لعبت المرأة في الإمبراطورية العثمانية الممتدة لقرابة 600 عام من 1299 وحتى 1923 دورًا كبيرًا في إدارة الدولة وتسيير شؤونها، حيث كان السلطان يوليها مكانة عظيمة لما تبذله من جهد مضني للحفاظ على استقرار الإمبراطورية ودعم سلاطينها وأمرائها.
وكانت السلطانات، لا سيما أمهات السلاطين والملوك، هم الأكثر استحواذًا على هذا الاهتمام، وطيلة ما يقرب من 130 عامًا، سيطر مصطلح “سلطنة الحريم” على المشهد السياسي العثماني، وهي الفترة التي كانت تستغل فيها المرأة قربها من الحاكم (سواء السلطان أم الملك أم الإمبراطور) للتدخل في شؤون الدولة، ولم يكن شرطًا أن يكون ذلك بشكل علني ومباشر.
وتعد السلطانة عائشة حفصة سلطان (1479-1534م) زوجة السلطان سليم الأول وأم السلطان سليمان القانوني، إحدى أكثر النساء العثمانيات نفوذًا منذ ولاية ابنها على السلطنة عام 1520 وحتى وفاتها بعد 14 عامًا، كما أنها تعد أول من حمل لقب والدة السلطان ويضرب بها المثل في نفوذ “سلطنة الحريم”.
في هذه الإطلالة نطوف سريعًا للوقوف على أبرز محطات السلطانة الأم ودورها في الحفاظ على تماسك الدولة كونها رمانة الميزان الأكثر رجاحة وعقلًا في تخفيف التوتر داخل القصر من جانب، ودعم فتوحات ابنها السلطان من جانب آخر، فاستحقت أن تحتل مكانةً بارزةً في الثقافة الشعبية التركية، تجسدت في صورة عدد من الأعمال الدرامية التي وثقت دورها التاريخي في مسيرة الدولة العثمانية.
نشأة سياسية من الطراز الأول
على عكس الكثير من السلطانات اللاتي قدمن من أصول فقيرة نسبيًا وبعيدة تمامًا عن ميدان السياسة والقيادة، ولدت عائشة في بيت سياسي من الطراز الأول، فكان أبيها ملكًا على القرم، ما أهلها لأن تنشأ نشأة سياسية خلقت منها قائدة بارعة ومسؤولة جديرة بالاحترام والتقدير.
كانت الفتاة الصغيرة هي المستشار الأمين لوالدها ضد كل خصومه السياسيين في الداخل والخارج، ساعدها على ذلك ثقافتها المتنوعة وأفقها الواسع، فأجادت تعلم اللغات وركوب الخيل والمبارزة بالسيف، هذا بجانب إجادتها للعبة الشطرنح وفنون القتال، ما أدى إلى ذيع صيتها في البلدان المجاورة.
وبينما كان سليم الأول حاكمًا على طرابزون، نما إلى مسامعه تلك الأحاديث التي تمجد في تلك الفتاة اليافعة، التي تسير أمور الدولة في القرم، وذراع أبيها الأيمن وعقله المدبر، فضلًا عما كانت تتمتع به من جمال لافت للأنظار، ما أوقعه في حبها، فقرر الزواج منها.
ومع اعتلاء سليم الأول العرش تم استقبال السلطانة عائشة في قصر “طوب قابي” استقبالًا أسطوريًا، فكان الجميع في انتظارها، في صفوف متساوية ومتوازية تعكس مكانة زوجة السلطان بوصفها السيدة الأولى في الإمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت.
مكانة بارزة
أيقنت السلطانة العثمانية أن دورها كزوجة للسلطان له أبعاد وتبعات مختلفة عما كانت عليه في القرم، رغم أنها كانت مستشار أبيها الملك، واستطاعت بحكم نشأتها أن تتأقلم سريعًا مع المكانة الجديدة، فنجحت في أن تحكم سيطرتها على القصر وتدير شؤونه بامتياز، فكانت الداعم الأبرز للزوج ومن بعده الابن، ولي العهد سليمان القانوني الذي صار أميرًا على مانيسا بغرب الأناضول بعد ذلك.
كان هناك عطاء يومي من الخزينة السلطانية يمنح لجميع النساء في حرم القصر، أعلاه قاطبة ما يدفع للسلطانة الأم، حتى إنه في بعض الأحيان كان يتجاوز ثلاثة أضعاف ما خصصه السلطان، وإن دل ذلك فإنما يدل على الأهمية الفائقة لوالدة السلطان ومكانتها في القصر.
كانت غرفة السلطانة الأم في القصر تتمتع بإمكانات ومقومات عالية المقام، فكانت مؤثثة بأحدث طرازات الأثاث في العالم، وبها أغلى المفروشات، فضلًا عن المجوهرات الفاخرة، أما الأرضيات فكانت تفرش بالحصر المصرية في الصيف والسجاد الإيراني في الشتاء.
كل الأنشطة التي تقام في القصر كانت بأمر السلطانة الأم، التي كان يعاونها في الإدارة فريق كبير من المساعدين والخدم، وكانت هي الآمر الناهي في جميع تحركات القصر بكل ما فيه، ما جعلها ملكة على الديوان وقبلة الاسترضاء من كل عناصر الدولة.
لم يقف دور السلطانة على إدارة شؤون القصر فحسب، بل كانت رأس السلالة العثمانية أيضًا، وممثلة لهم في الاحتفالات العامة والطقوس، كحفلات الزفاف واحتفالات الختان والاحتفالات الدينية وغير ذلك من الأنشطة التي تتصدرها بوصفها أهم شخصية وأكبرها في السلطنة.
رمانة الميزان
كانت السلطانة عائشة رمانة ميزان حقيقية لقصر السلطان الذي كان يعاني بين الحين والآخر من مشاحنات نسائية، سواء بدافع الغيرة أحيانًا أم الحقد والمنافسة أحايين أخرى، وهو الأمر الذي كان سببًا في الانهيار المبكر للعديد من الأنظمة الحاكمة في البلدان الأخرى.
خلال ولاية زوجها حرصت السلطانة الأم على تقديم أدوار استشارية للسلطان نفسه، الذي كان يأخذ بها في كثير من الأحيان، وكان لذلك نتائج إيجابية في العديد من المرات، هذا بخلاف انشغالها ببناء الأوقاف والمشاريع الخيرية في السلطنة العثمانية، ترويجًا لنفسها من جانب ودعمًا للسطان من جانب آخر.
اشتدت شراسة الخلافات بين الزوجتين، ما أدى في النهاية إلى نفي ماه دوران وإعدام ابنها
وفور اعتلاء ابنها، سليمان القانوني، سدة الحكم العثماني، سبتمبر/أيلول 1520، زاد نفوذ عائشة بصورة فاقت ما كانت عليه إبان عهد زوجها، إذ تضاعفت الأعباء عليها بشكل كبير، خاصة الخلافات المتواصلة التي كانت بين زوجتي السلطان، خُرَّم و “ماه دوران”، التي كانت تمثل صداعًا مستمرًا في رأسه.
كانت السلطانة الأم تقوم بدور حمامة السلام بين الزوجتين، المتنازعتين على المزيد من النفوذ لهما ولأبنائهما، حتى لا يتسببا في انشغال السلطان فيؤثر ذلك على فتوحاته الخارجية، ما قد يضعف الدولة ويقلل من شعبيته، لذا فقد بذلت جهودًا حثيثة في هذا الشأن ذكرتها كتب التاريخ في أكثر من مؤلف.
ويمكن الوقوف على حجم هذا الدور من خلال استطلاع ما تم بعد رحيلها، حيث اشتدت شراسة الخلافات بين الزوجتين، ما أدى في النهاية إلى نفي ماه دوران وإعدام ابنها، هذا بجانب موت الصدر الأعظم القوي إبراهيم باشا، زوج ابنة السلطانة الأم خنقًا بأمر السلطان بعدما فقد الحماية التي كانت توفرها له في حياتها.
ابن امه
كثيرًا ما كان يلام على السلطان سليمان القانوني المولود في 6 من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1494 في طرابزون في تركيا، وعاشر السلاطين العثمانيين، أنه “ابن امه” حيث كان لها تأثير كبير عليه وعلى قراراته السياسية، وهو التأثير الذي اعتبره بعض المؤرخين نقطة سلبية في إدارته السياسية للبلاد.
لكن القارئ الجيد لإنجازات السلطان القانوني خلال ولايته يجد أنه حقق إنجازات وفتوحات لم يحققها أحد من قبل، لا في الدولة العثمانية ولا في أي إمبراطورية أخرى، حيث وصلت الدولة في عهده إلى أقصى اتساع لها، الأمر الذي كان بمثابة شهادة اعتراف وتقدير لدور السلطانة الأم وحنكتها السياسية في دعم ولدها.
منذ توليه منصب سنجق باي (حاكم) كافا في شبه جزيرة القرم في عهد جده بايزيد الثاني، ومانيسا في غربي آسيا الصغرى في عهد والده سليم الأول، حقق سليمان انتصارات عظيمة، ففي عام 1521 سقطت بلغراد في يده، كما سقطت رودس التي كانت تحت حكم فرسان القديس يوحنا لفترة طويلة، عام 1523.
محطاتها التاريخية المهمة في تعزيز الدولة العثمانية كانت أرضًا خصبة أمام المؤلفين والكتاب لتجسيد دورها في أكثر من عمل فني لتوثيق دورها الرائد على مدار أكثر من 30 عامًا
وفي موقعة موهاس الشهيرة، أغسطس/آب 1526 استطاع تحطيم القوة العسكرية للمجر، التي كانت القوة الأوروبية الأشرس في ذلك الوقت، كما قتل الملك المجري لويس الثاني خلال المعركة التي كان لها صدى كبير في الأوساط الأوروبية وأعلت من سمعة ومهابة الدولة العثمانية هناك.
وخلال عامي 1534-1549 خاض حملات كبرى ضد بلاد فارس، أسفرت عن سقوط أرضروم شرق آسيا الصغرى في قبضة العثمانيين، كما سيطر على العراق وبحيرة فان، كما سقطت طرابلس شمال إفريقيا في عهده عام 1551، ولقن الإسبان دروسًا قاسية في فنون القتال في البحر، فيما أحكم العثمانيون في ولايته قبضتهم الكاملة على البحر المتوسط.
في الثقافة الشعبية
أنشأت السلطانة مجمعًا بالقرب من “مانيسا” ( ولاية ابنها الأمير) داخله مسجد – جامع السلطانية -، وكانت أول سلطانة تنشئ جامعًا بأمر رسمي، ومدرسة ابتدائية، ومطعم للفقراء، إضافة إلى غرف الصوفية، كما وقفت كلية في مدينة مانيسا، بخلاف عشرات الخانات التي لا تزال موجودة في منطقة مارماريس وتحمل اسمها حتى اليوم.
محطاتها التاريخية المهمة في تعزيز الدولة العثمانية كانت أرضًا خصبة أمام المؤلفين والكتاب لتجسيد دورها في أكثر من عمل فني لتوثيق دورها الرائد على مدار أكثر من 30 عامًا كاملة، كما في مسلسل “السلطانة هُرم” الذي أنتج عام 2003، ومسلسل القرن العظيم أو حريم السلطان موسم 2011-2012، بجانب المسلسل الشهير ممالك النار الذي أنتج عام 2019.
توفيت حفصة سلطان عام 1534، خلال حكم ابنها السلطان سليمان القانوني، ودفنت بجانب ضريح زوجها السلطان سليم الأول في حديقة مسجد “السلطان سليم” بإسطنبول، لتترك خلفها سجلًا حافلًا من الأدوار السياسية والمجتمعية والخيرية رغم حالة الجدل التاريخي بشأن بعض فترات حياتها لا سيما المتعلقة بوفاة زوجها.