغناء عنه للتأسيس للمواطنة ولدولة القانون والحقوق والواجبات.
خلال السنة الأولى للثورة ظهرت ملامح وطنية إيجابية كانت أقرب إلى الطابع الملحمي، ظهرت بشكل أساسي من خلال الأغاني واللافتات الثورية التي عكست مشاعر الانتماء للبلد والتضامن بين المناطق والفئات الاجتماعية المختلفة، لكن مع الوقت ومنذ أن تحولت الثورة إلى حرب، وبعد أن تم تغييب الرعيل الأول للثورة من خلال التهجير والقتل والاعتقال، أخذت الأمور منحى مختلفًا تمامًا حتى على مستوى المشاعر المؤسسة للانتماء الوطني العام.
لا تجد عند غير الإسلاميين استحضارًا لمفردات الدين والتراث كالتوثين والتصنيم، بل تلاحظ عندهم كراهيةً مباشرةً تظهر على شكل شتائم مباشرة بالوطن والمجتمع
أزعم في هذه المقالة القصيرة وجود خلل في مسألة الانتماء الوطني اليوم على المستوى الوجداني الجمعي، بل يمكنني أن أتحدث عن حالة أطلق عليها “كراهية الوطن” عند عموم السوريين، وأزعم أيضًا أنها حالة عابرة للانتماء الطائفي والأيديولوجي عندنا، وللأسف فإن هذه من الحالات النادرة التي يجتمع فيها السوريون، أو أكبر عدد منهم، على حالة أو رأي معين، فأخيرًا اجتمعنا على شيء.. اجتمعنا على كراهية الوطن!
حالة الكراهية العامة العابرة للأيديولوجيا لا تخفي نفسها عند الإسلاميين مثلًا، فموقف الإسلاميين عمومًا من الوطن ومن مفهوم الوطنية ملتبس وتحوم حوله الشكوك، ويعود ذلك في تقديري إلى عدم وجود تعريف أو وصف واضح للدولة وحدودها في العصر الإسلامي الأول، وكان هذا أمرًا طبيعيًا في ذلك الوقت، حيث كانت الإمبراطوريات دائمة التوسع والتراجع.
وفي العصر الحديث ارتبطت هذه المفاهيم في الذهن الإسلامي بسقوط المجد الإسلامي وصعود الحضارة الغربية، فأصبحت الوطنية بمثابة الوثن أو الصنم الذي يقف حجر عثرة أمام استعادة دولة الخلافة المنشودة، ونشأت في الربع الأول من القرن العشرين الجماعات الإسلامية التي تنظر إلى الوطنية كوثن وإلى الوطن كصنم، وما زالت هذه الجماعات مستمرة إلى اليوم دون أي مراجعة واضحة أو تقدير موقف معلن من مسألة الوطنية والانتماء، وظهرت هذه المشكلات في سوريا بعد أن تحولت إلى بؤرة تستقطب الإسلاميين من كل أنحاء العالم، وظهرت ممارسات يظهر منها غياب الانتماء الوطني وتعريفاته في الحالة السورية.
وإلى الآن ترى من الإسلاميين على وسائل التواصل الاجتماعي من يكتب عن توثين الدولة الوطنية والقومية طالما أنها دولة عربية، بينما ينظر غالبيتهم بإعجاب شديد لدول وطنية وشديدة القومية (لدرجة التعصب) في دول مجاورة غير عربية، فمثلًا أغلبهم يشيد بالتجربة التركية والماليزية، وأغلبهم كانوا من مؤيدي إيران أيضًا، علمًا بأن هذه الدول قامت أصلًا على أساس الانتماء الوطني والقومي لدرجة التعصب، ولولا رسوخ هذه الوطنية – التي يراها الإسلاميون السوريون وثنًا – لما استطاعت هذه الدول الاستمرار وتحقيق شيء على أرض الواقع.
من ملاحظتي الشخصية لمفهوم الوطنية عند عموم الإسلاميين السوريين والعرب أرى أنهم يدورون في حلقة مفرغة وعدمية، ولا تفضي إلى شيء إلا كراهية الوطن، وفي النهاية سيكون كل منهم تابعًا لدولة وطنية قومية كما هو حالهم اليوم مع تركيا، وكما كان حالهم في الأمس مع إيران.
من جهة أخرى، لا تجد عند غير الإسلاميين استحضارًا لمفردات الدين والتراث كالتوثين والتصنيم، بل تلاحظ عندهم كراهية مباشرة تظهر على شكل شتائم مباشرة للوطن والمجتمع، وباعتقادي تصلح وسائل التواصل الاجتماعي مساحة للتأمل ولسبر المواقف الجماعية، وهي أكثر قربًا للواقع من المقالات والكتب المنمقة، وأعتقد أيضًا أن أجهزة استخبارات عديدة ترصد هذه المواقع لسبر المزاج الشعبي العام في كل بلد.
على وسائل التواصل الاجتماعي السورية يمكن للمهتم أن يرصد بسهولة شتائم بشعة موجهة للوطن دون أن يشعر صاحبها بأنه سيتعرض للمساءلة أو الاعتراض من متابعيه ذوي التوجه الواحد غالبًا، فمن غير النادر أن تُشتم سوريا على لسان سوريين صاروا في الغرب عندما تحلو لهم المقارنة بين احترام الإنسان في الغرب وانتهاك كرامته في سوريا.
ومن المتكرر جدًا أن يُشتم الوطن مع وضع صور الشبيبة والطلائع وأي شيء له علاقة بحزب البعث أو أفكار السلطة الأسدية، ومن المتكرر أيضًا أن يتم السخرية من عبارة “دمشق الياسمين” أو من دمشق نفسها ومن كل ما يتعلق بالمدن السورية عندما يحب ناشط أن ينشر صورته تحت برج إيفل مثلًا أو حين يقارن بين تمديدات الغاز في كندا وطوابير الغاز في سوريا، وطبعًا حين نقارن الحريات بالاستبداد الأسدي لا بد تأتي شتيمة الوطن تلقائية لا تحتاج إلى تبرير، وهكذا.
الأغرب من كل هذا، أن يصبح هذا السلوك ملازمًا لحالة التمرد والثورة عند عموم الناشطين والثائرين، فصرنا كلما عبرنا عن تمردنا على هذا الوطن، وكلما أظهرنا كراهيتنا الجذرية لكل ما فيه، ظهر الواحد منا أكثر ثوريةً واحترامًا وقد يحصد عددًا أكبر من اللايكات أيضًا، حتى إن أحدهم كتب يوصي بعدم دفنه في سوريا! لاحظ أخي القارئ أنك أمام مأساة نصف شعب مهجر، ونصف آخر يعاني من أجل الحصول على الخبز والغاز والكهرباء وسقف يستره، ومئات آلاف المعتقلين والمقتولين، لكن شخصًا ناشطًا الآن في أوروبا أو كندا يخشى أن ينقل الشعب رفاته المقدسة إلى سوريا التي يكره.
الثورات حين تقوم فهي تقوم بهدف تحرير أو استرداد وطن من قبضة مستعمر أو ديكتاتور كاره للوطن، أي أن الثورة تموت عمليًا مع موت الانتماء
وهنالك أيضًا شريحة غير خاضعة للتصنيف الأيديولوجي (فلا هي مصنفة إسلامية ولا علمانية ولا ليبرالية ولا قومية)، هي شريحة شعبية ببساطة، وتعبر عن كراهيتها للوطن بأسلوبها أيضًا ولأسباب مختلفة، فلان مثلًا كان يتعرض للتعنيف من والده.. يشتم الوطن، فلانة أجبرتها عائلتها على الزواج من فلان.. هل تكتفي بشتم عائلتها مثلًا؟ لا أبدًا.. تلعن سوريا كلها بذكورها وإناثها، فلان رأى أن البلد لم تقدر إبداعاته الخرافية أو فلان كان والده يجبره على الاستيقاظ لصلاة الصبح.. يحقد على سوريا كلها، وهكذا، فالوطن مستباح لكل من لديه قصة وهموم شخصية.. لكن من في العالم كله لا يملك قصةً؟!
لا يقتصر الأمر على وسائل التكاره الوطني فحسب، بل يمكن أن نرصد بعض ملامح التشوه في الأدب المكتوب أيضًا، فقبل الثورة السورية ببضع سنوات كتب السوري فادي عزام نصًا يشتم فيه حكام دمشق يقول فيها: “إنها دمشق يا أولاد القح*ة”، في محاكاة ربما لقصيدة مظفر النواب الذي قال مخاطبًا الحكام العرب: “أولاد القح*ة.. لست خجولًا حين أصارحكم بحقيقتكم”.
لكن هذا الانحياز للشعوب المغلوبة على أمرها وللمدن العريقة في مواجهة الحكام تغير بعد الثورة بشكل واضح، ولقد لاحظت أن كاتب رواية أيام في بابا عمرو – المكتوبة عام 2012 – استعار نفس الشتيمة السابقة لكنه وجهها للشعب الصامت هذه المرة على لسان الشخصية الرئيسية في الرواية، قائلًا: “أبناء القح*ة أنتم أيها الصامتون طيلة عقود من الزمن”، ولم يتح لي شخصيًا أن أطلع على الروايات التالية للكاتب نفسه حتى أعرف إن كان الآن راضيًا وهو في مهجره عن “أبناء القح*ة” بعد أن ثاروا وتم تهجير الملايين منهم وقتل واعتقال مئات الآلاف أم ليس بعد!
في المحصلة يلتقي مزاج الكراهية العام للوطن السوري مع مشروع نظام الأسد نفسه، أي يلتقي الأسد مع كارهي سوريا حول فكرة يمكن تلخيصها بعدم وجود ما يسمى “الوطن السوري”، فنظام الأسد يتعامل مع البلد على أنها ملك عائلي، هي “سوريا الأسد” فقط ولا شيء آخر.
وكذلك الأمر بالنسبة لغالبية الثائرين عليه، فكثير من الإسلاميين يتجنبون موضوع الوطنية لأنها تتعارض في مشروعهم مع ثوابت أكثر أهمية يقوم عليها المشروع، والعلمانيون أو الليبراليون منهم شريحة كبيرة صارت تتعامل مع سوريا كما لو أنها سوريا الأسد فعلًا، أو كما لو أنه لا حدود بين الأسد والبلد، وبالتالي من الوارد جدًا حين نريد أن نكره الأسد نكره البلد معه لأنها على شاكلته، وحين نريد أن نشتمه قد نشتمه من خلال تحقير البلد التي هي ملك له أيضًا.
في المحصلة هذه ظاهرة تبدو لي معقدة وتتداخل فيها عوامل عديدة من بينها عامل وجود سلطة الأسد نفسها، لكن الاقتصار على تفسير مثل هذه الظاهرة بوجود نظام استبداد يعكس خطأ منهجيًا بتصوري وقصورًا في رصد الظواهر، ولا يسعني إلا التذكير مجددًا بأن الثورات حين تقوم فهي تقوم بهدف تحرير أو استرداد وطن من قبضة مستعمر أو ديكتاتور كاره للوطن، أي أن الثورة تموت عمليًا مع موت الانتماء، والثورة التي تقوم دون انتماء وطني راسخ لم تكن في الأصل ثورة,