عشر سنوات متقلبة مرت على العالم العربي، حملت معها الأمل والقوة والخيبة في آن معًا، حيث شكَلت جميع الثورات إلهامًا كبيرًا للشباب في فترات عدة خلال العقد الأخير، ومن البديهي القول إن وقع الخسارات كان كبيرًا وفيه الكثير من المرارة، خاصة لشعب عانى الأمرين قبل سبعين عامًا، يرى أمامه شعبًا لطالما سانده فكرًا وشعورًا وموقفًا، يتذوق كأس الظلم ذاته، لا سيما أن الفلسطيني يرى أنه ابن الشام الكبرى.
سمعت لفظ كلمة “شام” في المرة الأولى من جدي إبراهيم الذي كان يضج من أسئلتي الكثيرة عن النكبة وما قبلها وما بعدها، وهو الذي أخبرني عن حبه الشديد للشعب السوري واصفًا إياه بالشعب الأصيل، خاصة أن كلامه هذا جاء بعد تجربته هو ورفاقه سنة 1948، عام النَكبة مع أهل الشام.
وصف جدي أحوال الفلسطينيين الذين طُردوا أو فروا للنجاة بحيواتهم، من مدنهم وقراهم في شمال فلسطين حينها، خوفًا من الحرب والموت، بأن البائعين في سوق الحميدية السوري كانوا يوفرون لهم الطعام.
كما قال لي جدي ذات مرة، إن مسنة سورية أعطته بطانية، وقالت له: “ارجعوا إلى بيروت ومن هناك إلى الجليل، ما تتركوا الأرض للخونة”، في جملة بسيطة، إلا أنها تعكس شيئًا من الهم الواحد الذي كان مشتركًا بين الجميع، لذا، أنا أرى وبشكل جلي وواضح، أنه ليس هناك أحد يشعر بحرقة السوري الفاقد لأرضه ووطنه، كشعور الفلسطيني معه.
للاستبداد وجوه
لم ير الشعب السوري من النظام الذي أحكم قبضته الديكتاتورية الملطخة بالدماء على البلاد، إلا الظلم بكل أشكاله وأنواعه والاستبداد، الأمر الذي ولد شعور القهر والعجز لدى البسطاء الذين لا يريدون إلا أن يحيوا بكرامة في وطنهم، وهو الأمر ذاته الذي يسعى إليه الفلسطينيون، بالإضافة إلى سعيهم للحرية بطبيعة الحال.
أهدت الثورة السورية ثورات صغيرة لنا جميعًا، ثورات على المفاهيم التي ورثها الشباب العربي من الماضي
ويزداد شعور الفلسطيني بالسوري، لا سيما أن النظام الاستعماري الذي احتل فلسطين بممارساته ما زال مستمرًا فيما يفعل، دون قلق أو هوادة، كما يستمر في موازاة ذلك، السيناريو المؤلم والمكرر والرتيب ذاته منذ النكبة وحتى الآن على المجتمع الفلسطيني في الداخل، وفي الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر والشتات الذي يرى معظم الذين أُجبِروا على العيش في ظله، أن عودتهم لمنازلهم وبلداتهم وقراهم وتراب أرضهم، التي أرغموا على الابتعاد عنها، مجرد حلم قد يكون بعيد المنال!
لذا، وبسبب كل ما ذُكر؛ ما زال الفلسطيني متقوقعًا في الدائرة المغلقة ذاتها منذ النكبة، دون أن يملك مجال رؤية مفتوحًا إلى خارجها، إذ إنه منذ النكبة يرى نفسه فقط من خلالها، في الوقت الذي يحافظ المستعمر على نفسه كواجهة أساسية في الصورة الفلسطينية الكاملة، لهذا السبب، يصعُب على الفلسطينيين كجماعة، موضَعة وفهم ما خسره الشعب الفلسطيني بعد النكبة، وأين تتوقف هذه الخسارة، ما يجعلهم الأكثر فهمًا لعمق الجرح السوري الذي يعتبر النظام السوري المسؤول الرئيسي عنها.
هتافٌ واحد: “جنة جنة جنة”
صارت هتافات الثورة، نغمًا يوقظ الأمل في نفوسنا، إلا أن هذا النغم بات مغموسًا بالكثير من الحسرة، خاصة بعد موت من هتف ومن غنى للثورة.
وفي نظرة إلى الداخل الفلسطيني، نرى أن الجماهير ثارت بعد أن فتكت بها الجريمة المنظمة بفعل تواطؤ السلطات الاستعمارية، التي دأبت على تمزيق وتهشيم البنية الاجتماعية والسياسية للفلسطينيين، وقطع صلتهم عن أمتهم العربية، فيما يتم مؤخرًا تنظيم حراك سلمي في مدينة أم الفحم، حراك يمثل بوصلة للجماهير العربية، ويُعتبر شعلة أمل للشباب الفلسطيني، وليست صدفة أن هتاف الحراك هذا هو الهتاف بعبارة: “جنة جنة جنة” الذي كان أحد هتافات الثورة، ما يثبت أن هناك امتدادًا جغرافيًا وثقافيًا وقوميًا لشعبين، أقوى من إرادة الطغيان.
أهدت الثورة السورية ثورات صغيرة لنا جميعًا، ثورات على المفاهيم التي ورثها الشباب العربي من الماضي، ثورات على كل شيء، وأهمها على الخوف.
ثورة حقيقية ضد سياسة حكم الرجل الواحد
الصحافية منال عويس، التي تقطن في جنين، رأت في حديث لـ”نون بوست” أن “الثورة السورية ثورة إنسانية حقيقية ضد سياسة حكم الرجل الواحد والعائلة الواحدة، وإن كانت هذه العائلة تدعي زورًا بأن فلسطين بوصلتها”.
وذكرت عويس أن “فلسطين لا تحتاج لمجرمين ليدافعوا عنها، بل هي وبنضالها لفظت المجرمين أينما كانوا، وكان أساس نضال الشعب الفلسطيني، هو إيقاف سفك الدماء وضد سرقة حقوق الناس بالعيش على أرضهم بكرامة”.
وقالت: “مطالب الشعب السوري منذ البداية كانت واضحة، هذا شعب عانى ما عاناه جراء حكم الحزب الحاكم الذي تحول إلى حكم زمرة من المحيطين بالرئيس صاحب السلطة المطلقة، وسيطرة أصحاب النفوذ كباقي الدول العربية”.
وفي محاولتها لتسليط الضوء على الالتباس الذي قد يقع عند البعض بسبب الخطابات الرنانة، ذكرت عويس أنه “في سوريا التبست الأمور على البعض لأن الحاكم هناك اتخذ خطاباته الرنانة لصالح حقوق الشعب الفلسطيني ودعمه لمقاومة ادعت في ما قبل أن سلاحها لن يُوجَه إلا للمحتل الإسرائيلي، لكن ما إن جاءت الثورة السورية حتى تعرت هذه المقاومة من لباس الطهر والعنفوان الذي كانت ترتديه أمامنا، وكشفت عن دجلهم بأنها ذراع لإيران الخيمينية الطائفية”.
مشاهد عاشها الفلسطيني
من جانبه، قال مدير مدى الكرمل – المركز العربي للدراسات الاجتماعية -، مهند مصطفى، إن الفلسطينيين انقسموا بشأن الثورة السورية بصورة لم ينقسموا مثلها من قبل على ثورة.
وأضاف مصطفى “أعتقد أن الثورة السورية كانت عند جزء كبير من الفلسطينيين ثورة ضد الاستبداد والقمع، وأعتقد أن الأغلب من الفلسطينيين يعتقدون أن حرية المواطن العربي وتفكيك الاستبداد السياسي، هو الأمر الكفيل بتحرير فلسطين من الاستعمار”.
وتابع “الثورة السورية حملت أملًا مثل باقي الثورات بالنسبة للفلسطينيين، أملًا بأن يتحرر السوري والفلسطيني معًا، وهو باعتقادي موقف إنساني وعروبي ووطني، فالفلسطيني الذي يناضل ضد الاستعمار والاحتلال ليس بمقدوره أخلاقيًا وإنسانيًا ووطنيًا إلا أن يدعم ثورة الشعب السوري، الذي تعرض لقمع غير مسبوق”.
وأوضح مصطفى أن الكثير من الفلسطينيين “يشعرون بنكبة الشعب السوري، وبكارثة اللجوء ودمار الحضارة السورية والتهجير والتطهير على أُسس مذهبية”، خاصة أنها مشاهد عاشها الفلسطيني في فلسطين.
وشدد مصطفى على أن ثورة سوريا كانت ستشكل دعمًا للقضية الفلسطينية مثل باقي الثورات، لأن حرية العربي تعني حرية الفلسطيني.
علاقة مركبة
بدوره، قال أستاذ الإعلام في الجامعة العربية الأمريكية بجنين، سعيد أبو معلا: “سوريا في البال الفلسطيني أغنيةٌ”، مستدركًا: “ربما حزينة هي الآن، بسبب ما آل إليه حال الثورة السورية، حيث تحولاتها الكثيرة والتدخلات التي طرأت عليها والتي يعتبر النظام مسؤولًا رئيسيًا عنها ومسببها”.
وأضاف أبو معلا “على ضوء ذلك، فإن علاقة الفلسطيني مع الثورة السورية مركبة، إذ إنها مرت بمراحل مختلفة من التأييد التام والمطلق، إلى الارتباك بفعل دخول أطراف دولية عليها”.
الفلسطيني الذي اكتوى بنار الاحتلال، لا يمكن أن يدعم ويساند نظامًا سياسيًا يقمع شعبه
وذكر أن الثورة فقدت جانبًا من ألقها بعد أن أصبحت أشبه بالحرب الأهلية، بالإضافة إلى تأثير مآلات الثورات العربية في الدول العربية المحيطة، في ليبيا واليمن ومصر، حيث هناك حالة من الإحباط أمام الكم الهائل من الأمل الذي دخل القلوب والعقول مع انطلاق ثورات الربيع العربي”.
10 سنوات.. ثابت أساسي
علاقة الفلسطيني بسوريا تشبه الحلم، فالشام رمز الجمال والبهجة والأطعمة والدراما والموسيقى، الشام رمز الصمود والتحدي ودعم القضية الفلسطينية، الشام من الأماكن القليلة التي يتم التعامل فيها مع اللاجئ الفلسطيني على أنه مواطن، الشام مكان لاحتضان مجموعة من الحركات التي حملت خيار المقاومة التي ضاقت بها عواصم دول عربية، كل ذلك شكل وعي الفلسطيني بسوريا، ولاحقًا بثورتها.
وربما ذلك هو ما دفع بعض الأحزاب الفلسطينية إلى الارتباط بالنظام السوري ولو جزئيًا، لكنها أحزاب لا تشكل علامة فارقة في علاقة الشعب الفلسطيني بالثورة السورية، والسبب في ذلك نابع من تقديس الفلسطيني للحرية، من هذا الحق الذي نفتقده ونناضل لأجله منذ أكثر من 60 عامًا وخسرنا الشهداء والجرحي والأسرى، لذا فمن هذا الحق الأساسي تمتنت علاقة الفلسطيني مع الثورة السورية وخياراتها النضالية.
وبعد مراجعة تأتي عقِب سنوات من عمر هذه الثورة، نرى أن الثابت الأساسي في هذه العلاقة يقوم على الفصل بين نضال شعب ضد قيادته ونظامه الحاكم وعلاقة هذا النظام (ظاهريًا) مع فلسطين والقضية الفلسطينية، فمن دون هذا الفصل كان سيحدث التباس، وهو ما حدث لدى البعض كما ذكرت، وربما ما زال يحدث حتى اللحظة لدى جماعات صغيرة ما زالت تنظر إلى النظام السوري على أنه “قائد لتيار الممانعة”!
الفلسطيني الذي اكتوى بنار الاحتلال، لا يمكن أن يدعم ويساند نظامًا سياسيًا يقمع شعبه، وليس هناك حاجة للتدليل كم كان النظام السوري قمعيًا وسلطويًا واستبداديًا بحق مواطنيه، وهو أمر طال فلسطينيين أيضًا في حالات معينة، عندما تبنوا وجهات نظر مختلفة عن النظام السوري.
لم يكن الفلسطيني ينظر نظرة جزئية ومصلحية للثورة السورية، كانت نظرتنا الكلية كمهتمين إلى أن أي نظام سياسي ديمقراطي وحر، سيكون في صالح القضية الفلسطينية، وبالتالي لم يكن هناك خوف من أن يخلف الثورة نظام جديد معاد للقضية الفلسطينية كما كان يدعي النظام، حتى لو تشكل هذا النظام، فإن أي مجتمع يقوم على تقديس إرادة شعبه، سيعمل على تغيير هذا النظام.
إننا ننظر اليوم إلى الثورة السورية كما نظرنا إلى الثورة المصرية والتونسية والليبية، مع خصوصية للثورة السورية التي ترتب عليها تشتت الملايين من السوريين في حالة تشبه ما حدث للفلسطينيين
كما أن النقطة الأهم هي أنه لا يجب أن تكون فلسطين عبئًا على الشعوب العربية، أي أن تستغفل الأنظمة شعوبها وتتاجر بالقضية كما فعلت الكثير من الأنظمة العربية لسنوات طويلة، حيث استغل شعار “لا صوت يعلو فوق صوت البندقية” لتأبيد القمع والظلم وكتم الأصوات، وهو أمر اخُتبر لسنوات طويلة جدًا من دون أن يثمر إلا فشلًا وتدميرًا لمجتمعاتنا التي جعلتها هذه الأنظمة “فاشلة”.
كما أن التاريخ يقول إن قضيتنا تضررت من أنظمة عربية قمعت شعوبها باسم قضيتنا، كان هذا إثم كبير لا يجب أن نغفره لمن تاجر بقضيتنا في سبيل ترسيخ سيطرته كنظام استبدادي قامع لشعبه، نحن نمثل قضية يفترض أن تقف معها كل الشعوب الحرة، ولن تقف معها الشعوب المعتلة والمريضة والمرعوبة من التعبير عن رأيها، فهذا يخالف صيرورة التاريخ والتجربة الإنسانية.
ومن هنا نقول إننا ننظر اليوم إلى الثورة السورية كما نظرنا إلى الثورة المصرية والتونسية والليبية، مع خصوصية للثورة السورية التي ترتب عليها تشتت الملايين من السوريين في حالة تشبه ما حدث للفلسطينيين، ولن يكون الحل بالنسبة للفلسطينيين وللسوريين كذلك، إلا في ظل دولة تضمن المواطنة والحريات، وذلك لا يكون إلا بالخلاص من الاحتلال وأي نظام استبدادي فاسد.