“أتمنى لو كنت أكبر في وقتها لكي أشارك بكل التفاصيل”، هذا ما قالته رولا نجار (24 عامًا) عند السؤال عن جيلها وارتباطه بالثورة السورية، مضيفةً أن الأمر كان فعلًا يستحق أن تقوم الانتفاضة ويتغير الحال، غير أنها تتكلم بلسان حالها الآن، إذ إنها وكما تروي لم تكن تملك الوعي والإدراك الكامل في بداية الثورة لما يحصل، كان موقفها محكومًا بالعاطفة فقط.
تروي رولا لـ”نون بوست”، أن والدها كان معتقلًا في سجون النظام فترة الثمانينيات، ومن أجل ذلك كان يخاف على أولاده كثيرًا إذا أقدموا على أي عمل فيه إشارة للثورة، لأنه تجرع القهر ولا يريد لأولاده أن يعانوا من بطش نظام الأسد وهنا تتكلم عن فترة الثورة، أما قبل ذلك فلم تكن تعرف رولا عن نظام الأسد الأب والابن شيئًا غير تلك الأمور التي كانت تتلقاها في المدارس من تمجيد القائد وحاشيته.
“كنا متحمسين جدًا للثورة إلا أن آباءنا كان لديهم نظرة بأننا غير ناضجين بما يكفي لمقارعة نظام ظالم، وهو ما أثر علينا بالإضافة إلى أننا لم نذق ظلم النظام كما ذاقه من قبلنا”، وتضيف رولا أنها عندما وصلت لسن معينة وربطت الأحداث ببعضها وازدادت قراءاتها وعلاقاتها باتت تعي أكثر وتدرك معنى ما حصل في 2011، كما تقسم رولا أهل الثورة السورية إلى 4 أقسام: آباء جيل الثورة وجيل الثورة وورثة الثورة وتعتبر نفسها وجيلها منهم وجيل الحرب.
قصة رولا دفعتنا إلى البحث أكثر عن الجيل الذي أسمته “جيل ورثة الثورة” وهو ما تعني به مواليد 1997 صعودًا، وهو ما نستطيع تسميته بالمسمى الدارج عالميًا “جيل Z”.
في البداية ما هو جيل Z؟
ترجع تسمية الجيل بهذا الاسم إلى تقسيم الفئات العمرية للبشر التي عكف عليها الباحثون في العلوم الاجتماعية والإنسانية، مثلًا في الولايات المتحدة أطلق لقب “الجيل الأعظم” على الفئات التي ترعرت خلال فترة الكساد وحضرت زمن الحرب العالمية الثانية، أما “الجيل الصامت” فهو من عاش فترة ما بعد الحرب، ليأتي بعد ذلك جيل سُمي “طفرة المواليد”.
بعد تلك الأجيال ومع ازدياد مفاعيل العولمة على المجتمعات بات الحديث عن أجيال عالمية تمتلك خصائص متشابهة، وبدأ الباحثون تقسيم الأجيال إلى ثلاثة أقسام (X,Y,Z): الجيل الأول (X) يقصد به المواليد بين العام 1965 والعام 1979، هذا الجيل عاصر التلفاز والإنترنت وبعضًا من الحروب، وإذا أردنا أن نتكلم عن العالم العربي فإن هذا الجيل شهد حروبًا مع الاحتلال الإسرائيلي وحروبًا أهليةً وثورات شعبية والكثير من الأحداث.
الجيل الثاني (Y) وهو جيل الألفية ويقصد بهذا الوصف جيل المواليد بين عامي 1980 و1995، وعى هذا الجيل على الدنيا وقد كان العالم في ثورة فريدة من نوعها بمجال الإعلام والاتصالات والحواسيب وبداية عصر الإنترنت، أما الجيل الثالث (Z) فهو الجيل الذي ولد منذ العام 1996، ورغم الاختلاف بشأن تاريخ بدايته، لكن بشكل عام من الممكن القول إن الفئة التي يشملها الجيل (Z) هي الفئة ما دون الـ24 عامًا.
نشأ الجيل الذي هو محور تقريرنا في حالة من التطور على جميع المستويات في العالم، حيث الهواتف الذكية والإنترنت والتكنولوجيا المتطورة والتسارع في ثورة الذكاء الاصطناعي، وعلى الصعيد العربي فإن “جيل Z”، شهد أحداثًا عظيمةً مرت بها المنطقة، ونستطيع في هذه الحالة تقسيم مواليد هذا الجيل إلى فئتين: مواليد قبل عام 2000 والفئة الأخرى هي المولودة بعده.
جيل Z والثورة السورية
الحدث الأبرز والأكبر الذي أسس للانتفاضة السورية في مارس/آذار 2011 كان على أيادي أطفال من الجيل Z، حيث كتب أطفال درعا حينها عبارات مناهضة للنظام على جدران مدارسهم، ليؤدي ذلك إلى اعتقالهم وتعذيبهم بوحشية، ومنها كانت الشرارة، مع مرور الزمن خلال هذه الثورة أصبح الأطفال شبابًا وصار عدد منهم مقاتلين ضمن تشكيلات الجيش الحر وبعضهم أصبح لاجئًا وآخرون استشهدوا.
كانت حالة أطفال درعا هي ذاتها حالة أترابهم السوريين الذين نشأوا ضمن عوائل مؤيدة للثورة ورافضة لحكم الأسد، حيث أصبحوا الآن بين لاجئ ومهجر وشهيد، ولا ننسى أن الكثير من أبناء هذا الجيل قدّم للثورة ما لم يقدمه الكبار، حيث انتشروا في شتى المجالات وخاصة الإعلامية والعسكرية ونخص بالحديث أولئك أصحاب المواليد التي سبقت عام 2000، وفي هذا الصدد سألنا الشاب محمد أبو هشام عن مدى قناعته بالثورة في بدايتها حيث كان عمره 13 عامًا.
يرى محمد أنه أخذ الثورة عن أبيه وأخوته، حيث لم يكن يعي ما هي الثورة ولا هتافاتها، يقول: “كانت المظاهرات جميلة جدًا في بلدتي، كنت أعتقد أنني ذاهبٌ إلى العرس لأرى أصدقائي وكنا نتبارى بمن يكون صوته أقوى”، يضيف أبو هشام “في البداية كانت كلمة ثورة تربطني فورًا بثورة الثامن من آذار تلك التي كانوا يقولون عنها في كتب المدرسة إنها ثورة حافظ الأسد ضد الرجعية وكنت أظن أنها امتداد لتلك خاصة أنها في آذار”.
يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة ازداد وعي محمد وأصدقائه كما يقول، ويرى أن عام 2014 كان مفصليًا بالنسبة له، حيث نزح من بلدته بعد القصف وبدأت الحياة الجديّة، وأصبحت تركيا التي هاجر إليها موطنًا جديدًا، فليست الحياة بسهولة المعيشة في دياره، إنما بدأ يتعلم مع صعوبات الحياة وانخرط بمدارس البلد، اختلط محمد بأصدقاء جدد، كل صديق مهجرٌ أو لاجئ من مدينة مختلفة، فكانوا يتشاركون الأحاديث فيما حصل ببلدانهم.
محمد وأصدقاؤه كانوا مجتمعين على كره بشار الأسد في بداية وعيهم وحتى اليوم، واليوم التحق بعضهم بالجامعات وهم على أعتاب التخرج، كصديقنا محمد الذي سينهي دراسته من فرع العلوم السياسية في إحدى جامعات إسطنبول، سألناه عما إذا كان سيسخر فرعه لخدمة السوريين، ليجيب: “لن أكون عاطفيًا مرة أخرى، بت أستطيع أن أعي ما يدور حولي، اليوم لا يوجد مؤسسة أستطيع الانضمام إليها لخدمة سوريا سياسيًا، فكل منصات المعارضة تحت دائرة الاتهام بالتنازل وبيع القضية وأنا لن أكون شريكًا”، ويضيف “أريد أن أعمل لبلدي في مجالات بعيدًا عن أهل السياسة المعروفين لنا”.
لن نذهب بعيدًا، لدينا ضيفٌ جديد من أبناء “الجيل Z”، لكن من مواليد عام 2005، التقيته صدفة وصرنا ندردش معًا عن الذي يعرفه عن الثورة، يجيبني طارق شحادة أنه يتذكر من البدايات حديث الأهل عن المظاهرات كما يستحضر اقتحامات الشبيحة لبيتهم، فيما يروي بأسى قصة طريق النزوح إلى تركيا”.
اليوم طارق طالبٌ في المدرسة يقول لي إنه إلى الآن لم يستطع إدراك معنى الثورة لكنه يستوعب تمامًا أن بشار الأسد قتل الكثير ومن بينهم أعمامه وأولاد خالته، وفي حديثه أيضًا: “أتابع اليوتيوب كثيرًا بمواضيع مختلفة، لكن منذ سنتين شدني كثيرًا مقطع تشييع عبد الباسط الساروت، أحسست بأنه مثلي الأعلى، تمنيت لو أنني محبوب مثله”، مضيفًا “استخدم تطبيق التيك توك كثيرًا واليوتيوب وأحرص دائمًا على رؤية مقاطع الساروت”.
في السياق، خلال تقرير سابق على “نون بوست”، روى الكاتب موسى علاوي قصة 3 شباب يعيشون في مدينة إدلب ويكافحون الحرب ومعوقاتها، في هذا الرابط، تجدون عينة واضحة من أبناء الجيل الذي نتكلم عنه الذي كان وريثًا للثورة ويحاول المضي بها إلى جانب السعي في مسيرة الحياة تعليميًا ومعيشيًا وغير ذلك من الأمور.
في المخيمات
الخوف الأكبر لدى أبناء “جيل Z” في سوريا عامة وفي المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة بالخصوص، يكمن في إعالة أنفسهم وتأمين مصروفهم، يقول الشاب وسام أبو البراء ذو الـ23 عامًا في حديثه لـ”نون بوست”: “أعمل شهريًا في دكان لبيع الملابس براتب شهري لا يتعدى 150 دولارًا وهو لا يكفي لإعالة نفسي فكيف أعيل أهلي معي؟”، مشيرًا إلى أنه ترك دراسته بسبب الظروف المعيشية السيئة.
“لم تكن الثورة خيارًا جيدًا بالنسبة لي ولأهلي”، هكذا يقول وسام لكنه يستدرك قائلًا: “صحيح ليست خيارًا مناسبًا لكنها كانت حتمية الحدوث ولا أستطيع اليوم التفكير بأي شيء غير مصروفي وتأمين حياتي والخروج من الخيمة إلى بيت ذي جدران”، يحاول وسام الذي يسكن في خيمة صغيرة مع أمه تدارك موضوع الدراسة بالقراءة والمطالعة اليومية في كثير من الكتب والموضوعات، ويخبرنا أنه كان متفوقًا وحصل على معدل 90% في الشهادة الثانوية عام 2015.
يروي لنا وسام أيضًا أن بعض الشباب من جيله يضطرون للانضمام للفصائل العسكرية من أجل المال وليس من أجل القضية، فالحالة المعيشية المأساوية اضطرتهم لهذه الأعمال، وكذا أولئك “الذين ذهبوا إلى القتال خارج الجبهات السورية في ليبيا وأذربيجان من أجل تأمين مصروف 3 أو 4 شهور، الكثير منهم فقد حياته مقابل اللاشيء” والوصف هنا لوسام.
تنظيميًا
تنظيميًا.. لم تكن هناك مبادرة لاحتواء أبناء هذا الجيل، فالمعارضة السياسية يبدو أنها غير معنية بالموضوع، كما يوجد بعدٌ بين جيل الثورة الأول واهتماماته والجيل الذي نتكلم عنه، إلا أن بعض الكيانات التي تم تأسيسها في تركيا ودول أوروبية أخرى كانت تقوم على أساس أبناء هذا الجيل، ونأخذ مثالًا، اتحاد الطلبة السوريين الأحرار الذي أنشأ بغرض توحيد جهود الطلاب السوريين في تركيا، واتخذ هذا الكيان الوليد من الثورة شعارًا ومن علمها راية.
يضم الاتحاد الطلابي حاليًّا 56 فريقًا طلابيًا منتخبًا منتشرين في أربع قارات، في الداخل السوري الخاضع لسيطرة المعارضة وتركيا وأوروبا وبلدان أخرى، وهذه الفرق تشكل النواة التأسيسية للاتحاد، وتمثل أكثر من 43 ألف طالب سوري في الجامعات حول العالم، وتم وضع عدة شروط للفرق الطلابية الراغبة بالانضمام إلى الاتحاد، أهمها أن يكون الفريق أو الاتحاد منتخبًا من طلابه وأن لا يقل عدد أعضائه الناخبين عن 30 طالبًا، وأن يكون عدد الطلاب يساوي 15% من الطلاب السوريين في الجامعة كحد أدنى”.
تجدر الإشارة إلى أن الطلبة السوريين الجامعيين في تركيا تنتمي فئة كبيرة منهم إلى الجيل الذي نتكلم عنه، وهم من الشباب الذي عانوا من ويلات الحرب التي شنها نظام الأسد على مدنهم وقراهم واضطرهم للنزوح والتشرد وآمنوا بالصورة وتجد ذلك واضحًا في تعريفهم القائل “نتبنى مبادئ ثورة الحرية والكرامة التي انطلقت في مارس/آذار 2011”.
نعود لضيفتنا الأولى رولا التي تقول إنها تود لو عاشت لحظات الثورة كلها، فتشير إلى أن إدراكها لأمر الثورة الآن وتعرفها على الجحيم الذي كان مُعاشًا جعلها تؤمن أن “الأمر كان يستحق”، مشيرةً إلى أنه لولا الثورة لم تكن وصلت لما وصلت إليه الآن من العمل والدراسة، ترى أيضًا أن “جيلها من أكثر الأجيال التي استفادت من الثورة على صعيد النضج والوعي لأن من ثار في البداية إما أنه استشهد وإما خسر الكثير من الأشياء إلا أننا نحن نعيش اليوم على مكتسبات ما قدموه”.
أخيرًا، تابعت في الأيام الأخيرة باهتمام المظاهرات التي تحيي الذكرى العاشرة للثورة السورية في كثير من المناطق في داخل سوريا وخارجها، تبصرت جيدًا بالوجوه لأجد أن جيلًا ثوريًا جديدًا خرج من رحم معاناة كبيرة قادرٌ على أن يصنع فارقًا ويضع بصمته في سبيل تنمية أرضه وشعبه، لربما تصدق صديقتنا رولا التي وصفت هذا الجيل بأنه “وريث الثورة”.