ما زالت الجزائر تنظر بعين الريبة لخطوات باريس المتخذة بشأن ملف الذاكرة المتعلقة بالحقبة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، وآخرها القرار الذي أعلنه الرئيس إيمانويل ماكرون القاضي برفع السرية عن الأرشيف المتعلق بفترة احتلالها للجزائر، في وقت تطالب الأخيرة باسترجاع أرشيفها المنهوب الذي يعود جزء منه للحقبة العثمانية.
وتطالب الجزائر منذ سنوات باريس بالاعتراف بجرائمها والاعتذار عما ارتكبته من انتهاكات خلال فترة احتلالها للجزائر التي دامت 132 سنة، غير أن فرنسا ترفض معالجة الملف التاريخي بين البلدين بهذه الطريقة، وتقول إنه يجب أن يحل بعيدًا عن التوبة والاعتذار عن أخطاء الماضي، وتروج في المقابل لما تسميه المصالحة مع التاريخ وإرساء أسس الصداقة بالنظر إلى المستقبل.
إجراءات متتالية
قبيل أيام من حلول ذكرى 19 من مارس/آذار الذي يحتفل به في الجزائر كـ”عيد للنصر” على الاحتلال الفرنسي، وفي باريس كيوم لوقف إطلاق النار بين فرنسا الاستعمارية وجبهة التحرير الجزائرية عام 1962، أمر إيمانويل ماكرون إدارة الأرشيف ببلاده بالبدء في رفع السرية عن الوثائق التي يفوق عمرها نصف قرن، لا سيما ما يتعلق بما تسميه باريس “حرب الجزائر”.
ويجعل هذا القرار الاطلاع على الأرشيف المتعلق بفترة احتلال الجزائر ممكنًا، بالنظر إلى أنها تعود إلى ما قبل 1970 لأن الجزائر استقلت في 5 من يوليو/تموز 1962.
لكن القرار الفرنسي ترك استفهامًا، بالنظر إلى أن بيان الرئاسة الفرنسية أشار إلى أنه تستثنى من قرار رفع السرية الوثائق التي قد تعرض أمن بعض الأشخاص للخطر، وهو ما يعني إمكانية التكتم على الجرائم التي ارتكبها بعض الجنود والجنرالات في حق الجزائريين باسم الدولة الفرنسية.
ولا يعد هذا القرار الوحيد الذي اتخذته باريس بشأن ملف الذاكرة في هذه الأيام التي تسبق تاريخ “انتهاء حرب الجزائر” كما تسميها، فقبل أسبوع اعترف ماكرون بأن المحامي والزعيم الوطني الجزائري علي بومنجل “تعرض للتعذيب والقتل” على أيدي الجيش الفرنسي خلال فترة الاستعمار، ولم ينتحر كما كانت تدعي دولته لسنوات، وذلك خلال استقباله لأحفاد الشهيد الرمز.
يتوقع أن تعلن فرنسا عن مبادرات أخرى قادمة في محاولة منها لإقناع الطرف الجزائري بجديتها في المصالحة مع تاريخها المليء بأبشع الجرائم في حق الجزائريين
وجاء في بيان للإليزيه أن بومنجل “اعتقله الجيش الفرنسي في خضم معركة الجزائر، ووُضع في الحبس الانفرادي وتعرّض للتعذيب، ثم قُتل في 23 من مارس/آذار 1957″، مذكرًا أنه في عام 2000 “اعترف الرئيس السابق للاستخبارات الفرنسية في الجزائر الجنرال بول أوساريس بنفسه، بأنه أمر أحد مرؤوسيه بقتل المناضل بومنجل وإخفاء الجريمة على أنها انتحار”.
وتأتي هذه الخطوات ضمن التوصيات التي رفعها المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا إلى ماكرون في 20 من يناير/كانون الثاني الماضي لتسوية الملفات العالقة بين الجزائر وباريس بشأن الذاكرة، حيث يتوقع أن تعلن فرنسا عن مبادرات أخرى قادمة في محاولة منها لإقناع الطرف الجزائري بجديتها في المصالحة مع تاريخها المليء بأبشع الجرائم في حق الجزائريين.
حذر
رغم عدم صدور أي موقف رسمي، فإن قرار ماكرون المتعلق برفع السرية عن الأرشيف المتعلق بالحقبة الاستعمارية لبلاده لقي ترحيبًا في الجزائر من عدة أطراف، فإنها في الوقت ذاته لم تخف تحذيراتها بأن تكون هذه المبادرات مجرد مناورات للالتفاف على مطالب الجزائريين المتمثلة في استرجاع الأرشيف الجزائري الموجد لدى باريس الذي ترفض إرجاعه حتى الآن رغم المفاوضات التي تم فتحها بين البلدين منذ سنوات، وتم إعادة بعثها بعد اتفاق الرئيسين عبد المجيد تبون ونظيره ماكرون على معالجة ملف الذاكرة ضمن لجنة يتولاها من الجزائر مدير الأرشيف الوطني عبد المجيد شيخي، وعن باريس بنجامين ستورا.
وقال شيخي وقت سابق، وهو مستشار الرئيس الجزائري لقضايا الذاكرة: “نعتقد أن فرنسا تملك جزءًا مهمًا من تاريخ الجزائر وتتستر عليه، كما أننا لم نصل إلى معاينة كاملة لما هو موجود في مخازن الفرنسيين، حيث يواجهوننا بحجة باطلة وهي أن الأرشيف لم يتم تنظيمه ولا ترتيبه”.
وأردف مؤكدًا “لن تتراجع الجزائر أبدًا عن مطالبتها باسترجاع كل الأرشيف الوطني الذي يؤرخ لعدة حقب من تاريخنا الذي تم ترحيله إلى فرنسا”، لافتًا إلى أن فرنسا سنت في 2006 قانونًا يقضي بإدراج الأرشيف كجزء من الأملاك العمومية، لتعطيل تسليم الجزائر أرشيفها الخاص.
وحتى على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد لقي خبر رفع السرية عن الأرشيف المتعلق بالثورة التحريرية الجزائرية من باريس اهتمامًا، فقد تم تداول وسم #أرشيف على نطاق واسع، واختلفت التعليقات إلا أنها اتفقت في مجملها على الانخداع بهذا الموقف الفرنسي، لأنها قد تكون هديةً مسمومةً، وغرد صاحب حساب عبد الله عزام الجزائري “ماكرون والهدية المسمومة، ولماذا في الوقت هذا بالذات؟”.
ويشك الجزائريون في أن تمتلك الدولة الفرنسية الشجاعة والجرأة لفتح الأرشيف المتعلق بالجزائر بموضوعية، دون العبث فيه، فالجميع شبه متأكد أن فرنسا لن ترفع السرية إلا عن الوثائق التي تخدمها ولا تدينها، لذلك يقولون إن الأرشيف رغم أهميته قد لا يخبرنا بكل شيء، إنما قد يكون أداةً للتضليل عن الحقيقة لما يخضع لحسابات دبلوماسية وسياسية.
لم يكن تحرك الرئيس الفرنسي بشأن فتح أرشيف الثورة الجزائرية اعتباطيًا، فقد كان القرار تحت ضغط واحتجاج الجامعيين في فرنسا
وما يدعم الشكوك الجزائرية، هو أن القرار حسب ما نقلت الصحف الفرنسية لن يشمل التجارب النووية التي أجرتها باريس في الجزائر عقب الاستقلال وفق اتفاقية إيفيان، التي تتهرب باريس حتى اليوم من تعويض المتضررين منها.
وهذا الموقف يدعمه أحد رجال المخابرات الفرنسية الذي نقلت عنه صحيفة “لديباش” قوله: “لا ينبغي أن يؤدي فتح الأرشيف إلى اكتشافات كبيرة عما جرى بالجزائر”.
مصالح
لم يكن تحرك الرئيس الفرنسي بشأن فتح أرشيف الثورة الجزائرية اعتباطيًا، فقد كان القرار تحت ضغط واحتجاج الجامعيين في فرنسا الذين شكوا في أكثر من مرة عدم تمكينهم من الوصول إلى الأرشيف المتعلق بهذه الحقبة.
ودعا تقرير بنجامين ستورا صراحة الدولة الفرنسية إلى فتح الأرشيف الفرنسي المتعلق بحقبتها الاستعمارية أمام الباحثين والمؤرخين من كلا البلدين، بالنظر إلى أن ضغوط تسوية ملف الماضي مع الجزائر أصبحت تأتي اليوم حتى من الداخل الفرنسي، ففي 21 من فبراير/شباط الماضي المنصرم، طالب النائب بمجلس الشيوخ الفرنسي ستيفان لوروديلييه الحكومة إلى تسهيل وصول الباحثين الفرنسيين والجزائريين في كلا البلدين إلى الأرشيف المرتبط بالماضي الاستعماري.
ويقترح لوروديلييه فتح الأرشيف الموجود بفرنسا المتضمن وثائق تعود إلى العهد الاستعماري والعثماني بالجزائر الذي سطت عليه باريس ونقلته إلى مركز الأرشيف بإيكس أون بروفونس جنوب شرق البلاد قبل أشهر من استقلال الجزائر أمام المؤرخين والباحثين الجزائريين، مقابل أن تسمح الجزائر هي الأخرى للجامعيين الفرنسيين بالاطلاع على أرشيفها المتعلق بفترة احتلالها.
وبما أن هذا القرار يأتي قبل نحو عام من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، فإن ماكرون الذي فقد ثقة المسلمين والمهاجرين به بعد التصريحات التي أطلقها بحق الاسلام والمسلمين ودعم لرسومات “شارلي إيبدو” المستهزئة بسيد الخلق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الرئيس الطامح للفوز بولاية رئاسية ثانية يحاول أيضًا الاستثمار في ملفي الهجرة والذاكرة باستقطاب هذه الأصوات التي لن تصوت على الأقل لمنافسته الأولى اليمينية المتطرفة مارين لوبان، خاصة أن وزن الجالية الجزائرية لا يستهان به، إذ تشير تقديرات غير رسمية إلى وجود أكثر من 8 ملايين جزائري مقيم بفرنسا.
سيرتبط العام القادم بإجراء الانتخابات الرئاسية الفرنسية وبالذكرى الستين لاستقلال الجزائر عن باريس الاستعمارية، لذلك سيكون ملف التاريخ مادة دسمة للجدل والمتاجرة السياسية
وإن بدا ملف الأرشيف في صورته الأولى ذا طابع تاريخي، فإنه كغيره من المواضيع المتعلقة بالذاكرة مرتبط بجوانب اقتصادية، بالنظر إلى أن العديد من المسؤولين الجزائريين أكدوا أن بناء علاقات اقتصادية وسياسية حقيقية لن يكون إلا بعد اعتراف فرنسا بجرائمها والاعتذار عنها.
وحتى إن كان إيمانويل ماكرون الذي وصف في حملته الانتخابية الاستعمار الفرنسي بالجزائر جريمة ضد الإنسانية ويصر على أن المصالحة التاريخية يجب أن تكون خارج إطار “التوبة والندم”، إلا أنه يدرك أن النفوذ الفرنسي بالجزائر بدأ يتزعزع وبالخصوص بعد حراك 22 من فبراير/شباط 2019 بعد أن رفعت شعارات مستهجنة لكل ما هو فرنسي، وهو مطلب صار يتضاعف اليوم في عدة دول إفريقية أخرى كمالي والسنغال.
وأصبحت باريس اليوم لا تخفي انزعاجها من ضياع نفوذها الاقتصادي بالجزائر لصالح دول أخرى في مقدمتها الصين، وبدرجة ثانية تركيا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي يجعل معالجة ملف الذاكرة مع الجزائر أمرًا محتومًا لكن يبقى التساؤل بأي طريقة وبأي مناورة هو محور الموضوع ليس في الجزائر فقط إنما أيضًا في باريس نفسها.
وقبل يوم من إعلان رفع السرية عن الأرشيف الفرنسي، قال السفير الفرنسي بالجزائر فرانسوا غويات بعد أن تحدث مطولًا عن خطوات ماكرون لمعالجة ملف الذاكرة: “فرنسا شريك كبير للجزائر، ومستثمر مهم”، مضيفًا أن مجهودات جارية من أجل تشجيع حركة الاستثمار في الاتجاهين ومحاولة تعزيز التقارب والتضافر والتآزر من خلال إقامة علاقات بين الشركات الفرنسية والجزائرية خاصة منها الصغيرة والمتوسطة.
والأكيد أن الأيام والأشهر المقبلة ستعرف مزيدًا من الجدل والخوض في ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا، لأن العام المقبل سيكون مرتبطًا بإجراء الانتخابات الرئاسية الفرنسية وأيضًا بالذكرى الستين لاستقلال الجزائر عن باريس الاستعمارية، لذلك سيكون ملف التاريخ مادةً دسمةً للجدل والمتاجرة السياسية في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط.