كانت المرأة في الدولة العثمانية بؤرة اهتمام ودراسة الكثير من المستشرقين، وتحولت حياتها إلى ساحة للدراسة والنقد والتقييم لدى الكثير من الكتاب، رجال ونساء، الأمر الذي أدى إلى تشويه الصورة الحقيقية عنها حتى باتت الصورة المغلوطة هي الأكثر حضورًا في موائد التناول الغربي، ما دفع الكثير من المهتمين بهذا الشأن إلى السفر للدولة العثمانية لمعاينة وضع المرأة هناك وتقييم ما كُتب عنها في أدبيات الرحالة التي جاءت معظمها دون تيقن، للوقوف على الملامح الحقيقية لحياة تلك المرأة التي فرضت نفسها على الجميع في هذا الوقت.
في الحلقة الثانية من ملف “سلطانات آل عثمان” نلقي الضوء على شهادة بعض الكتاب الأوروبيين الذين عاشوا وسط المجتمع العثماني فترات متباينة من الوقت، وخاطروا بمالهم وأوقاتهم لجمع المعلومات الحقيقية من مصادرها، عاينوا فيها طقوس الحياة اليومية للمرأة العثمانية، اقتربوا من سراديبها، ونجحوا في كشف الزيف الذي انتاب معظم الكتابات التي تناولت حياتها.
حكايات ألف ليلة وليلة
كانت المرجعية الثقافية لمعظم الأوروبيين في بناء صورتهم عن المرأة الشرقية عمومًا والعثمانية تحديدًا تقوم على ما تم تناوله في كتاب “ألف ليلة وليلة” الذي نشر لأول مرة باللغة الفرنسية ما بين 1707-1714م في 12 مجلدًا، للكاتب أنطون جالاند، ثم ترجم بعد ذلك لعدة لغات، أشهرها ترجمة المستشرق سير ريتشارد بين عامي 1882 و1886.
الحشو غير الموثق الذي تضمنته تلك المجلدات وتراجمها المتعددة وما بها من خيال أبعد ما يكون عن الواقع، أثار حفيظة العديد من الرحالة الأوروبيين لاسيما السيدات
ورغم عدم معرفة المصادر التي استند إليها هذا الكتاب، فإنه كان أرضيةً لبناء تصور خاطئ عن الحرم العثماني، حيث صور المرأة الشرقية عمومًا بأنها مخلوقة شهوانية، منحط أخلاقية ومثيرة للشهوات ومحركة للغرائز، وصور الحرم وهو المكان المقدس للمرأة العثمانية بأنه مكان للمتعة، ومع مرور الوقت تطور الأمر إلى ما هو أقبح من ذلك، حتى استقرت تلك الصورة في عقلية الكثير من أبناء المجتمع الأوروبي.
الحشو غير الموثق الذي تضمنته تلك المجلدات وتراجمها المتعددة وما بها من خيال أبعد ما يكون عن الواقع، أثار حفيظة العديد من الرحالة الأوروبيين لا سيما السيدات، ما دفع بعضهن للتوجه للتيقن مما كتب بصورة شخصية، وعلى رأسهن الأديبة السيدة مونتجو زوجة سفير إنجلترا لدى الدولة العثمانية التي قررت السفر إلى هناك رفقة زوجها، كما جاء في كتاب “المرأة العثمانية بين الحقائق والأكاذيب“، للمؤلف أصلي سنجر، الحاصل على جائزة أفضل كتاب تاريخي في الولايات المتحدة.
في خطاب أرسلته مونتجو إلى صديقة لها تدعى ثيستلثوسيت قالت فيه واصفة المنازل التركية: “ربما تتعجبين عندما تسمعين حقيقة مختلفة تمامًا عما ذكره الكتاب الرحالون الذين كانوا مولعين جدًا بالحديث عن الأشياء التي لا يعرفونها، فإن استقبال شخص مسيحي في منزل شخصية مرموقة يتطلب الحصول على توصية من شخص محترم هناك أو حدوث موقف استثنائي، أما حرم المنازل فقد كان منطقةً محظورةً”.
وفي شهادتها عما عاينته بنفسها بعد 17 يومًا فقط قضتها في تركيا تقول الرحالة الإنجليزية السيدة رامسي في كتابها “الحياة اليومية في تركيا” الصادر عام 1798: “لقد أصبح شيئًا اعتياديًا أن أسمع باستمرار أشياء سيئة لا توصف بشأن الأتراك في الأيام الأخيرة، مثل أن الأتراك يكرهون المواطنين المسيحيين ويتعصبون ضدهم ويرتكبون المظالم بحقهم، لقد مر سبعة عشر يومًا على أول سفر لي لتركيا مع زوجي، تجولنا هناك وصادفت أشخاصًا منهم من كان حريصا على الصداقة، مضيافًا، متواضعًا، في غاية الوداعة، وجميعهم يعيشون بمحبة مع جيرانهم المسيحيين”.
وغيرهن العشرات والعشرات من الرحالة الأوروبيين من السيدات جاءت شهادتهم بحق المرأة العثمانية بعد معايشة عن كثب، وكيف أنها كانت نموذجًا يحتذى به في كل شيء، مفندين بذلك الصور المغلوطة التي تم نقلها، وتقف خلفها العديد من المواقف السياسية والثقافية السلبية بحق الدولة العثمانية، الأمر الذي أفقد تلك المجلدات المحشوة بالأكاذيب والضلالات بريقها بعد ذلك.
المرأة العثمانية أفضل من الأوروبية
“صور الغرب المرأة العثمانية أمةً ومتاعًا، ولم تكن المرأة التركية أيًا من هذا النوعين، بل كانت من الناحية القانونية في منزلة أفضل من معظم النساء الأوروبيات المتزوجات عند موازنتهن بالسيدات التركيات صاحبات الحق الكامل في أملاكهن في كل وقت، نجد أن غير التركيات لا يختلفن كثيرًا عن العبيد، لا سيما الحالات السابقة على القوانين التي دخلت حيز التنفيذ فيما بعد، فالقوانين التي تعطي الحق للمرأة التركية عند زواجها في التصرف في أملاكها مهما كانت أو أي ميراث يؤول إليها بعد ذلك، فالمرأة التركية عنصر حر في نظر القانون، وهذا يعني أن المرأة التركية كانت تتمتع بحرية أكثر من مثيلتها في المسيحية” الكاتب الإنجليزي ز. دوكيت فريمن في كتابه “Turkey and the Turks”.
السيدة مونتجو تواصل حديثها عما رأته في تركيا “يجب أن أعترف بالآتي: نصادف هنا كل أنواع الجمال أكثر مما لدينا في أوروبا، ومعظم السيدات التركيات يزججن حواجبهن بشكل مميز، بالإضافة إلى عادة تكحيل العيون باللون الأسود، فأكسب سواد العين عمقًا واضحًا حتى عند النظر إليها من بعيد أو في ضوء الشموع، وعمقًا أكثر وضوحًا في ضوء النهار”.
ليس هناك أرقى من السيدات التركيات استضافةً للغرباء، فقد كن يجدن متعةً كبيرةً في تجاذب أطراف الحديث مع السيدات الأوروبيات
وتضيف عن لقائها بسيدة تركية تدعى فاطمة قائلة: “غير أننا لا يمكننا أبدًا أن نوازن بين جمال هؤلاء السيدات وجمال فاطمة، فجمالها جعلني أنسى كل شيء يمكن أن يقال عنه جميل ولطيف شاهدته في إنجلترا وألمانيا، نهضت لمقابلتي واضعة يدها على قلبها بدماثة مليئة بالأصالة، لتحييني وفقًا للعادات التركية، ولو أنها ولدت وترعرت في القصر ما كانت لترقى إلى هذا المستوى، وأمرت بإحضار الوسائد لتوضع خلف ظهري، ثم أجلستني في صدر البيت، كان أسلوبها أصيلًا جدًا، وتصرفاتها رقيقة بعيدة عن التكلف، واقتنعت بشكل قاطع أنك لو أخذتها فورًا، ووضعتها على عرش أي دولة أوروبية، لاعتقد كل شخص أنها قد ربيت منذ ولادتها لكي تكون ملكة رغم أنها ولدت في بلد أطلقنا عليه اسم “دولة البرابرة”.
رقي ودماثة ونقاء
“ليس هناك أرقى من السيدات التركيات استضافةً للغرباء، فقد كن يجدن متعة كبيرة في تجاذب أطراف الحديث مع السيدات الأوروبيات، وهكذا كانت الأوروبيات، وكانت السيدات التركيات يتحدثن بلباقة وقلب مفتوح، فلا يبقى هناك أي إحساس بالغربة لدى الأجنبيات اللائي يتحدثن معهن، وقبل مرور خمس دقائق كن يقدمن كل ما لديهن ويجعلنه طوع أمركن، ويكفي أنك تصبحين من السعداء حين تدخلين في زمرة صداقتهن، وليس هناك أي داع للخوف من أن تجدن شيئًا مما انتشر لدى الأوروبيين من أسلوب التعالي وعدم المبالاة”، هذا كان رأي الرحالة الإنجليزية جوليا باردئي.
أما الكاتب فريمن فيواصل حديثه: “فليتقول من يتقول عن الأتراك لا سيما النساء، فلسوكهم المهذب لا يمكن إنكاره، وهو لا ينحصر في طبقة معينة، وفضلًا عن ذلك فهو ميراث الأمة كلها من القروي إلى الباشا، والأتراك من هذه الناحية يختلفون عن الأمم الأخرى التي عاشت بينهم وعن الأوروبيين أيضًا”.
الرأي ذاته وثقته لوسي جارنيت حين قالت: “لقد خلا المجتمع العثماني من التمييز الطبقي، وانتساب الشخص إلى عائلة ذات وضع معين، فربما أصبح كل عثماني أرستقراطيًا بمقتضى أخلاقه أو عاداته، ويمكنكم أن تشاهدوا أيضًا لطف هذا السلوك وأصالته في منزل متواضع لأحد القرويين أو في قصر أحد الباشوات”.
وعن سمات الحياة واعتنائهم بالنظافة تواصل جارنيت حديثها: “النظافة الشخصية بين المسلمين نابعة من الإيمان، بحكم شريعتهم الإسلامية، ولعل هذا ما جعلهم أقل عرضة للإصابة بالأمراض من جيرانهم المسيحيين واليهود، فهناك حمامات تركية يطلق عليها اسم “حمام” في كل المدن التركية الكبيرة، أما في العاصمة فالحمامات كثيرة جدًا، وبعض الحمامات في إسطنبول والحمامات المعدنية في “بورصة” تعد من أجمل نماذج هذا النوع من العمارة”.
تدين وكرم
بعيدًا عن اتهامات الانحلال والتحرر والبعد عن الدين التي حشى بها الرحالة الأوروبيون مجلداتهم المزيفة، جاءت شهادات الثقات منهم ضاربة بتلك الأباطيل عرض الحائط، فها هي باردئي تصف الحالة الإيمانية للتركيات في منازلهن قائلة: “كان تدين السيدات التركيات نابعًا من أعماقهن، فكم كان مثيرًا للإعجاب انسجامهن في تأدية واجباتهن الدينية، وفي ظل ما يتمتع به حرم الدار من سكون كانت أوقات الصلاة لدى سكان الحرم مبعث عناية لا تتناهى وخشوعهن بين يدي الخالق شيئًا جميلًا ومؤثرًا في أعماق الإنسان”.
وتضيف “لم يكن التدين العثماني متكلفًا، بل استحالت المبادئ الإسلامية إلى قواعد وسلوك يومي ولم يكن هناك أي شيء قط، عملًا كان أو تسلية، ليشغل السيدة التركية عن واجباتها الدينية مهما كان موقعها، وأينما كانت في أي موقف، فهي لا تقصر في القيام بواجباتها البتة”، هذا بخلاف حالة القدسية التي كانت تخيم على أجواء العبادات التي كان تحتل مكانة مرموقة في حياة الجميع.
السيدات التركيات كن بمنأى عن الشح والتقتير على عكس الدول الأكثر تحضرًا في ذلك الوقت
وكانت تتمتع التركيات بحسن الضيافة والكرم والجود، فكن يضربن المثل في هذا المضمار، الرحالة م دي أوهسون يصف الوضع في المجتمع التركي قائلًا: “كانت في أراضي مدن الإمبراطورية العثمانية لا سيما إسطنبول أوقاف دينية أسسها السلطان أو غيره من الأثرياء تلبية لاحتياجات سكانها، فما مر يوم دون تقديم صدقات أو مساعدات للمدينين، وكانت الأمهات والأباء والأوصياء من كل طبقات المجتمع يعدون قدوةً لأطفالهم، لذلك كانت خصلة الكرم والإحسان تنمو لدى الأطفال في سن مبكرة”.
ويجمع الرحالة والثقات من المستشرقين على أن صفة الكرم لدى الأتراك لم تظهر مقدار العطاء فحسب، فالمهم أن يُعطى عن طيب خاطر، وفضلًا عن ذلك فإن السيدات التركيات كن بمنأى عن الشح والتقتير على عكس الدول الأكثر تحضرًا في ذلك الوقت، بل كانوا يفعلون ما يفعلون دون خشية الفقر.
حرية مسؤولة
كثيرًا ما نعتت المرأة العثمانية بـ”الإماء” وهي أوصاف ما كان لها أن تليق بواقعها الذي كان يشع نور الحرية وأضواء الانطلاق، لكن بمسؤولية ودون تحرر، حرية نابعة من إيمان الرجل بمكانتها وقدرها، واعتزازها هي بنفسها وشخصيتها، فكانت المعادلة السهلة الصعبة في آن واحد.
الباحث لابارون فونتماين علق على هذه المسألة قائلًا: “كانت المرأة التركية حرةً تمامًا، وكان من الممكن مشاهدة ذلك بسهولة، فالذين يقولون إن السيدات التركيات كن إماءً يجعلون أنفسهم عرضة للسخرية”، أما السيدة مونتجو فأضافت “بنظرة شمولية أعتقد أن السيدات التركيات كن أكثر الفئات حرية في الإمبراطورية، إذ حظين بالاحترام خاصة من الديوان، وإذا قرر السلطان إعدام أي باشا لا يلحق ضررًا بامتيازات حريمه، وتظل المرأة الأرملة كما كانت في حرم الدار”.
شواهد عدة ساقها رحالة ومؤرخون تكشف حجم ما كانت تتمتع به المرأة العثمانية من مناخ جيد من الحرية، أرضية مهيأة تمامًا لخلق شخصية قائدة، قادرة على تحمل المسؤولية، مؤمنة بقدراتها وعقليتها، مقارنة بما كانت عليه المرأة في العديد من الأمم الأخرى المجاورة، ومنها المجتمع الأوروبي رغم الصورة المشرقة التي يحاولون تصديرها للشرق.
مكانة اجتماعية مرموقة
ومن أكثر المسائل التي لفتت أنظار الرحالة الأوروبيين عن المرأة العثمانية حجم ما تتمتع به من مكانة اجتماعية مرموقة، من الرجال والحكومات والمسؤولين، وعلى المستويات كافة، فكانت قارورة تُلبى مطالبها وتُطاع أوامرها وتتصدر قائمة اهتمامات الجميع، إيمانًا بها وتقديرًا لقيمتها وقامتها.
كانت البيئة الخاصة بالمرأة في الدولة العثمانية أرضيةً خصبةً لنشأة جيل من العظماء، نساء في ثياب الرجال، ضعيفات مستقويات بالشخصية الأبية وعظمة العقل المستنير
“المكانة الاجتماعية للنساء المسلمات في تركيا ليست أقل من نظائرهن المسيحيات في أوروبا، فلهن السيادة الكاملة في منازلهن، ويعاملن دائمًا بشكل مهذب وأسلوب دمث”، هكذا وصف الرحالة إدموند أميكوس حالة المرأة العثمانية، أما فونتماين فيرى أن “النساء التركيات يعاملن بنبل الفرسان، فلا يستطيع أحد أن يرفع يده على امرأة، وفي أوقات العصيان والتمرد لم يمس الجنود أيضًا السيدات اللاتي كن يقمن بشغب”.
بعض الأديبات الأوروبيات اعتبرن أن الطريقة التي كانت تعامل بها المرأة في ظلال الدولة العثمانية نموذجًا يجب أن يحتذى به في المجتمعات الغربية دون استثناء، فالقدسية التي منحها لها الرجال والمجتمع لم تشهدها امرأة في أي مجتمعات أخرى، ولعل هذا ما أثار حفيظة المرأة الغربية التي كانت شغوف إلى درجة كبيرة لمعرفة تفاصيل حياة التركيات عن قرب.
وهكذا كانت البيئة الخاصة بالمرأة في الدولة العثمانية أرضيةً خصبةً لنشأة جيل من العظماء، حتى بتن علامات يضرب بهن المثل في القوة والشجاعة والقدرة على الإدارة السياسية والاقتصادية والمجتمعية للدولة.