عندما أصيب الاقتصاد العالمي بشلل مفاجئ جراء جائحة كورونا، بدا من الواضح أن البلدان الناشئة تعاني أكثر من نظيراتها في الدول الأكثر تقدمًا، وتركيا لم تكن استثناءً، إذ تقلص الناتج المحلي الإجمالي التركي بنسبة 10% في الربع الثاني من العام الماضي على أساس سنوي، وابتداءً من منتصف مارس/آذار 2020، وصلت الحالات بسرعة إلى 5000 حالة في اليوم، ما قاد البلاد لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة لتقليل انتشار الوباء، أدت إلى انخفاض عدد الحالات الجديدة إلى أقل من 1000 حالة يوميًا بحلول يونيو/حزيران.
لكن مع تخفيف القيود وعودة الناس للعمل كالمعتاد، بدأت الإصابات ترتفع مرة أخرى، واضطرت تركيا للعودة لحالة الإغلاق مرة أخرى، وما بين عدد إصابات يرتفع وعملة تنزف واحتياطات نقدية متدهورة وحالة إغلاق تام أو جزئي لمعظم المحال التجارية دون قدرة على تقديم تعويضات مالية كافية للمواطنين الذين فقدوا وظائفهم ولا أصحاب الأعمال الذين أجبروا على الإغلاق، لم يكن أمام الحكومة إلا أن تفتح باب الإقراض الميسر.
وباستخدام سلاح الإقراض بأسعار فائدة منخفضة في النصف الأول من العام، فإن الاقتصاد البالغ 760 مليار دولار نجا بصعوبة من الانكماش الذي أحدق على العالم عام 2020، وساعد بشكل كبير في التخفيف من حدة الأزمة، لكن لم يستمر ذلك طويلًا، تحديدًا مع حالة النزيف التي أصابت الليرة منذ ذلك الوقت، وكشفت معها تساؤلات مهمة عن صلادة الاقتصاد التركي، وضرورة الشروع بحزمة إصلاحات اقتصادية جدية وبشكل فوري، وهو ما أعلن عنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخرًا لجعل “تركيا واحدة من أكبر 10 اقتصادات بالعالم”، بحسب قوله. فهل هذا ممكن؟
أداء الاقتصاد التركي في آخر عامين
– الميزان التجاري
من فائض عام 2019، تحول الحساب الجاري مرة أخرى إلى عجز بلغ 20 مليار دولار أمريكي (3.4% من الناتج المحلي الإجمالي) في النصف الأول من عام 2020 حيث انخفضت الصادرات بنسبة 21% على أساس سنوي، بينما انخفضت الواردات بنسبة 4% فقط، ومع الضربة التي أصابت سعر الصرف زادت كلفة الواردات بشكل كبير، ما فتح الباب لسؤال مهم عن استيراد الاقتصاد التركي احتياجاته بنسبة عالية من الدول الأجنبية بما هو أكثر من اللازم.
إلى جانب نوعية الصادرات التركية، فمن أهم عناصر ازدياد العجز في الميزان التجاري انخفاض الطلب العالمي على المنتجات الصناعية ذات التكنولوجيا المنخفضة والمتوسطة التي تمثل 97% من صادرات المنتجات التركية إلى العالم.
ويعني ذلك أن الاقتصاد دخل في دوامة ما بين عملة ضعيفة واعتماد كبير على الواردات واحتياطات أجنبية مستنزفة ونسب تضخم عالية، إضافة إلى ضغوط سياسية وتلويح بفرض عقوبات أوروبية أمريكية متعلقة بملفي التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط ومنظومة إس 400 الروسية.
بدأت بالفعل تتدفق مليارات الدولارات من الأموال الساخنة على البنوك التركية بحثًا عن معدلات الفائدة المغرية مقارنة بمعظم الموجود في العالم
– الدين يزيد الأمور صعوبة
استجابةً لجائحة كورونا، لجأت السلطات إلى التيسير النقدي بشكل قوي، وذلك عن طريق استخدام البنك المركزي العديد من أدوات السيولة لتعزيز المعروض النقدي، ودعم التوسع المالي الذي استهدف العمال والشركات والأسر والخدمات الصحية، إذ وصل عجز الحكومة المركزية لمدة 12 شهرًا إلى 3.4% من الناتج المحلي الإجمالي في يونيو/حزيران.
هذا كله أدى إلى تنامي الائتمان بنسبة 29% على أساس سنوي بحلول أغسطس/آب الماضي، بالإضافة إلى ذلك قدمت وكالة التنظيم والرقابة المصرفية (BRSA) تدابير تلزم البنوك بتخفيض تعريفات القروض المتعثرة والمؤجلة، ما جعل تقييم جودة الأصول الحقيقية للبنوك أمرًا صعبًا.
هذه المعطيات خلقت حالة من عدم اليقين مما أدى إلى نقل رؤوس الأموال إلى الخارج بقيمة بلغت أكثر من 20 مليار دولار أمريكي (صافي) بين مارس/آذار ويونيو/حزيران، ولتعويض هذا النقص تم اقتراض مبلغ 10 مليارات دولار أمريكي مع مصرف قطر المركزي من خلال توسيع اتفاقية المقايضة SWAP التي كانت قائمة بين البلدين.
كما استخدم حينها البنك المركزي احتياطياته لدعم استقرار العملة، ومع ذلك انخفضت قيمة الليرة التركية بنسبة 29% مقابل الدولار الأمريكي بين يناير/كانون الثاني ونهاية أغسطس/آب، وساهم الموقف النقدي الفضفاض وانخفاض قيمة العملة وارتفاع التضخم الذي بلغ 11.8% على أساس سنوي في أغسطس/آب، في دفع المواطنين الأتراك للتوجه إلى الدولار والذهب للحفاظ على قيمة مدخراتهم من التضخم الذي واصل الارتفاع فيما بعد ليصل إلى 15.61% مع حلول فبراير/شباط 2021.
– القيادة المالية
بحلول نوفمبر/تشرين الثاني الماضي حصل تغير كبير في قطبي الإدارة المالية في البلاد (استقالة وزير المالية وإقالة محافظ البنك المركزي)، ومع هذا التغير شهدت الليرة تحسنًا كبيرًا في قيمتها تزامنًا مع التزام محافظ البنك المركزي الجديد ناجي آغبال بسياسة نقدية مشددة، إذ رفع معدل الفائدة الرسمي من 8.25 إلى 17% حاليًّا.
وبدأت بالفعل تتدفق مليارات الدولارات من الأموال الساخنة إلى البنوك التركية بحثًا عن معدلات الفائدة المغرية، وهي نسب غير متاحة في سائر دول العالم وتحديدًا المتقدمة، لكن وعلى الصعيد الداخلي لم تنجح أسعار الفائدة المرتفعة بإقناع المواطنين بالتخلي عما بحوزتهم من عملات أجنبية، فقد واصلت ودائع الأتراك بالعملة الصعبة بالارتفاع منذ عام 2015 وحتى اليوم لتصل إلى ما يعادل 262 مليار دولار، بحسب أحدث بيانات البنك المركزي التركي.
مؤشر يوضح ارتفاع ودائع الأتراك بالدولار منذ عام 2016 وحتى 2021
المجهول الكبير هو إلى أي مدى سيكون الرئيس رجب طيب أردوغان المعارض القوي لأسعار الفائدة المرتفعة، على استعداد لتحمل الموقف المتشدد الذي اتخذه ناجي أغبال، محافظ البنك المركزي الجديد، الذي قاد التغيير في أسعار الفائدة، ففي الوقت الذي ارتفع فيه التضخم (ومن المتوقع أن يرتفع أكثر في الشهور القادمة)، عادت المؤسسات المالية الكبرى لتطلق توقعاتها بضرورة رفع سعر الفائدة مرة أخرى على الأقل بـ100 نقطة أساس.
في هذا الإطار، قال بيوتر ماتيس الخبير الإستراتيجي للعملات في الأسواق الناشئة في Rabobank: “هناك بالتأكيد خطر أن يكون المحافظ آغبال في وضع مماثل لمن سبقوه، الذين تعرضوا لضغوط هائلة لتخفيف السياسة النقدية، لكنني أفترض أنه قد لا يحدث ذلك حتى أوائل العام المقبل”.
فلا يخفى على أحد أن الاقتصاد التركي يمر بفترة عصيبة وغير مفهومة بالنسبة للكثيرين، ففي حين يتم الإعلان فيه عن نمو كبير وارتفاع في حجم الصادرات وشواهد كثيرة أخرى على فعالية التركيبة الاقتصادية التركية، تشهد البلاد ارتفاعًا كبيرًا في نسب التضخم المعلن عنها رسميًا ونزيفًا مستمرًا في سعر صرف عملتها.
صدى الوعود الجديدة
شهدت الليرة التركية تحولًا كبيرًا مع بداية هذا العام، تحديدًا بعد الآثار الكبيرة التي خلفتها جائحة كورونا عام 2020، لتصبح العملة المحلية حديث الناس في الأسواق الناشئة، إذ اكتسبت أكثر من 6% مقابل الدولار عام 2021، بعد أن تراجعت بمقدار الخمس العام الماضي.
وعلى عكس ما كان يعتقده بعض المحللين المتفائلين فإن ارتفاع سعر الصرف مقابل الدولار إلى ما دون المستوى 7 ليرات تركية لم يستمر، حيث شهدت الليرة التركية انخفاضًا حادًا مع بداية مارس/آذار الحاليّ لتعود للانخفاض مرة أخرى أمام الدولار، وجاء ذلك تزامنًا مع تعاظم توقعات ارتفاع التضخم في أمريكا الذي أدى بدوره لارتفاع عوائد سندات الخزينة الأمريكية لـ10 سنوات، لمستويات ما فوق الـ1.6%.
نتج عن هذه الحالة معادلة بسيطة: عملة غير مستقرة = استثمارات غير مستقرة، وذلك لأن تذبذب سعر الصرف يمنع الاقتصاد من اغتنام فرصة الاستقرار لجذب وتشجيع المستثمرين على الاستثمار في القطاعات التي تسهم في التنمية الاقتصادية المستدامة، وإنما تفتح الباب أمام المضاربين والمستثمرين الباحثين عن أرباح سريعة.
ويعني ذلك تحول عملة البلاد وبالتالي اقتصادها إلى أداة بين يدي المضاربين أكثر منه مركزًا لاجتذاب الشركات الكبرى التي تسهم في تقليص معدلات البطالة وضخ رؤوس أموال ضخمة في الاقتصاد المحلي والمشاريع التنموية، والأهم من ذلك كله أن ذلك يحرم البلاد من اكتساب خبرات وأدوات التكنولوجيا الحديثة التي ترافق استثمارات الشركات العالمية الكبرى.
ومع تزايد الضغوطات الاقتصادية على الحكومة التركية أعلن الرئيس التركي في تاريخ 12 من مارس/آذار عن حزمة إصلاحات اقتصادية ووعد بمزيد من التسهيلات للمستثمرين، لكن وعلى الرغم من انتظار طال أمده لهذا الاعلان، يبدو أن الأسواق لم تتعاط بشكل إيجابي مع ما جاء في خطاب الرئيس أردوغان ولم تشهد الليرة التركية أي تحسن يذكر، ويبدو أن ما هو مطلوب كان أكثر مما قيل.
وحتى هذه اللحظة، ييدو أن سعر الفائدة هو الذي يؤثر بشكل أساسي، وإن لم يكن فعال على كبح جماح صرف الليرة التركية، فعلى الرغم من أنه يقف حاليًّا عند 17%، فمن المتوقع أن يضطر البنك المركزي التركي لرفعه مرة أخرى بحد أدنى 100 نقطة أساس بحسب توقعات المؤسسات والبنوك المالية مثل JP MORGANS.
السياسة والسوق
قال الخبير الاقتصادي هالوك بورومتشيكي من شركة Burumceki Consulting ومقرها إسطنبول، إن إصلاح القيادة والوعود بالإصلاحات الاقتصادية أوجد نافذة لمحاربة التضخم الذي يقف حاليًّا ما يقرب من ثلاثة أضعاف هدف 5% المعلن عنه.
ولكن هذه التغييرات تحتاج إلى وقت لكي نرى نتائجها، فقد قال سيمون كاسلوسكي، رئيس TUSIAD، أكبر مجموعة أعمال في تركيا، التي تتوقع نموًا سنويًا بنسبة 4% في عام 2021: “سيستغرق بناء الثقة في الاقتصاد وقتًا”. وأضاف: “أمامنا طريق طويل لنقطعه عندما يتعلق الأمر بمعركة التضخم، وسنمر بفترة يتعين علينا فيها التنازل عن النمو الاقتصادي”.
وهذا يعد غير مقبول أمام طموحات الرئيس التركي الذي يستعد للانتخابات القادمة في سنة 2023، ولا يستطيع تحمل كلفة الوقت اللازمة لتنفيذ برامج إصلاحية زراعية وتعليمية تحتاج إلى سنوات طويلة لنشهد تأثيرها على الأداء الاقتصادي، لأن أي إصلاحات اقتصادية حقيقية وجادة تحتاج إلى وقت كى نرى ثمارها، وتكلفة هذا الوقت مرتفعة جدًا على السياسيين، ولذلك عادة ما تلجأ الدول، خاصة الناشئة، إلى حلول مسكنة أو مؤقتة، بعيدًا عن النتائج المستدامة، من أجل تحقيق أهداف سياسية على المدى القصير.
أما إذا أردات الحكومة التعامل بجدية مع هذا الملف، سعيًا لتحقيق إنجازات على المدى الطويل، فإنها ستضطر للاعتراف بأخطاء سياستها الاقتصادية خلال الأعوام الماضية وفي نفس الوقت تحميل المواطنين تكاليف الإصلاح التي لن يشعروا بنتائجها قبل الانتخابات القادمة، وهو ما يجعل الحزب الحاكم أمام مخاطرة كبيرة قد تعرضه لخسارة أكبر من خسارة البلديات الرئيسيىة في الانتخابات الماضية.
حلول سريعة
مما لا شك فيه أن حالة الاقتصاد التركي معقدة ولا يمكن تحسينها من خلال الحقن المهدئة، ولكن في نفس الوقت ثمة إجراءات سريعة يمكن أن تعطي دفعة كبيرة وآنية للاقتصاد، وبشكل أساسي تدور جميعها حول دعم الثقة الداخلية والخارجية في الاقتصاد التركي، وهي:
1- اتخاذ خطوات عملية لزيادة شفافية الموازنة الحكومية.
2- التقشف في الموازنة الحكومية ومشاركتها بشفافية مع المواطنين.
3- إيجاد مصدر تمويل بسرعة قصوى لدعم القطاع الخاص، وإن كان ذلك على حساب العقود والالتزامات الثقيلة لمشاريع البنى التحتية الضخمة.
4- اتخاذ خطوات واضحة في ملف الحريات وحقوق الانسان.
5- تحسين العلاقات مع الغرب وأمريكا لتفادي أي عقوبات أو توترات دبلوماسية قد تزيد الطين بلة.
6- إيجاد مصدر تمويل أقل تكلفة، بمعدل فائد منخفض، لتقليص عجز الموازنة (مثل اللجوء لصندوق النقد الدولي).
وبطبيعة الحال، إذا عملت الحكومة بالمقترحات السابقة، سيتحسن تصنيف تركيا الائتماني مما سيسهم بخفض كلفة الاقتراض الحكومي بشكل ملحوظ، وهو ما سينعكس تلقائيًا على أداء الاقتصاد التركي، ودون ذلك فإننا سنعود إلى المربع الأول.