تعاني الإمارات خلال الآونة الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في خريطة النفوذ الإقليمي على خلفية الطعنات الغائرة التي تلقتها في عدد من الملفات التي كانت تحكم القبضة عليها قبل فترة، وكانت أحد أبرز العوامل التي عززت من رقعة الحضور الإماراتي في المنطقة.
ورغم تجييش أبو ظبي لكل أركان النفوذ المالي والسياسي وطرق مختلف الأبواب، الشرعية منها وغير الشرعية، للحفاظ على مكتسباتها التي تحققت على أرض الميدان في كثير من المعارك، لتنفيذ الجزء الأكبر من أجندة أبناء زايد في قيادة الإقليم، فإن الأمور انقلبت في كثير من المسارات.
الأشهر القليلة الماضية، تحديدًا من يناير/كانون الثاني الماضي وحتى اليوم، تواصل الإمارات نزيف نقاط نفوذها بصورة باتت تهدد حضورها السياسي وتقوض قوتها الفاعلة بعدما كانت لاعبًا رئيسيًا في كثير من القضايا الحساسة التي أعادت رسم الخريطة السياسية للشرق الأوسط.
التآكل في نفوذ الدولة النفطية الخليجية يسير وفق مسارين متوازيين، الأول: المسار السياسي العسكري، ويتعلق بالضربات التي تلقتها في ملفات بعينها، أما المسار الثاني فيشير إلى انفراط عقد تحالفاتها الإقليمية الذي كان سندًا وداعمًا لأبناء زايد في تحقيق حلمهم بالمنطقة.
الملفات الإقليمية.. تجاهل للأجندة الإماراتية
يأتي على رأس الملفات التي أُجهضت فيها الأجندة الإماراتية، الملف الليبي، إذ غرد الموقف المصري بعيدًا تمامًا عن الرؤية الإماراتية في هذا المسار رغم تطابقها منذ 2014، وذلك بعدما ارتأت القاهرة أن تعيد النظر في توجهها المنحاز والمتورط لأحد أطراف الأزمة على حساب الآخر.
البداية كانت بدعم إماراتي مصري لفريق اللواء متقاعد خليفة حفتر، وهو الدعم الذي دفع بالجنرال الليبي إلى تحقيق انتصارت ميدانية على أرض المعركة، لكن سرعان ما تم تحجيمها مع دخول تركيا على خط الأزمة بدعمها لحكومة السراج المعترف بها دوليًا.
أيقنت القاهرة أن المضي قدمًا في الانحياز لطرف دون آخر سيكون له تداعيات سلبية على ثقلها الإقليمي ويجهض المسار السياسي الدبلوماسي في الملف الذي يهدد الأمن القومي للبلاد، ما دفعها نهاية المطاف إلى التخلي عن الموقف الإماراتي والالتزام بسياسة الحياد الإيجابي، حيث بدأ التواصل مع حكومة الوفاق بعد سنوات من المقاطعة، كذلك التنسيق مع الجانب التركي لإنهاء الصراع في ليبيا.
ومع كتابة الفصل الأخير من فصول الأزمة الليبية خرجت الإمارات بصورة شبه كاملة من قائمة اللاعبين المؤثرين في المشهد، فيما تصدرت تركيا ومصر ومعهما دول أوروبا والولايات المتحدة، ثم روسيا بعد ذلك، ليفقد أبناء زايد ورقة مهمة في صراع النفوذ الإقليمي رغم المليارات التي أنفقت لأجل هذا الغرض.
ثم تأتي الأزمة الخليجية كثاني الطعنات التي تلقتها أبو ظبي في أجندتها الشرق أوسطية، فبينما كانت تحاول السعودية تخفيف التوتر ولملمة الشمل في ظل التحديات الإقليمية والدولية التي تفرض إنهاء الخلافات داخل البيت الخليجي، كانت أبو ظبي تسير في اتجاه معاكس، مستفيدة من حالة الشقاق الخليجي الخليجي لتحقيق حزمة من المكاسب.
صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، كشفت أكثر من مرة أن الإمارات كثيرًا ما عرقلت أي خطوات باتجاه المصالحة، وصل الأمر إلى الاختلاف مع الحليف السعودي الذي أراد إنهاء المقاطعة، وعدم بقاء الأزمة على طاولتها مع قرب دخول إدارة جو بايدن إلى البيت الأبيض.
حتى بعد إنهاء الأزمة رسميًا على هامش “قمة العلا” الخليجية التي عقدت في الأول من يناير/كانون الثاني الماضي، ظلت الإمارات على موقفها المناوئ لقطر، وهو ما تجسده الآلة الإعلامية التي تعزف ليل نهار على التشكيك في المصالحة وعدم جديتها.
الحضور الإفريقي.. تراجع ملحوظ
خلال السنوات العشرة الماضية نجحت الإمارات في تعزيز حضورها بالقارة الإفريقية من خلال حزمة من المشروعات والاستثمارات التي أسالت بها لعاب بعض الحكومات الفقيرة، فاستطاعت عبر ذلك إحكام قبضتها على موانئ تلك الدول وفرض الهيمنة على ممراتها المائية.
وفي وقت قصير سيطر الإماراتيون على موانئ جيبوتي والصومال وإريتريا، بينما في الجهة المقابلة كانت هناك موانئ اليمن بحجة دعم الشرعية بعد أن سقط القناع وانكشفت ملامح المخطط في السيطرة على هذا الشريط المائي الإستراتيجي لخدمة أجندتها الإقليمية.
لكن الأشهر القليلة الماضية تغيرت كثير من ملامح اللعبة، فاتهمت حكومة الصومال، الإمارات، في الـ21 من فبراير/شباط الماضي، بخرق الأعراف الدبلوماسية والقوانين الدولية عبر الضلوع في مؤامرة للإطاحة بها من خلال دعم حركات المعارضة، على خلفية الأزمة السياسية المتصاعدة بين الحكومة الصومالية وحركات المعارضة جراء تأجيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
الوضع ذاته تكرر في إريتريا، فبعد إبرام الإمارات عام 2015 عقدًا للاستخدام العسكري لميناء “عصب” والمطار الرئيس لمدة 30 عامًا، مع مدرج بطول 3500 متر، وتحويل المنطقة إلى قاعدة عمليات رئيسة للقوات الإماراتية المُشارِكة في حرب اليمن، أنفقت عليها عشرات الملايين من الدولارات، ها هي تنسحب بشكل مفاجئ من الميناء، تاركة خلفها العديد من الأسئلة عن دوافع هذه الخطوة ودلالاتها.
وفي جيبوتي والسودان كذلك تتلقى الإمارات ضربات تلو الأخرى، سواء على مستوى الخريطة الاستثمارية بعد إعادة النظر في العديد من العقود المبرمة أم الوجود العسكري واللوجستي في تلك الدول، خاصة بعد استشعار مخاطر ذلك على الأمن القومي للمنطقة، وإثارة التحركات الإماراتية المشبوهة لقلق العديد من الجيران الأفارقة.
عقد التحالفات ينفرط
لم تمتلك الإمارات المقومات السياسية ولا العسكرية التي تؤهلها لتحقيق ما حققته على أرض المعركة في كثير من الساحات، وما كان لها أن تحقق تلك المكتسبات دون تحالف قوي يوفر لها الدعم العسكري واللوجستي في آن واحد، ولذا كان التحالف الإماراتي السعودي المصري.
معظم الساحات التي استطاع فيها الإماراتيون إنجاز خطوات تقدمية كانت بمساعدة هذا التحالف، ففي اليمن كانت السعودية بوابة أبناء زايد للسيطرة على موانئ الشريط الساحلي الغربي، وفي ليبيا كان الدعم العسكري المصري هو المرجعية لتمرير الرؤية الإماراتية عسكريًا وسياسيًا، حتى في القرن الإفريقي كان العمق السياسي للتحالف عامل مساعد قوي في تعزيز النفوذ الإفريقي.
لكن مع افتضاح الأجندة الإماراتية التي كشفت الأحداث أنها تغرد بعيدًا عن أجندة هذا التحالف، أصيب التكتل بشروخ التشكيك في نوايا أبو ظبي، الأمر الذي أثار قلق وريبة العواصم العربية الأخرى، وهو ما دفعها لإعادة النظر في مستقبل التعاون مع الدولة الخليجية التي بات من الواضح أنها تلعب لحسابها الشخصي حتى ولو على حساب مصالح حلفائها.
ففي اليمن لطالما أحرج الإماراتيون السعودية ووضعوها في مرمى الانتقادات الدولية بعدما تخلت أبو ظبي عن الهدف الرئيسي الذي لأجله تدخل التحالف العربي في اليمن في مارس/آذار 2015، ووصل حد الخيانة هناك إلى المهادنة مع الحوثيين والانقلاب على الشرعية لخدمة أجندة خاصة، وهو ما زاد من حجم الخلاف مع الرياض.
الفجوة بين أبو ظبي والرياض اتسعت أكثر مع إصرار الأخيرة على إبرام المصالحة الخليجية وإنهاء الخلاف، وهو ما كان يتعارض مع الرؤية الإماراتية، الفجوة اتسعت أيضًا مع القاهرة بسبب تغير الموقف المصري في الملف الليبي، الذي انتصر لسياسة الحياد البناء بعيدًا عن الانحياز الأعمى لطرف ما وعرقلة المسار السياسي.
وهكذا تجد الإمارات نفسها في منتصف الطريق، رغم ما تحاول تسويقه بأن العلاقات على ما يرام بين أطراف التحالف، لكن التباين الواضح في الرؤى حيال الملفات الحساسة في المنطقة فضح العزلة الإماراتية ونفور حلفائها بشكل أو بآخر حتى إن لم يتم إعلان ذلك بصورة رسمية حفاظًا على الصورة العامة الخاصة بتماسك التحالف ووحدة مواقفه.
حتى على المستوى الدولي، فإن المستجدات التي شهدتها الخريطة السياسية لدى بعض القوى المؤثرة وعلى رأسها الولايات المتحدة كان له تأثيره القوي على النفوذ الإماراتي ومستقبل تمدده، فسياسة الـ”شيك على بياض” التي كان يمنحها الرئيس السابق دونالد ترامب ولًت إلى غير رجعة، ليجد الإماراتيون أنفسهم دون ظهير سياسي دولي يبرر لهم جرائمهم الإقليمية كما كان في السابق.
الاقتصاد.. طعنة جديدة
الاقتصاد هو الآخر كان طعنة جديدة في ظهر النفوذ الإماراتي، كونه الوسيلة الأكثر استخدامًا لتحقيق طموحات أبناء زايد، الداخلية والخارجية، والأداة الفعالة لكسب المواقف السياسية من العواصم التي تعاني من الفقر والعوز.
هناك حزمة من المؤشرات توضح أن الأمر لم يعد كما كان في السابق، أولها اللجوء إلى الاقتراض الخارجي، ففي أكتوبر/تشرين الماضي لجأت أبو ظبي إلى طرح سندات حكومية للبيع، حصلت من خلالها 10 مليارات دولار، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ تراجع أسعار النفط في 2014.
كذلك الأزمة الكبيرة التي أحلت بالسوق التجارية والمحال الاستهلاكية الإماراتية، التي تشكل أحد أهم مقومات الاقتصاد الوطني، ففي العام الماضي فقط أغلقت المئات من المحلات والشركات الصغيرة والمتوسطة أبوابها وتم تصفية أعمالها، وهو ما كان له أسوأ الأثر على تصدير صورة سلبية عن الدولة النفطية التي باتت طاردة للاستثمارات بعدما كانت قبلته الأولى إقليميًا.
وللمرة الأولى تلجأ الدولة النفطية إلى توسيع دائرة الضرائب المفروضة على المقيمين والمواطنين، في محاولة لسد العجز وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ففي نهاية العام الماضي فرضت السلطات الإماراتية ضريبة القيمة المضافة على معظم السلع والخدمات في الدولة بنسبة 5%، وهو ما كان له أثره على حجم التضخم الذي يتزايد يومًا تلو الآخر.
علاوة على ذلك تواجه دبي موجات متلاطمة من الخسائر في حجم سوقها العقارية ومواردها الاقتصادية، ما زاد من معدلات هروب الاستثمارات الأجنبية منها، وهو ما يمكن قراءته في العديد من المجالات الصناعية والتجارية الأخرى، التي تفاقم وضعها مع تراجع أسعار النفط.
وفي الأخير فإن ما كان يحققه حلفاء الإمارات بالأمس بالوكالة عنها، بسبب الإغراءات المادية والسياسية، ما عاد اليوم بالشكل السابق، الأمر الذي انعكس على نفوذ الدولة النفطية الذي بات يتراجع في الملفات الحساسة إقليميًا، لتخرج رويدًا رويدًا من قائمة التشكيل الأساسي إلى دكة الاحتياط.. وربما تحمل الفترة القادمة الخروج من القائمة النهائية بعدما فقدت مخالبها.