سافر الرئيس التونسي فجأة إلى ليبيا وعاد، من الأفضل لو تكون هذه الجملة وحدها هي كل المقالة، فليس داخل الزيارة أمر نتوسع في تحليله ليصاغ تحت عنوان مثل: نتائج زيارة الرئيس إلى طرابلس أو آفاق الزيارة أو عنوان مشابه يمكن التوسع تحته في قراءة إستراتيجية.
لقد قفز الرجل فجأة إلى طائرة وألقى خطابًا مرتجلًا وعاد، آه هناك مقالة كامنة من لم ير في الزيارة الرئاسية حدثًا مهمًا يصنف ضمن أجندة حركة النهضة التي تعادي الرئيس، وهذا أمر يروجه زبانية الرئيس الخارجون من كهوف القمع الذين يفكرون حسب منهج جورج بوش الصهيوني: إن لم تكن معهم فأنت بالضرورة ضدهم ويجب وصمك لقطع حقك في الكلام.
كذبة التخطيط المسبق للزيارة
عندما أعلنت صفحة الرئيس على الفيسبوك خبر الزيارة، راج بالتوازي خبر آخر مفاده أن رئيس الحكومة كان يخطط لزيارة مماثلة وقد حدد موعدها في الأسبوع القادم (الأخير من شهر مارس/آذار)، لم آخذ الخبر الثاني مأخذ الجد وحسبته في المناكفة السياسية بين الحكومة والرئيس، لكن عندما تحدث الرئيس عن إعداد قديم لزيارته أعطى مصداقية للخبر الثاني.
القول إن الزيارة مخطط لها من قديم كذبة سافرة كشفت الارتجال وسوء النية وغياب الخطة لبناء مستقبل مشترك على نتائج الثورتين
مع من خطط الرئيس زيارته منذ زمن إذا كانت الإدارة الليبية الحاليّة لم تتسلم إلا منذ أيام قليلة؟ لقد كانت مظاهر الارتباك ظاهرة في الاستقبال الليبي، ومن الواضح أن الزيارة فاجأتهم فكان الاستعداد سريعًا وربما كانت المفاجأة الأكبر أن الرئيس لم يعرض شيئًا يمكن التداول بشأنه، والجمل الإنشائية التي ارتجلها لم تقدم خريطة طريق سياسية لعمل مشترك يجمع البلدين المحتاجين فعلًا إلى التعاون، بل لعل جملته عن نهاية المشاكل بين البلدين تكشف للمضيف أن الضيف لا يعرف تاريخ البلدين، فالمشاكل القديمة كانت زمن القذافي وبورقيبة، وقد انتهت بالثورتين اللتين كشفتا أن الخلافات كانت صناعة سياسية يتسلى بها الزعماء في أوقات فراغهم.
القول إن الزيارة مخطط لها من قديم كذبة سافرة كشفت الارتجال وسوء النية وغياب الخطة لبناء مستقبل مشترك على نتائج الثورتين اللتين غيرتا مستقبل الشعبين وأفسحتا مجالًا للحديث عن البناء المشترك للديمقراطية.
بقي التأويل الوحيد لجملة (نهاية المشاكل) هو تخلي الرئيس أخيرًا عن فكرة الاعتماد على شيوخ قبائل ليبيا (وهو جسم غريب لا يعرف أحد حجمه على الأرض) لبناء ديمقراطية قبلية في ليبيا، لقد كانت المشاكل في رأس الرئيس وقد سافر ليمسحها بممحاة، ولا ندري هل قبلت الإدارة الليبية ذلك منه فلم يصغ حديثه بلغة معتذرة، أما لماذا يحتاج أن يبدد سوء الفهم الذي خلقه هناك بمواقف سابقة فاعتقد أنه يحاول إرسال رسالة خارج تونس، لكن ليس إلى حكومة ليبيا بل لجهات أخرى تنظر بعين الرضا إلى الإدارة الليبية الجديدة وتفرض التعاون معها، إنها جملة إعلان توبة عن فانتزم سياسي قديم تبين أنه مفارق للواقع.
استباق الحكومة لقطع الطريق
ملنا إلى تصديق الخبر القائل إن الرئيس استبق رئيس الحكومة وفريقه (وحزامه البرلماني) نحو ليبيا للسبب المذكور أعلاه، وإن ذلك كان بإملاء من جهة ما أو لترضية جهة ما، والأمران لا يختلفان في النتيجة (دعنا من شبهة تجسس الرئيس على الحكومة أو شبهة إخفاء الحكومة لبرنامج تحركها على الرئيس ضمن القطيعة العميقة بينهما).
هناك أولًا مبادرة شعبية قام بها فئة من رجال الأعمال بصفاقس (ونحن في تونس نسمي صفاقس يابان إفريقيا) وقد كشفت أن هناك حاجة شعبية لبناء مشترك جديد مع ليبيا الثورة والديمقراطية ومن شأن هذه المبادرة أن تستبق الحكومات وتتركها في فراغ مدمر.
حكومة عاجزة وشعب مبادر، هذه صورة لا يمكن لحكومة بعدها أن تحكم البلد، ولا يمكن لرئيس أن يتحدث عن قيادته لشعبه، في بعض معاني الزيارة غير المرتبة محاولة استعادة المبادرة قبل أن يشعر الجميع بعدم الحاجة إلى حاكم يرتب لهم المستقبل.
كل مكسب مادي في ليبيا للأفراد والشركات هو مكسب سياسي في تونس لمن فتح الطريق
وهناك ثانيًا، لكن بأهمية أكبر استباق للحكومة وحزامها السياسي وخاصة لحزب النهضة، فليس خافيًا على أحد العلاقة المتميزة التي بناها راشد الغنوشي مع الإدارة الليبية الجديدة منذ الثورة، ليس فقط مع الشق الإخواني من الثورة الليبية (ولا علم لي حقيقة بحجمه على الأرض ولا ثقله السياسي في الحكومة الحاليّة الانتقالية)، فالغنوشي وحزبه كانوا مع الشرعية في طرابلس وموقفهم معلن من خليفة حفتر ومسانديه (الإمارات ومصر) وعندما ينهزم حفتر وتصالح مصر ليبيا وتسحب الإمارات مرتزقتها يظهر الغنوشي في صف الفائزين والقادرين على التأثير في بناء مستقبل العلاقة مع ليبيا الجديدة وهذا يفيده هناك، لكن يفيده في تونس أكثر، وعندما يسافر رئيس الحكومة إلى ليبيا فلا شك أن الغنوشي يكون قد فتح له الطريق بأسلوبه، ويمكنه أن يجني فائدة لحكومته في ليبيا تقوي موقعه في تونس.
نذكر هنا أن الرئيس كان يبحث عن موقف محايد من أطراف النزاع في ليبيا في الظاهر، لكن كل حزامه السياسي من اليسار المتحول وحركة الشعب كانت لهم مواقف معلنة مع حفتر وهجومه على طرابلس اعتبر فتحًا، وهو يحمل وزر مواقف حزامه شاء أم أبى وهو الآن في صف المهزومين في ليبيا.
الاستباق كان محاولة إصلاح الموقف السابق ومحاولة لتقليل مكاسب رئيس الحكومة وحزامه (الغنوشي) قبل أن يشعر الشعب العاطل المنتظر لفرصة في ليبيا أن المشيشي والغنوشي فتحا له الطريق، فكل مكسب مادي هناك (للأفراد والشركات) هو مكسب سياسي في تونس لمن فتح الطريق.
الليبيون لهم رأيهم أيضًا
لقد شعر الليبيون بأن هناك معركة سياسية في تونس، وأن الزيارة غير المرتبة بدقة جزء من هذه المعركة، لذلك رسموا حدودًا واضحةً للرئيس: لا تصدر لنا معركتك نحن على مسافة واحدة من الجميع، وربما يقولون شيئًا مماثلًا لرئيس الحكومة لو شعروا منه بما يفيد توظيف الإمكانات الليبية في معركة تونسية.
لكن لا نظنهم يجهلون الدستور التونسي وتوزيعه للسلطات الفعلية على الأرض، لذلك فإن حديث الاقتصاد العملي يصير ممكنًا مع رئيس حكومة بصلاحيات فعلية، وهم على يقين الآن أن زيارة الرئيس – وإن طيبت بعض الخواطر أو مسحت بعض سوء التفاهم معه ومع حزامه المهزوم مع حفتر – والحديث الناتج عنها سيكون مع السلطة التنفيذية الحقيقية بقطع النظر عما تعانيه في الداخل من أزمات.
وهم في موضع من يقدم هدايا سياسية بأرقام اقتصادية لشريك يحتاجها ويصبح حديث الوقوف على مسافة واحدة من الجميع رسالة للرئيس وحده، وترجمتها لست في موقع يفيدنا في ليبيا، لذلك لا نحتاج أن نفيدك في تونس، وربما يرسلون له جملة جاءت على لسانه صدفة وظهرت غريبة في سياقها ولحظتها: “مستقبلك السياسي قد مضى في طرابلس”، وقد يضيفون نحن من نحدد اتجاه المضي ورفقة الطريق.