على مدى العقد المنصرم، لم يزل تحالف حكام يعمل على ليّ وشد كل وتر لوقف نضال ماض لا رجعة فيه، نضال من أجل حقوق الإنسان في العالم العربي.
وللحفاظ على أنظمتهم المهترئة، لم يتورع أعضاء هذا التحالف عن العمل على تحطيم شعوب أبية وحضارية. فأشعلوا الحروب في اليمن وليبيا وسوريا، وحولوا جلها إلى أنقاض، ومولوا الانقلاب في مصر، كما مولوا محاولات انقلابية في كل من تونس وتركيا. أفضت تدخلاتهم تلك إلى سفك دماء مئات الآلاف من الناس.
خاضوا تلك الحروب باسم الدفاع عن المنطقة ،وحمايتها من الإسلاموية والتطرف. وفي سبيل ذلك، استعانوا بدعم القوى الاستعمارية السابقة، فرنسا وبريطانيا، التي طاوعتهم سذاجة أو مكرا. ولكن في واقع الأمر، لم يكن “جهادهم” ذلك له أدنى علاقة بالدفاع عن الليبرالية أو العلمانية.
لم تساور تلك الأنظمة أي هواجس بشأن تجنيد القوى الدينية لأغراض سياسية، فهم إنما يسعون من أجل الهيمنة، أو توريث الاستبداد من جيل إلى جيل، فالسلطة بالنسبة لهم لا تعدو كونها من الممتلكات الخاصة للعائلة الحاكمة.
في أواخر عام 2015 –-بعد مرور عامين على أول نجاح كبير حققوه، وهو الانقلاب العسكري في مصر- التقى زعماء هذا التحالف، وهم الحكام الفعليون لكل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر والأردن، سرا على متن يخت لوضع خططهم في المنطقة. أما اليوم، أي بعد ستة أعوام على ذلك الاجتماع، فلن يكون من السهولة بمكان جمع الشخصيات ذاتها على متن قارب واحد يطفو على مياه البحر الأحمر.
أول ما يخطر بالبال هو أن الذي رتب لانعقاد تلك القمة يقبع الآن في السجن، إنه جورج نادر، الذي يقضي حكما بالسجن عشر سنين، بتهم تتعلق بالاستغلال الجنسي للأطفال. وثانيا، يضمر هؤلاء المشاركون اليوم في نفوسهم الكثير من الأحقاد ضد بعضهم البعض.
لقد تلطخت سمعة ابن سلمان الدولية بعد نشر تقرير المخابرات الأمريكية حول جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي
مال مثل الرز؟
كانت العلاقات بين المملكة العربية ومصر هي الأسرع فتورا، فالسعوديون لم يعد لديهم “مال مثل الرز” كما تبجح ذات مرة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في حديث مع مساعده آنذاك عباس كامل. على أي حال ليس الملك سلمان مثل شقيقه الراحل عبد الله في السخاء، حتى لو كان لديه مال، رغم أن المال حقيقة لم يعد موجودا.
حاول السيسي الحصول على خط تمويل جديد من الرياض من خلال التنازل لها عن جزيرتين غير مأهولتين ولكنهما يحتلان موقعا استراتيجيا في البحر الأحمر، وهما جزيرتا تيران وصنافير، وبرغم الاحتجاجات الشديد ضد هذا الأجراء داخل البلاد. لم يعد السعوديون يهتمون كثيرا بحلي من ذلك النوع مثل قناة السويس وخليج العقبة.
تنفرج أساريرهم عندما يستحضرون سبل وصول أرخص وأسهل إلى البحر المتوسط – عبر “إسرائيل”. لا تعبر مصر عن ذلك صراحة، ولكنها تشتاط غيظا بسبب خطط غايتها تجاوز قناة السويس، التي تم إجراء توسعة فيها بكلفة 8.2 مليار دولار.
سواء كان الأمر يتعلق بالتراجع عن خط أنابيب صحراوي، كان يوما طي الكتمان، يمتد من إيران إلى “إسرائيل” في زمن الشاه، أو بتطوير موانئ ومناطق حرة داخل “إسرائيل”، أو بخط بلو رامان، وهو كابل من الألياف البصرية (فايبر أوبتيك) مخصص لمنطقة الشرق الأوسط، فإن ذلك كله يشير في اتجاه واحد بالنسبة للقاهرة، ألا وهو تكبد خسارة مالية ضخمة وفقدان قدر كبير من النفوذ الإقليمي.
ليس الأمر كما لو أنه لم يحصل في الماضي تباين بين المصرفي والدول التي يتعامل معها. ولقد كان من نماذج ذلك التباين رفض مصر إرسال قوات للقتال في الحرب التي تخوضها المملكة العربية السعودية في اليمن. كما رفضت مصر اتخاذ نفس الموقف العدائي تجاه إيران وتجاه حلفائها في لبنان. إلا أن عاملين جديدين يقفان وراء إقناع مصر بأن مصالحها الوطنية لا تتحقق دوما عبر حلفائها في المنطقة.
أزاحت الموجة الثانية من التطبيع مع “إسرائيل” الموجة الأولى. فقد خسرت مصر والأردن كلتاهما ما كانا يتمتعان به من نفوذ كحاجبين يقفان على بوابة العالم العربي
عامل بايدن
أول هذين العاملين هو وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن ونفوره الواضح من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان – رغم أنه رفض حتى الآن فرض عقوبات عليه. ليس لدى السيسي اهتمام بأن ينضم إلى ابن سلمان ويصبح جزءا من معسكر الطغاة المنبوذين. بل بات لديه حافز قوي يحمله على النأي بنفسه عن تلك العشيرة.
لقد تلطخت سمعة ابن سلمان الدولية بعد نشر تقرير المخابرات الأمريكية حول جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي، فبعد صدور التقرير، توقع محمد بن سلمان أن تصله من كل واحد من أعضاء ناديه، وحتى ممن لم يكونوا أعضاء في النادي مثل قطر، رسالة تضامن ومساندة.
معظمهم فعلوا، بل طار إلى الرياض مباشرة بعد ذلك كل من عاهل الأردن الملك عبدالله الثاني ورئيس وزراء السودان عبدالله حمدوك، والآخرون مثل ملك البحرين وزعيم الإمارات العربية المتحدة أصدروا بيانات، أما مصر، فكانت البلد الوحيد الذي التزم الصمت.
وأما العامل الثاني، فكان الهزيمة العسكرية التي تكبدها الجنرال خليفة حفتر في ليبيا، عندما اندحرت قواته من طرابلس وانسحبت إلى سرت. لقد سبب تدخل تركيا وفعالية طائراتها المسيرة صدمة لمصر، التي كانت الإمارات هي من يدير لها أجندتها في ليبيا. وكانت مصر قد استثمرت الكثير في تدريب وتسليح وتموين قوات حفتر.
عندما اكتشفت الإمارات العربية المتحدة ومصر أنهما يقفان في جانب المهزوم -وكان ذلك قبل أن يلح حفتر على مصر حتى تغزو- بدأ البعض في وسائل الإعلام يتساءلون علانية لماذا غدت مصر في هذا الوضع. ليبيا مهمة لجيرانها، فلا أقل من أن ملايين المصريين في أيام السلم يعملون هناك. وعندما تزدهر ليبيا فإن مصر تزدهر أيضا. ولذلك فتحت هزيمة حفتر الطريق أمام إجراء محادثات مباشرة مع الحكومة في طرابلس ومحادثات سرية مع كبار المسؤولين في المخابرات التركية.
ونتيجة لذلك، تمت الموافقة من قبل تركيا ومصر معا على مرشحي القائمة التي خسرت الانتخابات في التنافس على منصب رئيس الوزراء. وعندما رفض الليبيون هؤلاء المرشحين لم يعكر ذلك صفو التفاهم الضمني بين أنقرة والقاهرة. ولم تغدو الأمور أفضل حالا بين القاهرة وأبوظبي، حيث بدأ الجفاء بين الطرفين بسبب المال، ثم ما لبث سريعا أن تعمق جراء اعتراف أبوظبي بـ “إسرائيل”.
تركيا والمملكة العربية السعودية يجري دفعهما نحو أحضان بعضهما البعض من قبل رئيس أمريكي معاد لولي العهد السعودي وللرئيس التركي رجب طيب أردوغان
الموجة الثانية
أزاحت الموجة الثانية من التطبيع مع “إسرائيل” الموجة الأولى. فقد خسرت مصر والأردن كلتاهما ما كانا يتمتعان به من نفوذ كحاجبين يقفان على بوابة العالم العربي مع “إسرائيل”، وكانت الخسارة بنفس القدر الذي كسبته الإمارات العربية المتحدة.
وعندما أعلنت أبوظبي أنها سوف تستثمر 10 مليار دولار في قطاعات الطاقة والصناعة والمياه والفضاء والرعاية الصحية والتقنيات الزراعية في “إسرائيل”، لم يكن من باب المصادفة أن يبادر الأردن أولا إلى الامتناع عن منح طائرة بنيامين نتنياهو إذنا بالعبور من أجوائه، فاضطر إلى إلغاء رحلته التي كانت الغاية منها أن يستلم الجائزة بنفسه. أعلن مكتب نتنياهو أن الخلاف مع عمان نجم عن قرار “إسرائيل” إلغاء زيارة كان ينوي القيام بها إلى المسجد الأقصى في اليوم السابق ولي عهد الأردن.
جل شرعية السلالة الهاشمية يرتكز على دورها كوصي على الأماكن المقدسة في بيت المقدس، وهو الدور الذي بات موضع تهديد صريح من قبل ابن العم السعودي بتشجيع من “إسرائيل”. إلا أن ابن سلمان منخرط في لعبة صفرية المكسب، لأنه من خلال الدفع قدما بعلاقته هو مع “إسرائيل” فإنما يقوض الاستقرار على حدود “إسرائيل” الأكثر أمنا.
كانت قمة اليخت قد عقدت للوقوف في وجه مقاومة كل من تركيا وإيران لمخططاتهم. ولذلك ليس من باب الصدفة أن بلدين من الذين حضروا القمة يعملان حاليا على تلطيف عدائهم لأنقرة.
دخول تركيا
تركيا والمملكة العربية السعودية يجري دفعهما نحو أحضان بعضهما البعض من قبل رئيس أمريكي معاد لولي العهد السعودي وللرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وكان محمد بن سلمان قد حذره مستشاروه بأنه فيما لو فاز بايدن فلسوف يُجبر على فتح العلاقات مع تركيا.
لم يقتنع بذلك محمد بن سلمان، ويجد صعوبة جمة في التغلب على شعوره بأن أردوغان كان ينوي النيل منه لأنه أمر بقتل جمال خاشقجي، إلا أن العلاقة بين والده الملك سلمان وأردوغان لم تنقطع، ما سمح باستمرار محاولات تسوية الأمور.
عرضت قطر القيام بجهود الوساطة بين الطرفين، وهو من المفارقات، لأنه عندما بدأت دول شبه الجزيرة الخليجية في مقاطعتها، عرض الأتراك التوسط. تحتفظ تركيا بعلاقات قوية مع كل من سلطنة عمان والكويت، وفي نفس الوقت تحرص كل من أنقرة والرياض من باب المصلحة على إقناع واشنطن بأنهما لاعبان إقليميان مهمان.
ولكن هل ثمة أكثر من ذلك يجري من تحت الطاولة؟ زعم الحوثيون مؤخرا أنهم أسقطوا طائرة مسيرة “أثبتت جدواها في أذربيجان” وذلك في إشارة مبهمة إلى تركيا. فقد كانت تلك طائرة مسيرة تركية، ولكن ليست نفس تلك التي استخدمت في أذربيجان. في العام الماضي وقعت حكومة المملكة العربية السعودية صفقة مع شركة محلية لتزودها بطائرات مسيرة مسلحة بعد أن حصلت على إذن بنقل التكنولوجيا لتصنيع تلك الطائرات من شركة دفاعية تركية اسمها “فيستيل كارايل”. وفعلا، تم تزويد الحكومة السعودية بست من تلك الطائرات المسيرة.
تنفي تركيا وجود أي شيء رسمي بشأن عملية نقل التكنولوجيا. وقال مصدر تركي مطلع على قطاع الصناعة الدفاعية في البلاد إن شركة فيستيل لم تحصل على تصريح رسمي للقيام بمثل هذا النقل التكنولوجي إلى الرياض. ومع ذلك أثارت الحادثة استغراب الكثيرين. وذكرت مجلة جينز للأخبار الدفاعية إن كارايل لم يُعرف عنها من قبل تقديم خدمات للجيش السعودي.
على أي حال، ما زالت المقاطعة السعودية للمنتجات التركية مستمرة.
تريد مصر من أنقرة أن تتخذ على الأقل خطوة رمزية فيما يتعلق بتواجد جماعة الإخوان المسلمين داخل تركيا
ترميم العلاقات مع مصر
قللت القاهرة من شأن سيل من التصريحات التي أدلى بها الأسبوع الماضي وزير الخارجية مولود شاويش أوغلو وكبير مستشاري الرئيس إبراهيم قالن بل والرئيس نفسه حول فتح صفحة جديدة في العلاقات مع مصر.
ولدى تأكيده أن اتصالات تمت مع شاويش أوغلو، قال وزير الخارجية المصري سامح شكري إنه يتوجب على تركيا “أن تنسجم مع مبادئ مصر” قبل أن تعود العلاقات إلى وضعها الطبيعي. كما نشر رئيس تحرير صحيفة الوطن المصرية قائمة بعشر شروط قال إنه يتوجب على تركيا الانصياع لها قبل عودة العلاقات بين البلدين.
سيكون أثر ذلك على تركيا تماما كأثر المطالب الثلاثة عشر التي تقدمت بها دول الحصار على قطر واشترطت تنفيذها.
وكانت موجة من التفاؤل قد سرت في تركيا بعد إعلان مصر عن سعيها للقيام بالتنقيب عن النفط والغاز في شرقي المتوسط والإقرار بالإحداثيات التي حددتها أنقرة للجرف القاري التابع لها. مع أن وزير خارجية اليونان نيكوس دندياس يزعم أنه “عدل” هذه الإحداثيات بعد زيارة قام بها إلى القاهرة.
إلا أن كبار المسؤولين في المخابرات التركية التقوا نظراءهم المصريين عدة مرات في الآونة الأخيرة. ففيما عدا ليبيا، تعرض تركيا على المصريين المساعدة في حل نزاعهم مع إثيوبيا حول سد النهضة الإثيوبي العظيم، بينما تقوم الإمارات العربية المتحدة بالعكس تماما إذ تعرض المساعدة على رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد.
وكان محمد دحلان، المسؤول الكبير السابق في حركة فتح والمقيم في أبوظبي، قد وصل إلى أديس أبابا في زيارة معلنة. أما ما لم يتم الإعلان عنه، فهو أن سيده ولي العهد محمد بن زايد كان برفقته، وذلك بحسب ما صرح به مصدر مطلع. ما تزال مصر مترددة في التجاوب مع مبادرة التقارب التركية، ولم يتحقق انفراج حتى الساعة.
في تصريح لموقع ميدل إيست آي، قال أحد المسؤولين: “تريد مصر من أنقرة أن تتخذ على الأقل خطوة رمزية فيما يتعلق بتواجد جماعة الإخوان المسلمين داخل تركيا.”
إذا كان ذلك هو المطلوب فلن يحصل شيء. فجماعة الإخوان المسلمين ليس لها وجود فعلي على شكل مكتب إقليمي في تركيا، ولذلك لا يوجد ما يمكن إغلاقه. أما تعقب أعضاء الجالية المصرية الكبيرة في إسطنبول بشكل فردي فسوف يعني تسليم المطلوبين وهذا أمر لن تقدم عليه تركيا. كما لا وجود حتى الآن لضغوط تركية ملموسة على وسائل إعلام المعارضة المصرية في إسطنبول. ومعروف أن القاهرة تود بالذات إسكات قناة الشرق الفضائية ووقف بثها.
حتى الآن، كل ما نشهده هو احتضان دافئ في يوم، وطعن في الظهر في اليوم التالي.
في تصريح لموقع ميدل إيست آي، قال أيمن نور مالك قناة الشرق الفضائية: “لا يوجد ما يمكن للسلطات التركية أن تمنحه أو تمنعه فيما يتعلق بقناة الشرق الفضائية لأننا لا نمول لا من قبل تركيا ولا من قبل قطر. ونحن لم نشعر بأي تغير من قبل الجانب التركي تجاه قناة الشرق.”
ناهيك عن أن القيام بأي من هذه الأشياء سوف يعني تغيرا استراتيجيا ليس فقط في السياسة الخارجية بل وأيضا في السياسة المحلية. فمع أن تركيا جمهورية علمانية إلا أن أردوغان أقرب ما يكون إلى زعيم ذي توجهات إسلامية. لا يوجد ما هو قطعي في هذه التوترات داخل المحور الذي بذل جهودا جمة لإخماد الديمقراطية ومنع الانتخابات الحرة النزيهة. لعلهم إذن يستخدمون هذه المبادرات للتقارب مع خصومهم كأوراق للتفاوض فيما بينهم.
إلا أن المحور نفسه يضعف، والدروس التي يمكن للجميع في المنطقة أن يتعلموها باتت واضحة. حيثما كانت العلاقات الخارجية قائمة على اتفاقيات سرية بين الزعماء، وكل منهم لديه من الأسباب ما يجعله يخشى شعبه، فإنها تكون قائمة على رمال، ولن تلبث أن تنهار. وحينما تكون تلك العلاقات قائمة على المصالح الاستراتيجية للشعوب، فإنها تكون قائمة على أرض صلبة، وتكون قابلة للاستمرار. وكلما كانت المصالح الوطنية قائمة على مصالح الشعوب لا مصالح الحكام، كان الاستقرار في المنطقة أكثر رسوخا.
حتى الآن، كل ما نشهده هو احتضان دافئ في يوم، وطعن في الظهر في اليوم التالي.
المصدر: ميدل إيست آي