شكل عام 2011 نقطة انطلاق الشعب السوري للمطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية وغيرها من الحقوق والحريات التي دفعت الناس للنزول إلى الشارع، ورغم أن هذه الانطلاقة شكلت حالةً مفصليةً في تاريخ هذا الشعب، بالوقوف في وجه النظام السياسي، فإنها من جهة أخرى فتحت الباب للتدخل الخارجي، ولعل السبب الرئيس في ذلك، الأهمية الجيوسياسية التي تحظى بها سوريا الدولة، على صعيد التوازنات الإستراتيجية الإقليمية والدولية.
ومن أجل الالتفاف على هذه المطالب، راح النظام السوري يستحضر تحالفاته مع الدول والجماعات المسلحة، من أجل إخماد هذه الثورة واستخدام القوة المسلحة، بعد أن فشل في إقناع الشارع عبر الحلول والإجراءات الترقيعية.
شكل الدور الإيراني في سوريا، العنوان الأبرز من أجل إجهاض الثورة السورية، حيث سعت إيران إلى التدخل بالشأن السوري، متذرعة بأن ما يحصل مؤامرة دولية ضد محور المقاومة، الذي يشكل نظام بشار الأسد أحد ركائزه، كما أنها نظرت للثورة السورية على أنها تشكل مهددًا إستراتيجيًا وإحدى مجالات الصراع بين المشروع الإقليمي (الشيعي) الذي تقوده إيران، بالضد من المشروع الإقليمي (السني) الذي تقوده قوى عربية وغير عربية، لذلك حاولت أن تفرض مشروعيات دينية وسياسية على تدخلها في الشأن السوري، وذلك لرفع الحرج عن زجها بالآلاف من المقاتلين في الساحة السورية.
مسارات
تمثلت ملامح الدور الإيراني في سوريا، عبر مسارات رئيسية عدة هي:
– الدفاع عن المقدسات: ولتحقيق هذه الغاية أوجدت فكرة “مدافعو الحرم”، التي يندرج تحتها آلاف المقاتلين من فيلق القدس الإيراني ومليشيات فاطميون الأفغانية وزينبيون الباكستنانية وحزب الله اللبناني، إلى جانب حيدريون العراقية.
– الوصول للبحر الأبيض المتوسط: كجزء من مشروع “الهلال الشيعي”، ويمكن القول إن هذا هو السبب الرئيسي وراء سعي إيران لتقديم العون للنظام السوري، إذ عملت إيران على استثمار ظروف مرحلة ما بعد داعش، عبر ربط الجغرافيا العراقية بالجغرافية السورية، على شكل حزام جغرافي يمتد من كرمنشاه – ديالى – صلاح الدين – كركوك – الموصل – دير الزور – حلب – اللاذقية ثم البحر الأبيض المتوسط.
– حرب الوكالة وتوظيف الساحة السورية: سعت إيران إلى الزج بالعديد من المقاتلين لمواجهة التنظيمات المسلحة والحصول على جبهة متقدمة تستطيع من خلالها الضغط على “إسرائيل” وتركيا، فضلًا عن سعيها لتوظيف الساحة السورية في مفاوضاتها مع القوى الدولية بخصوص اتفاقها النووي، أو حتى ربط الملف السوري بالعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية أو مزاحمة روسيا في سوريا.
– التغير الديموغرافي والتدجين المجتمعي: وجدت إيران في الساحة السورية فرصةً مناسبةً لإعادة النظر في التركيبة السكانية للمجتمع السوري، إذ عملت على إجراء عمليات تغيير ديمغرافي في دير الزور وحلب ودمشق والسويداء، كما أنها عملت على إدخال ممارسات مجتمعية بعيدة عن المجتمع السوري، وخلق زعامات حرب، وتوسيع عمليات بناء المزارات والحسينيات، من أجل إعادة هيكلة المجتمع السوري وجعله أكثر تقبلًا للثقافة الإيرانية.
– أما الجانب الاقتصادي: فقد شكل العنوان الأبرز الآخر لطبيعة الدور الإيراني في سوريا، حيث سعت إيران لتوقيع العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية مع النظام السوري، للفوز بكعكة إعادة إعمار سوريا بعد الصراع، وكذلك استثمار المرافق الاقتصادية السورية، كما وقعت اتفاقيات استهدفت قطاع النفط، وتوسيع عمليات تجارة المخدرات وغسيل الأموال وتهريب العملة الصعبة، وهي كلها ممارسات اقتصادية، سعت إيران لتوظيف الساحة السورية للإفلات من قبضة العقوبات الأمريكية.
– إظهار إيران بصفة الراعي الرسمي للنظام السوري: وذلك عبر الانخراط في مسارات أستانة، وكذلك ربط الملف السوري بالنفوذ الإقليمي الإيراني، وهي سلوكيات إيرانية حرص النظام السياسي في إيران على إدامتها، وهو ما يظهر في تصريحات المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي أو في تصريحات قادة الحرس الثوري.
وجدت إيران في الساحة السورية، حالة إستراتيجية مهمة لتعيد من خلالها إعطاء دفعة قوية لدورها الإقليمي وتأطير دورها في إطار مواجهة حالة عدائية تستهدف المنطقة ككل، وعرفت دورها بأنه ليس بالضد من المؤامرة الإسرائيلية التي تستهدف الشعب السوري فحسب، وإنما ضد المؤامرة الدولية أيضًا، واستطاعت بشعاراتها “المقاومتية” استقطاب عدة فصائل يسارية وأخرى فلسطينية، كفتح الانتفاضة وقوات الصاعقة وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، للمشاركة في محاربة فصائل المعارضة المسلحة إلى جانب النظام السوري، كما استطاعت بشعاراتها الطائفية، استقطاب الآلاف من الشيعة حول العالم، وتدعيم هذه الهياكل الهوياتية بقنواتٍ إعلاميةٍ فاق مجموعها الخمسين.
سخرت إيران كل مقدراتها السياسية والعسكرية والاقتصادية في خدمة النظام السوري، من أجل قمع الثورة ومناصريها
وفي هذا الإطار أيضًا، قدمت أجهزة الاستخبارات والأمن الايرانية، المشورة والمساعدات للنظام السوري، من أجل الحفاظ على قبضة بشار الأسد على السلطة، ومن ثم تطورت هذه الجهود إلى مهمة تدريب قوات المشاة السورية، عبر مستشارين من الحرس الثوري الإيراني، إلى جانب أن انتشار القوات البرية التابعة للحرس الثوري في سوريا، جاءت كفرصة سعت إيران من خلالها إلى إعادة تأهيل قواتها العسكرية التي لم تخض أي صراع منذ الحرب العراقية الإيرانية، كما أنها أظهرت استعداد إيران وقدرتها على استعراض قوتها العسكرية خارج حدودها.
إن الحديث عن الدور الإيراني في سوريا يستدعي استحضار التاريخ أيضًا، خصوصًا أنها الدولة الوحيدة التي لا تنسى تاريخها، بل ويمكن القول إنها الدولة الوحيدة الحريصة على الانتقام من التاريخ وتعطيه مساحة واسعة في صراعها مع العالم الخارجي، وبالحديث عن الثورة السورية، فإنها حرصت على رفع شعاراتها الخاصة على “باجات مقاتليها”، ومن ضمن هذه الشعارات: “لبيك يا زينب” و”الأخذ بثأر الحسين”، خصوصًا أن الشام كانت في يوم من الأيام عاصمة للدولة الأموية.
إن تقييم الدور الإيراني بعد عشر سنوات من قيام الثورة السورية، يعطي صورةً واضحةً للطبيعة البراغماتية التي تعاملت بها إيران في سوريا، حيث سخرت كل مقدراتها السياسية والعسكرية والاقتصادية في خدمة النظام السوري، من أجل قمع الثورة ومناصريها، وفي مقابل ذلك تطالب اليوم بأنه إذا ما كان عليها مغادرة سوريا، فإن على هذا النظام أن يسدد الفاتورة الطويلة التي أنفقتها طيلة السنوات الماضية، هذه الصورة تعطي تصورًا واضحًا للحالة التي تستخدم فيها إيران حلفاءها من أجل تصفية حساباتها مع الآخرين.
ختامًا، تسببت الجهود الإيرانية في عملية الإحياء الشيعي في سوريا بعد عام 2011، وتصاعد سياستها الطائفية في سوريا في سياق الربيع العربي، بقلق بالغ بين الدول العربية ذات الغالبية السنية، كما أدى إلى ظهور ما يسمى تنظيم داعش وتنظيمات سنية متطرفة، قدمت نفسها كجماعات سنية مسلحة بالضد من صعود القوة الشيعية وسياسات إيران التوسعية.
ولمواجهة تنظيم داعش وما تعتبره تمردات سنية في سوريا، أنشأت إيران ميليشيات شيعية، ومع تحول الساحة السورية إلى مجال رئيسي للصراعات الطائفية في الشرق الأوسط، أشاعت الميليشيات الإيرانية الفوضى في جميع أنحاء سوريا وأعطت تعبيرًا نهائيًا عن تحول دمشق إلى عاصمة خاضعة للسيطرة الإيرانية، ولعل تباهي قادة الحرس الثوري الإيراني، بالسيطرة على أربع عواصم عربية، من ضمنها دمشق، أبلغ تعبير عن المستوى الذي وصلت إليه إيران في سوريا.