تتأرجح الجزائر هذه الأيام بين مخاضين وولادتين عسيرتين، ففي وقت عادت الاحتجاجات السياسية بمناسبة الذكرى الثانية للحراك الشعبي، راجت معلومات أن البلاد تئن تحت وطأة تراجع مواردها النفطية.
في 8 من فبراير/شباط 2021، أثار تقرير صدر عن وكالة الأنباء الأمريكية “بلومبيرغ” سؤالًا مهمًا للغاية: “هل ما زالت الجزائر دولة نفطية؟”، وقال كتاب التقرير وهم كل من فيرتي راتكليف وسهيل كرم وسلمى الوردان، إن الدولة الواقعة في شمال إفريقيا تكافح من أجل استمرار شحنات الذهب الأسواد والغاز، اللذين يعتبران شريان الحياة للاقتصاد، وأرجعوا السبب إلى سوء الإدارة ونقص الاستثمار.
ومن بين التصريحات التي استند إليها معدو التقرير، التصريحات التي أدلى بها الوزير المنتدب لدى رئيس الوزراء الجزائري المكلف بالاستشراف، محمد شريف بلميهوب، للإذاعة الحكومية، إذ قال إن الجزائر ستكون عاجزةً عن تصدير برميل واحد من الذهب الأسود بعد أربع سنوات من هذا التاريخ أي بحلول سنة 2025، في حال بقاء وتيرة الاستهلاك على حالها.
الجزائر بلد غير بترولي
لم تتوقف تصريحات محمد شريف بلميهوب الصادمة عند هذا الحد فقط، بل أضاف “الجزائر بلد غير بترولي، وهذا عكس ما تم الترويج له في فترات سابقة”، وأشار إلى أن الجزائر تعتبر دولة بترولية صغيرة، وهو ما يعكس مرتبتها الـ13 في منظمة “أوبك” التي تعتبر مرتبةً متأخرةً جدًا.
الرؤية التي قدمها الوزير الجزائري المنتدب المكلف بالاستشراف محمد شريف بلميهوب، تتوافق كثيرًا مع الصورة التي قدمها عبد المجيد عطار وزير الطاقة الجزائري السابق والمدير العام الأسبق لشركة سونطراك النفطية (المملوكة للدولة الجزائرية)، قبل إقالته من منصبه في آخر تعديل حكومي أجراه الرئيس الجزائري، إذ قدم حوصلة سلبية عن وضعية قطاع المحروقات وخسارة أرباح طائلة تقدر بعشرة مليارات دولار وتسجيل تراجع جديد في الإنتاج والصادرات وتراجع الاستثمارات الأجنبية في سوق النفط والغاز.
يرجع خبراء ومختصون جزائريون أسباب تراجع صادرات الجزائر من الطاقة، إلى تأخر صدور النصوص التطبيقية لقانون المحروقات الجزائري الذي قوبل برفض شعبي وسياسي
وحسب الأرقام التي كشفها عطار (وزير الموارد المائية في سنوات 2000)، لدى نزوله إلى مبنى المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الأولى للبرلمان الجزائري)، فإن مداخيل الدولة الجزائرية من صادرات المحروقات خلال الأشهر التسع الأولى لسنة 2020، تراجعت بـ41% مقارنة بالنسبة الماضية، وأرجع الأمر إلى تقلص الصادرات بعد اتفاق أبرمته الجزائر بمعية أعضاء آخرين في منظمة البلدان المصدرة للبترول “أوبك” على خفض الإنتاج العام الماضي مع انتشار الوباء ووقف الطائرات وإغلاق المصانع وتوقف حركة الطيران.
الوضع ذاته ينطبق على الغاز الجزائري الذي اشتدت عليه الضغوطات في السوق الدولية في السنوات الأخيرة بسبب احتدام المنافسة بين القوتين التقليديتين – أمريكا وروسيا – إضافة إلى دول أخرى على غرار الصين وأستراليا وإيران لكن بدرجة أقل، وتراجع إنتاج البلاد في العامين الأخيرين إلى أدنى مستوى له منذ عقد، بحسب المعطيات التي كشفها منتدى الدول المصدرة للغاز، وأرجع المنتدى أسباب هذا التراجع إلى الاستهلاك الكبير للوقود في محطات الطاقة المحلية مع ارتفاع عدد سكان هذ الدولة الواقعة في شمال إفريقيا وهو ما يترك مجالًا أقل للتصدير.
ومن بين الأسباب الأخرى التي كانت وراء تراجع الطاقة الإنتاجية من الغاز الطبيعي المسال إلى أكثر من 68 مليون طن، يشير الوزير الجزائري السابق للطاقة إلى عدم الاستثمار في الحقول الغازية في الوقت الذي كان منافسو الجزائر الدوليين منشغلين باكتشاف حقول غازية جديد، حتى إنه قال إن حقول الغاز لا تنتج بالشكل الكافي ونحو 50 حقلًا بين نفط وغاز مكتشفين حديثًا مردوديتهم ضعيفة للغاية، يحدث هذا في وقت تطمح شركة الطاقة الحكومية “سونطراك” إلى زيادة صادرات الغاز بنحو 25% هذا العام حتى مع خفض الإنفاق.
قانون المحروقات حبيس الأدراج
يرجع خبراء ومختصون جزائريون أسباب تراجع صادرات الجزائر من الطاقة، إلى تأخر صدور النصوص التطبيقية لقانون المحروقات الجزائري الذي قوبل برفض شعبي وسياسي واسع لبنوده باعتبارها “تفريطًا في ثروات البلاد للشركات الأجنبية”.
مع بدء أولى مراحل العودة إلى الحياة الطبيعية في العالم، تخطت أسعار النفط عتبة جديدة في السوق الدولية بشكل لم تشهده منذ يناير/كانون الثاني 2020
فالتأخر الصادر في هذه النصوص البالغ عددها 43 نصًا سيدفع ببعض الدول الراغبة في الاستثمار بالجزائر إلى تغيير وجهتها نحو دول أخرى أكثر استقطابًا، حتى إن هذا التأخر المسجل سيتسبب في تعطيل إطلاق المناقصات الدولية الخاصة بالاستكشاف والتنقيب عن البترول والغاز في الحقول النفطية، وهو ما يؤكده الخبير الجزائري في الشؤون المالية والاقتصادية سليمان ناصر لـ”نون بوست”.
ويلفت سليمان ناصر إلى أن انخفاض الصادرات تقف وراءه ثلاثة عوامل يتعلق الأول ببقاء النصوص التطبيقية لقانون المحروقات الجزائري حبيسة الأدراج رغم مرور 16 شهرًا على مصادقة نواب البرلمان بغرفتيه على المشروع.
ويوضح أن عدم صدورها عطل عملية دخول المستثمرين الأجانب إلى البلاد وهو ما أكده وزير الطاقة السابق عبد المجيد عطار بقوله إن بلاده لم تستثمر في حقولها الغازية في وقت كان منافسوها في السوق الدولية منشغلين باكتشاف حقول غازية جديدة.
إضافة إلى هذا العامل يوجد عامل آخر يتمثل في الركود الاقتصادي الذي ضرب العالم بأسره بسبب جائحة كورونا، فكل الاستثمارات أصبحت تسير بوتيرة بطيئة للغاية، أما العامل الثالث فيتمثل في تهاوي أسعار النفط في الأسواق الدولية في الأشهر الأولى من الجائحة.
ومع بدء أولى مراحل العودة إلى الحياة الطبيعية في العالم، تخطت أسعار النفط عتبة جديدة في السوق الدولية بشكل لم تشهده منذ يناير/كانون الثاني 2020، إذ بلغت الأسعار أعلى مستوى لها في أكثر من عام بعد أن التزمت أوبك وحلفاؤها بعدم زيادة الإمدادات في أبريل/نيسان القادم، وبلغت أسعار النفط هذا الأسبوع نحو 70 دولارًا للبرميل، حيث تصاعدت العقود الآجلة لخام “برنت” بنسبة 0.7% ليصل سعر البرميل إلى 69.69 دولار.
جرح آخر عميق
وفي الشأن ذاته يؤكد الخبير الاقتصادي عبد القادر بريش، أن كل المعطيات الحاليّة وحتى الأرقام والتقارير كفيلة بأن تفسر أن الجزائر لم تصبح دولة نفطية بسبب تهاوي حجم المخزون الاحتياطي الذي تحوز عليه، إضافة إلى تراجع منسوب الآبار التقليدية في ظل تراجع الاستثمارات الأجنبية في مجال التنقيب والاستكشاف.
لا بد من التركيز حاليًّا على الانتقال الطاقوي وخاصة الطاقات المتجددة كالطاقة الشمسية إضافة إلى الاعتماد على قطاعات أخرى كالفلاحة والمناجم والسياحة
زيادة على ذلك يشير بريش إلى تراجع الإنتاج اليومي للجزائر، إذ تبلغ صادرتها اليومية 937 ألف برميل منها 677 ألف برميل من النفط العام يوميًا و80 ألف برميل من النفط الخفيف و180 ألف برميل نفط سائل.
وما يعمق من جرح الجزائر العميق وما بات يهدد عائداتها الريعية من العملة الصعبة خاصة أن إيرادات الطاقة تشكل نحو 92% من إجمالي واردات الجزائر من العملات الصعبة وارتفاع الطلب الداخلي، هو ما أكده وزير الطاقة الجزائري الحاليّ محمد عرقاب سنة 2019 لدى نزوله إلى مبنى البرلمان الجزائري للرد على أسئلة النواب، حيث بلغ الاستهلاك المحلي 45 مليون طن مكافئ بترول نهاية سبتمبر/أيلول 2019 مقابل 42 مليون طن مكافئ بترول في نفس الفترة مسجلًا ارتفاعًا قدره 8%.
ويعتقد عبد القادر بريش أنه لا بد من التركيز حاليًّا على الانتقال الطاقوي وخاصة الطاقات المتجددة كالطاقة الشمسية إضافة إلى الاعتماد على قطاعات أخرى كالفلاحة والمناجم والسياحة.
وكان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، قد تحدث في كلمة بمناسبة الذكرى المزدوجة لتأميم المحروقات وتأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريين (نقابة حكومية)، عن جملة من التحديات التي تواجه الأمن الطاقوي في البلاد، وذكر من بينها “توسيع وتطوير البحث والاستكشاف، والوفاء بالالتزامات إزاء الأسواق الخارجية، ومواكبة التحولات باتجاه الانتقال الطاقوي، الذي يعد من أهم أولوياتنا لتعزيز الأمن الطاقوي من منظور القدرات الواضحة المتاحة لبلدنا في مجال الطاقات غير التقليدية، الجديدة والمتجددة”. وشدد على ضرورة توسيع الاستثمارات في قطاعات حيوية كالفلاحة والسياحة للخروج الفعلي من تبعية طال أمدها لريع البترول والغاز.