طوال عشر سنوات، صعد خلالها مؤشر الاهتمام الدولي بالتسوية السياسية في سوريا وهبط كثيرًا، وتابع السوريون باهتمام كبير تارة وبلا اكتراث تارة أخرى، مسارات ومؤتمرات وجولات عديدة، بدءًا من مبادرة الجامعة العربية للسلام وخطة كوفي عنان ذات النقاط الستة، في مرحلة مبكرة، مرورًا بمسار جنيف الذي ترعاه الأمم المحدة، وليس انتهاءً بمسار أستانة برعاية روسية تركية، وما رافق كل ذلك من جولات ومؤتمرات ومبعوثين ومنصات.
المعارضة في كثير من الأحيان كانت غائبةً أو مغيبةً عن دائرة التأثير، ولم تحظ لا بقطعة من البيتزا الأمريكية ولا بكأس من الفودكا الروسية حين توصل وزيرا خارجية أمريكا وروسيا – جون كيري وسيرغي لافروف – إلى اتفاق لوقف إطلاق النار خلال عيد الأضحى منتصف سبتمبر/أيلول 2016.
في الواقع، يُلقي كثيرون باللائمة – من ضمن ما يلقون – في ارتباك نتائج الثورة وقلة محصولها على المعارضة، على تشتتها وخلافاتها وضعف رؤيتها وانعدام روح المبادرة لديها وسيادة روح الفرقة. وحتى اليوم، لم تتمكن أطياف المعارضة ومؤسساتها الرسمية من الفوز لا بثقة المجمع الدولي – الذي اعترف بها ممثلًا شرعيًا للسوريين منذ الاجتماع الثاني لمجموعة أصدقاء سوريا – ولا بثقة السوريين نخبة وشارعًا.
اليوم بعد 10 سنوات على الثورة ما زال السوريون يهتفون للحرية رغم كل ما حل بهم، ورغم كل الوحشية المهولة التي واجهتهم بها قوات نظام الأسد والاحتلالات التي جلبها والظلامية التي نزّ عنها، بتخطيطه أو بعبثيته، ويستحق هذا الشعب أن يحظى بتمثيل منتخب وإدارة ناضجة تدير دفة المفاوضات وتحكم المناطق المحررة وتلم شمل المعارضة وشمل السوريين.
وبمناسبة ذكرى 10 سنوات على الثورة العظيمة، توجهنا في “نون بوست” إلى عدد من الخبراء، أكاديميين وسياسيين، بسؤال واحد ومحدد، نتجاوز فيه حالة لوم المعارضة، إلى المبادرة باقتراح أفكار للخطوة التالية.
نترككم مع السؤال وإجابات أربعة من الخبراء – سياسيين وأكاديميين – عنه.
ما الخطوة التالية الواجب على المعارضة السورية إيلاءها الأولوية القصوى اليوم؟
الدكتور عبد الرحمن الحاج، أستاذ جامعي سوري
تحتاج المعارضة الآن وبعد كل ما حدث إلى ثلاثة أمور:
أولها: تعزيز تمثيل السوريين وتعديل هياكلها لتناسب الوضع الراهن من الوجود السوري في أنحاء العالم وفي الشمال السوري، وإعادة تجميع شخصيات المعارضة التي تتمتع بسمعة طيبة بين السوريين وخرجت من هياكلها لأسباب تتعلق بالصراع الداخلي للمعارضة والاستقواء بالدول أو بسبب الخلافات السياسية العميقة بشأن التعاطي مع المسار السياسي الأممي أو الأستاني.
الثاني: مد جذورها إلى المجتمع السوري والعمل على الارتباط بالأرض، لا يكفي الوجود الفيزيائي على أهميته الشديدة، يجب أن يشعر الناس أن المعارضة جزء منهم، وهذا يحتاج إلى تفاعل يومي ومساعدة السوريين في الداخل بتنظيم أنفسهم وتوفير ما يمكن من الإمكانات على قلتها لخدمتهم.
الثالث: الاستقلال، بعد كل هذه السنوات صارت المعارضة الممزقة رهينة إرادة دول، هذا مؤسف ومحزن، يجب أن لا يكون الوضع على هذا النحو، يجب أن تحرص المعارضة على المسافة من حلفائها التي تسمح لها بالاستقلال، لا يجب أن تقبل أن التدخل بشؤونها الداخلية مثلًا، لا يجب أن يتكرر رياض 2 ولا أن يكون لأي طرف دور في تحديد تمثيل أطراف المعارضة كما حصل سابقًا، ولا القبول بلعب دور لصالح دول على حساب المصلحة الوطنية البينة، يجب السعي لذلك وإن اقتضى أن يتغير مكان المعارضة إلى بقعة أخرى في العالم.
كما تحتاج المعارضة إلى حلفائها يحتاج حلفاؤها لها، ويجب أن يتحقق الحد الأدنى من هذا الاستقلال لأن هذا الشيء الوحيد الذي يضمن حد أدنى من مصالح السوريين عند أي اتفاق.
معن طلاع، مدير البحوث في مركز عمران للدراسات الإستراتيجية
لا يمكن للمعارضة السورية المضي بذات الأدوات والإستراتيجيات بعد عقد من الزمن على انطلاق ثورة العز والكرامة في مارس/آذار 2011، فالتحولات الكبرى التي شهدتها الجغرافية السورية عسكريًا وسياسيًا وأمنيًا واجتماعيًا تفرض نفسها على سيناريوهات المشهد السوري بشكل عام، فبعد أن تحقق الشرط الأمني للدول المنخرطة في المشهد عامة وعدم جهوزيتها للتلاقي السياسي فإن المشهد بات واضحًا أنه يسير نحو سيناريو التجميد “تمترس الجغرافية”.
واتساقًا مع ذلك، وفي سبيل توسيع هوامش الحركة الوطنية ينبغي على المعارضة الرسمية وغير الرسمية المضي باتجاه إستراتيجيتان متلازمتان:
أولهما: الاستجابة لمتطلبات الاستقرار والتعافي في المناطق المحررة الذي يتطلب حوكمة رشيدة تستطيع نقل فكرة الإدارة المحلية إلى حكم محلي، بمعنى أن يتم وضع إطار ينظم التفاعلات الإدارية والأمنية والخدمية ويوضح العلاقة بين الفواعل المختلفة، ويشمل ذلك بكل تأكيد حوكمة القطاع الأمني وما يستلزمه من تنسيق وإجراءات موحدة ولحظ لأدوار مدنية في سياق مواجهة التحديات الأمنية، حوكمة تجعل القوى الثورية تسير قدمًا في إستراتيجية البناء والنماء.
بالتأكيد هو فعل يعتريه العديد من الصعوبات، لذلك فالبدء بملفات صغرى وتراكم النجاح فيه سيكون له أثر دافع باتجاه الوصول لنمط حكم فعال، ومن تلك الملفات ملف التعافي الاقتصادي المبكر الذي يتطلب فهمًا متكاملًا لخريطة الاحتياجات والأولويات، وكذلك الملف الأمني وضرورة ضبط المعابر عبر توحيد الإجراءات وزيادة وتيرة الأعمال التنسيقية.
لا يشكل أعلاه دفعًا باتجاه تعزيز الانقسام الحاصل بقدر ما يعني خلق وعاء لامركزي نوعي يبقي على الدولة ويحميها من الدخول في أتون الضياع المستدام، خاصة إذا ترافق مع الإستراتيجية الثانية التي تتعلق بالإدراك الوطني لأهمية الحفاظ على الحامل الاجتماعي في عموم سوريا باعتباره الحامل الأساسي للبناء وإعادة الإعمار وإعادة التجسير بين المناطق، وعدم تحويل الانقسامات الحاصلة لتصل إلى الانقسام المجتمعي الحاد، وهذا يتطلب إستراتيجية تجسير العلاقات والتفاعلات المجتمعية بين الحدود الأمنية والإدارية المتشكلة والمحاولة لوصول وثائق حول الحكم وإدارة التنوع، وبذلك تكون المعارضة حريصة على إنتاج عقد اجتماعي غاب الحديث عنه منذ حكم البعث على أقل تقدير.
قتيبة إدلبي، ممثل الائتلاف الوطني السوري لدى واشنطن
منذ مارس/آذار 2011، وفي غياب آليات اختيار ديمقراطي واضحة، صوت السوريون بأقدامهم للمعارضة السورية حين اختاروا أن ينزحوا بعيدًا عن سيطرة نظام الأسد واختاروا الحرية مع الموت والتشرد والجوع على عيش العبودية في ظل هذا النظام. هذا التصويت القهري فرض على المعارضة السورية واجب بناء نموذج الحكم الذي نادى به السوريون خلال عشر سنوات.
اليوم، ومع الثبات الجزئي للوضع الميداني نتيجة خروج أي قرار عسكري من أيدي السوريين، ومع غياب آفاق الانتقال السياسي وفق حل أممي نتيجة غياب النوايا الحسنة للوصول إلى حل من طرف نظام الأسد وداعميه، بات الحديث عن حل للوضع السوري برمته مضيعة للوقت، وتهربًا من مسؤوليات تراكمت خلال عشر سنوات.
اليوم، لم يعد أمام المعارضة إلا العودة لمهمتها الأصلية في أن تجسد للسوريين عمليًا نموذجها عن العيش بحرية، وعن البديل الذي تود من السوريين أن يستمروا بتضحياتهم وتضحيات أجيال من أبنائهم من أجله. لا يحتاج هذا الحل وهذا النموذج كامل الأرض السورية، بل يكفيه ما تبقى من مساحات للحرية من هذا النظام في مناطق الشمال السوري.
إن بناء هذا البديل ليس مسؤولية متأخرة فحسب، بل الطريق الوحيد للوصول إلى حل سياسي أممي وفق القرار 2254، فبناء هذا البديل وما يتبعه من بناء شرعية محلية للمعارضة السورية بين جمهورها من السوريين، وتأكيد للنظام بأننا لن نجلس مكتوفي الأيدي بانتظار تنازله عن استعباد البلاد والعباد، سيزيد من شرعية المعارضة السورية أمام الأطراف الدولية وهو ما قد يفتح الباب أمام الاستثمار في هذه المناطق كبديل وحيد لملايين من السوريين المهجرين عن بيوتهم.
حينها فقط، تغدو شرعية النظام كرأس للدولة السورية فارغة من مضمونها، ويغدو داعمو نظام الأسد في طهران وموسكو تحت ضغط حقيقي للتنازل والوصول إلى حل يعيدهم إلى الطاولة، حتى إن لم يتحقق ذلك، نكون قد انتصرنا بحق بأن قدمنا بديلًا للسوريين للعيش بحرية وكرامة وضمان مستقبل أجيال من السوريين حتى نصل يومًا إلى الحل المأمول.
الدكتورة ريم تركماني، أكاديمية وسياسية
عندما يتم الحديث عن المعارضة السورية فإن الأذهان تتجه نحو أجسام مثل الائتلاف وهيئة التفاوض. برأيي أن الخطوة الأهم التي يجب القيام بها لإصلاح وضع المعارضة هي نسيان أمر هذه الكيانات التي أنشأت تلبيةً لحاجة خارجية أكثر منها داخلية، والبدء بالتأسيس لأحزاب وكيانات سياسية حقيقية من صلب المجتمع وقادرة على التعبير عن متطلباته ورؤاه على تنوعها.
العمل السياسي الحقيقي يكون من داخل المجتمع ويبنى من الأسفل إلى الأعلى وليس العكس. قد يأتي من يقول إنه لا وقت لدينا لتشكيل الأحزاب وتنميتها وأن اللحظة تتطلب جسمًا مًعينًا (لا أدري من قبل من بالحقيقة) يمثل الرؤية المعارضة مقابل النظام في المحافل الدولية. ها هي عشر سنوات قد مرت، فهل انتهت لحظة الطوارئ السياسية تلك التي تقتضي تعطيل أي عمل سياسي على الأرض؟ ومن يستغل هذا الفراغ السياسي؟ التنظيمات المتطرفة والنظام.
هل شجعت المعارضة المعترف بها دوليًا تشكيل الأحزاب؟ (لا!) بل شيطنت العمل السياسي بأعين الشباب وأقنعتهم أن مهمتهم هي التظاهر والقتال والعمل الإنساني، فيما يتنقلون هم بين العواصم لتمثيلهم. أتمنى أن لا نضيع عشر سنوات أخرى بهذه الطريقة.
تلخيصًا.. اقترح اثنان من الخبراء العمل على بناء نموذج حكم محلي في المناطق المحررة، شمال سوريا، كما اقترح خبيران على المعارضة مد جذورها مع المجتمع السوري في الداخل والشتات ومساعدته على تنظيم نفسه، وصيانة الحامل الاجتماعي من الانقسام الحاد، وتحدث خبير عن ضرورة رأب الصدع داخل مؤسسات المعارضة، فيما اقترحت خبيرة تجاوز مؤسسات المعارضة الحاليّة إلى تأسيس أحزاب وكيانات أكثر تعبيرًا عن متطلبات المجتمع.
كما نرى، هناك الكثير من الأفكار الجديرة بالبدء بها الآن، لكن ما قيمة الأفكار إن لم تصبح واقعًا؟