قرابة خمسة أشهر مضت على تكليف سعد الحريري بتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة دون جدوى، فالرجل الواقع بين ضغوط المجتمع الدولي من ناحية وضغوط القوى المحلية الداخلية من ناحية ثانية، لا سيما حزب الله، لم يستطع بعد أن يصل إلى توليفة تمكنه من تشكيل الحكومة، إذ إن لكل طرف داخلي أو خارجي حساباته الخاصة ومشاريعه الذاتية، وهو ما أعاق بالفعل عملية التشكيل.
فالغرب، ومن خلال البنك الدولي، وضع شروطًا قاسيةً وصعبةً على لبنان من أجل منحه مساعدات أو قروضًا ماليةً ميسرةً، ومن هذه الشروط إجراء إصلاحات سياسية وقانونية وإدارية وصولًا إلى ما يمكن تسميته بوضع اليد على البلد، بينما ترفض بعض الدول النافذة إقليميًا ودوليًا أن يتمثل حزب الله في الحكومة.
وفي الجهة الأخرى يريد حزب الله أن يحافظ على دوره وحضوره في الحكومة، وفي الحياة السياسية اللبنانية أيضًا، بينما يريد رئيس الجمهورية ميشال عون، الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من المكتسبات والمواقع في الدولة، فيما يريد الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة سعد الحريري، بدوره استعادة الهيبة التي كانت لرئاسة الحكومة أيام والده المغدور رفيق الحريري.
لقد أدى انسداد أفق الحل السياسي بسبب هذه المواقف من معظم الأطراف إلى مفاقمة الوضع الاقتصادي الذي كان يعاني أساسًا من أزمات بسبب السياسات المالية التي كانت متبعة وراكمت كمًا وحجمًا كبيرًا من الديون على لبنان وصل إلى أكثر من مئة مليار دولار تقريبًا، وجاء الوضع الصحي بسبب تفشي جائحة كورونا في لبنان بشكل غير مسبوق ليزيد من حجم الأعباء والضغوط على اللبنانيين حتى بلغ الوضع حدًا يهدد بالانهيار الشامل.
انهيار غير مسبوق لليرة اللبنانية
لقد شهدت الأيام الأخيرة انهيارًا مريعًا لليرة اللبنانية أمام العملات الأجنبية الأخرى، وبلغ سعر صرف الدولار الأمريكي في العاصمة بيروت مساء يوم الثلاثاء 16 من مارس/آذار 2021 خمسة عشر ألف ليرة (15000 ل.ل) لأول مرة في تاريخ لبنان، ما دفع أصحاب المتاجر الكبرى وحتى الصغرى إلى إغلاق متاجرهم والامتناع عن بيع السلع المتوافرة لديهم خوفًا من عدم قدرتهم على شرائها مرة أخرى، فسعر صرف الدولار قفز خلال أيام قليلة من العشرة آلاف ليرة إلى خمسة عشر ألف.
كما أن محطات الوقود امتنعت عن تزويد السيارات والآليات بالوقود، وأعلنت الشركات الموزعة للمحروقات أنها غير مستعدة لتحمل الخسائر جراء فرق سعر الدولار بين سعر بيع المحروقات وسعر شرائه، وقد تعللت بهذا السبب وقررت زيادة مبلغ أربعة آلاف ليرة لبنانية على سعر كل صفيحة بنزين ليصل سعر الصفيحة في لبنان لأول مرة أيضًا إلى 40 ألف ليرة.
وقد انعكس ذلك على أسعار كل السلع ومختلف الأصناف لأن زيادة سعر المحروقات طالت أيضًا مادة المازوت، ومن المتوقع أن ينعكس ذلك أيضًا على كلفة الكهرباء التي تزود المولدات الخاصة المنازل بها بسبب الانقطاع المزمن للتيار الكهربائي، ويجري كل ذلك في وقت وصل الحد الأدنى للأجور إلى ما يعادل 50 دولارًا.
الأزمة في لبنان اليوم بلغت مستويات غير معهودة من قبل، والتحذيرات من انهيار الوضع الاقتصادي في البلد تزداد
وعن سبب هذا الانهيار المفاجئ لليرة في مقابل العملات الأجنبية وخاصة الدولار، يرى البعض أن الأسباب اقتصادية بسبب السياسات وغياب الحلول الجذرية والجدية للأزمة، بينما يرى البعض الآخر أنها تعود في جوهرها إلى أسباب سياسية تدخل في إطار الحسابات السياسية والضغط والضغط المقابل للدفع باتجاه إرغام الخصم المقابل على تقديم تنازلات.
يحذر المحلل السياسي والاقتصادي الدكتور محمد موسى من أن الدولار في لبنان قد لا يكون له سقف في المستقبل لغياب الحلول الاقتصادية وعدم رغبة السياسيين في إيجاد الحلول لذلك، مشيرًا إلى فقدان الليرة اللبنانية نحو 90% من قيمتها، وإلى مؤشرات تضخم هائلة تفوق 450%، كما حذر من أن الحالة الاقتصادية قد تتجه إلى الأسوأ في ظل غياب الاهتمام الدولي وعدم رغبة دول الجوار بإحداث خرق ما في جدار الأزمة اللبنانية وفشل المبادرة الفرنسية، وصولًا إلى تحلل الدولة.
غياب التحرك الشعبي وانكفاء الثوار
في مقابل هذا الوضع الذي ينذر بالانهيار الشامل إذا لم يتم تدارك الأمور من خلال تشكيل حكومة بشكل سريع تكون مفتاحًا للحل السياسي وبالتالي الاقتصادي والاجتماعي، فإنه يُسجل غياب أي تحرك شعبي جدي وحقيقي تعبيرًا عن رفض هذه الحالة المأساوية التي بلغها الوضع في لبنان، ما خلا بعض المحتجين الذين يلجأون إلى قطع بعض الطرقات في محيط العاصمة وفي بعض المناطق اللبنانية، وهم يتحركون بخلفيات وأجندات سياسية وحزبية يعلمها معظم اللبنانيين، حتى إنها باتت محل استنكار منهم لأنها باتت تعطل حياة الناس ولا تشكل أي مادة ضاغطة على الطبقة السياسية المسؤولة عن أزمة البلد.
وعن أسباب عدم اكتراث أو تحرك الشعب اللبناني بشكل كبير وجدي وحقيقي لمواجهة الوضع المأساوي الذي بلغه البلد يرى أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية ببيروت، البروفسور ساري حنفي أن المسألة تعود من الناحية الاجتماعية إلى أمرين: خوف الناس وقلقهم إلى الآن من جائحة كورونا وتفشيها في لبنان، والثورة المضادة القوية التي استهدفت قبل نحو عام ونصف ثوار 17 من أكتوبر/تشرين الأول.
مستذكرًا الهجوم الذي تعرض له المتظاهرون في ساحة الشهداء وساحة رياض الصلح وسقط فيه عدد من الجرحى، في حين فشلت القوى الأمنية في حماية المتظاهرين، وأشار حنفي إلى خوف الناس من هذه الظاهرة لأن النظام الطائفي في لبنان خلق نوعًا من الخوف من التغيير وهو ما أوجده زعماء الطوائف عند اتباعهم.
إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإنه سيصل إلى حد انهيار البلد وتفكك الكيان
من جهته يرى الدكتور محمد موسى أن أقصى طموح بات يعيشه اللبناني اليوم هو الحصول على لقمة عيش أو على حبة دواء، مشيرًا إلى أن اللبنانيين باتوا منقسمين إلى ثلاث مجموعات حيال ما يجري: واحدة منكفئة وهي خارج منظومة أخذ القرار، وأخرى تنتمي إلى المجموعات الحزبية وهي جزء من أخذ القرار ولن تثور على السلطة التي هي جزء منها، ومجموعة ثالثة باتت محملة بخيبات الأمل لأنها باتت تدرك أن أي تحرك لم يعد ذا جدوى، يرى أن المطلوب من أجل التغيير والخروج من الأزمة تحرك كبير يشبه التحركات الكبرى التي حصلت عام 2005 وأدت إلى خروج النظام السوري من لبنان، لأن الطبقة السياسية متمكنة ومتمسكة بالحكم.
الأزمة في لبنان اليوم بلغت مستويات غير معهودة من قبل والتحذيرات من انهيار الوضع الاقتصادي في البلد تزداد، كان آخرها من وزارة الخارجية الأمريكية التي رأت أن هناك من ضرب المصرف المركزي اللبناني، وهناك من يريد أن يضرب الجيش اللبناني وقالت إنها لن تسمح بذلك.
كما سبقها قبل فترة تحذيرات فرنسية من أن الوضع إذا استمر على ما هو عليه، فإنه سيصل إلى حد انهيار البلد وتفكك الكيان، وهنا يطرح البعض أسئلة مشروعة عن نوايا بعض الأطراف الداخلية والخارجية في إسقاط الهيكل من أجل إعادة بناء البلد والنظام السياسي فيه من جديد وفقًا لحسابات جديدة تأخذ بالاعتبار مصالح القوى المتنافسة أو المتصارعة!